الدولة الإسلامية
سلسلة علمية في بيان مسائل منهجية (6-6)
• الْحَلَقَةُ السادسة
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إمام الأولين والآخرين، أما بعد:
• فهذه الحلقة سنتناول الحديث فيها بإذن الله تعالى عن مبحثين:
المبحث الأول: عن الديار وأحكامها.
والمبحث الثاني: عن الهجرة وأحكامها.
• وسنتناول في مبحث الديار مسائل:
الأولى: معنى الدار، وانقسام العالم إلى دارين.
والثانيةُ: تعريف دار الإسلام، ودار الكفر.
والمسألةُ الثالثة: علة الحكم على الدار بالإسلام أو الكفر.
والرابعةُ: أقسام دار الكفر.
• وسنتناول في مبحث الهجرة مسائل:
الأولى: حكم الهجرة.
والثانيةُ: حكم تركِ الهجرة.
والثالثةُ: أحوال المقيمينَ في دار الكفر.
ونشرعُ الآن في المبحث الأول المتعلقِ بأحكامِ الديار:
المسألةُ الأولى من المبحث الأول:
معنى الدار، وانقسام العالم إلى دارين؛ ومعنى الدار اصطلاحًا:
اصطلح العلماءُ من السلف والخلف على تقسيم العالم إلى دارين؛ دارِ إسلامٍ ودارِ كفرٍ، وهذا التقسيم تقسيم أصيل مبنيٌّ على كتاب اللهِ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن كتاب الله قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ} [الحشر : 9].
قال الإمام ابنُ كثيرٍ رحمه الله: "أي سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم"، انتهى كلامه.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّـهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء : 97].
والهجرة إذا أُطْلِقت في الكتاب والسنة، فهي تعني الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام.
أما من السنة فقد جاء تقسيم الديار في عدةِ أحاديث: فمن ذلك ما جاء في الحديث الذي رواه مسلمٌ عن بُريدةَ بن الحصيب -رضي الله عنه- مرفوعًا: (ثُمَّ ادعُهم إلى الإسلامِ، فإن أجابوكَ فاقبَل منْهم وكُفَّ عنهُم، ثمَّ ادعُهم إلى التَّحوُّلِ مِن دارِهم إلى دارِ الـمُهاجرينَ، وأخبرهم أنَّهم إن فعلوا ذلِكَ فَلَهم ما للمُهاجرينَ، وعَلَيهِم مَا علَى الـمُهاجرينَ).
وأخرج النسائي -رحمه الله- بإسناد صحيح، عن جابر بن زيد -رضي الله عنه- قال: قال ابن عباس -رضي الله عنهما- إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ وعمرَ كانوا من المهاجرين، لأنهم هجروا المشركين، وكان من الأنصار مهاجرون، لأن المدينة كانت دارَ شركٍ، فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة.
المسألة الثانية من مبحث الديار: تعريف دارِ الإسلامِ ودارِ الكفر.
دارُ الإسلامِ: هي كل بلدةٍ أو بقعةِ تعلوها أحكام الإسلام، والغلبةُ والقوةُ والكلمةُ فيها للمسلمين، وإن كان أكثرُ سُكانِ هذه الدار من الكافرين.
أما دارُ الكفر: فهي كل بلدٍ أو بقعةٍ تعلوها أحكامُ الكفر، والغلبةُ والقوةُ والكلمةُ فيها للكافرين، وإن كانَ أكثرُ سُكانِ هذه الدار من المسلمين.
قال الإمام ابن القيّمِ رحمه الله: "دارُ الإسلام هي التي نزلها المسلمون، وجرتْ عليها أحكامُ الإسلام، وما لم تجرِ عليه أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام، وإن لاصقها، فهذه الطائفُ قريبةٌ إلى مكةَ جدًا، ولم تَصرْ دار إسلام بفتح مكة، وكذلك الساحل"، انتهى كلامه.
وقال ابن مفلح رحمه الله: "فصلٌ في تحقيق دارِ الإسلامِ ودارِ الحرب؛ فكل دارِ غلب عليها أحكامُ المسلمين فدارُ الإسلام، وإن غلبَ عليها أحكام الكفار فدارُ الكفر، ولا دارَ لغيرهما"، انتهى كلامه.
المسألة الثالثة:
علة الحكم على الدار بالإسلام أو الكفر.
باستقراء كلام العلماء يتبين أنهم يذكرون سببين للحكم على الدار:
الأول: القوةُ والغلبة.
الثاني: نوع الأحكام المطبقةِ فيها.
قال ابن حزمٍ رحمه الله: "وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسلِمٍ أَقَامَ بَينَ أَظهُرِ المُشرِكِينَ)، يبين ما قلناه، وأنه عليه السلام إنما عنى بذلك دار الحرب، وإلا فقد استعمل عليه السلام عُمّاله على خيبر، وهم كلهم يهود، وإذا كان أهل الذمة في مدائنهم لا يمازجهم غيرهم، فلا يسمى الساكن فيهم لإمارة عليهم، أو لتجارة بينهم كافرًا، ولا مسيئًا، بل هم مسلم حسنٌ، ودارهم دار إسلام لا دار شرك، لأن الدارَ إنما تنسب للغالب عليها، والحاكم فيها، والمالك لها"، انتهى كلامه.وعن أبي يوسف، ومحمد بن الحسن -رحمهما الله تعالى-: "إذا أظهروا أحكام الشرك فيها، فقد صارت دارهم دار حرب، لأن البقعة إنما تنسب إلينا أو إليهم باعتبار القوة والغلبة، فكل موضع ظهر فيه حكم الشرك، فالقوة في ذلك الموضع للمشركين، فكانت دار حرب، وكل موضع كان الظاهر فيه حكم الإسلام، فالقوة فيه للمسلمين"، انتهى كلامهما.
وقال الشوكاني رحمه الله: "الاعتبار في الدار بظهور الكلمة، فإن كانت الأوامر والنواهي في الدار لأهل الإسلام، بحيث لا يستطيع من فيها من الكفار أن يتظاهر بكفره، إلا لكونه مأذونًا له بذلك من أهل الاسلام، فهذه دار إسلام، ولا يضرّ ظهور الخصال الكفرية فيها، لأنّها لم تظهر بقوة الكفار ولا بصولتهم، كما هو مشاهد في أهل الذمة من اليهود والنصارى، والمعاهِدين الساكنين في المدائن الإسلامية، وإذا كان الأمر بالعكس فالدار بالعكس"، انتهى كلامه.
المسألة الرابعة: أقسام دار الكفر.
تنقسم ديار الكفر من جهة كون الكفر فيها قديمًا أو طارئًا إلى قسمين:
القسم الأول؛ دار الكفر الأصلي: وهي التي لم تكن دار إسلام في وقت من الأوقات.
والثاني؛ دار الكفر الطارئ: وهي التي كانت دار إسلام في وقت من الأوقات، ثم استولى عليها الكفار، أو ارتد الحاكمون لها، أو ارتد أهلها وجرت فيهم أحكام الكفر.
فصفة الدار ليست من الصفات اللازمة المؤبدة، بل هي من الصفات العارضة المتغيرة، بمعنى: أن الدار قد تتغير من صفة إلى أخرى، فقد تكون الدار دار كفر في وقت ما، ثم تصير دار إسلام، وقد تكون دار إسلام ثم تصبح دار كفر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن كون الأرض دار كفر، أو دار إسلام أو إيمان، أو دار سلم أو حرب، أو دار طاعة أو معصية، أو دار المؤمنين أو الفاسقين، أوصاف عارضة لا لازمة، فقد تنتقل من وصف إلى وصف، كما ينتقل الرجل بنفسه من الكفر إلى الإيمان والعلم، وكذلك بالعكس"، انتهى كلامه رحمه الله.
• وهنا تنبيه مهم
أنه لا يلزم من الحكم على الدار بأنها دار كفر، أصليةٍ كانت أو طارئة، الحكم على من كان فيها من المسلمين بأنه كافر، بل هذه مقالة الغلاة، ومسلك من مسالك الخوارج.
فقد ذكر الأشعري -رحمه الله- هذا القول عن إحدى فرق الخوارج، فقال: "زعمت الأزارقة أن من أقام في دار الكفر فهو كافر، لا يسعه إلا الخروج"، انتهى كلامه.
وذكر عن الخوارج "البيهسية والعوفية" أنهم قالوا: "إذا كفر الإمام فقد كفرت الرعية، الغائب منهم والشاهد"، انتهى كلامه.
وذلك لأن الأصل هو بقاء المسلم على إسلامه فوق كل أرض، وتحت كل سماء، ما لم يرتكب ناقضًا من نواقض الإسلام، وما ثبت بيقين لا يزول بالشك.
قال الإمام الشوكاني رحمه الله: "اعلم أن التعرض لذكر دار الإسلام ودار الكفر، قليل الفائدة جدًا -أي في الحكم على قاطنيها- لما قدمنا لك في الكلام على دار الحرب، وأن الكافر الحربي مباح الدم والمال على كل حال، ما لم يؤمَّن من المسلمين، وأن مال المسلم ودمه معصومان بعصمة الإسلام، في دار الحرب وغيرها"، انتهى كلامه.
والتحقيق أن يقال:
إن حكم السكان في دار الكفر الطارئ، أو القول بأن الأصل فيهم الإسلام أو الكفر، أو حكمَ مجهول الحال منهم، يختلف باختلاف الأحوال، وكلها أحكامٌ فقهية مردها إلى فتوى العلماء، ولذلك اختلفت أقوالهم باختلاف أحوال الساكنين في تلك الديار.
وإليك بعضَ الأمثلة على ذلك:
المثال الأول: فتوى شيخ الإسلام -رحمه الله- في أهل (مَاردِين).
وهي دار إسلام كانت قد استولى عليها التتار، فعلتها أحكامُ الكفر.
سُئل -رحمه الله- عن بلد (مَاردِين) هل هي بلد حرب أم بلد سلم، وهل يجب على المسلم المقيم بها الهجرة إلى بلاد الإسلام أم لا، وإذا وجبت عليه الهجرة ولم يهاجر، وساعد أعداء المسلمين بنفسه أو ماله، هل يأثم في ذلك؟ وهل يأثم من رماه بالنفاق، وسبَّه به أم لا؟
فأجاب: الحمد لله؛ دماء المسلمين وأموالهم محرمة حيث كانوا في مَاردِين أو غيرها، وإعانة الخارجين عن شريعة دين الإسلام محرمة سواء كانوا أهل ماردين أو غيرهم، والمقيم بها إن كان عاجزًا عن إقامة دينه وجبت الهجرة عليه، وإلا استحبت ولم تجب.
ومساعدتهم لعدو المسلمين بالأنفس والأموال مُحرّمة عليهم، ويجب عليهم الامتناع من ذلك بأي طريق أمكنهم، من تغيّب أو تعريض أو مصانعة، فإذا لم يمكن إلا بالهجرة تعينت.
ولا يحل سبهم عمومًا ورميهم بالنفاق، بل السب والرمي بالنفاق يقع على الصفات المذكورة في الكتاب والسنة، فيدخل فيها بعض أهل مَارِدِين وغيرهم.
وأما كونها دار حرب أو سلم فهي مركبة، فيها المعنيان؛ ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، بل هي قسم ثالث: يُعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويُقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه"، انتهى كلامه رحمه الله.فانظر كيف حكم على السكان بأنه لا يحل سبهم عمومًا ورميهم بالنفاق، ولا أنهم كفار كأهل دار الحرب، مع أنه حكم على جندها بأنهم غير مسلمين، وكل ذلك في مَاردِين، وهي دار كفر طارئ.
المثال الثاني: فتوى حمد بن عتيق -رحمه الله- في أهل الأحساء.
قال: "ومن له مشاركة في ما قرره المحققون قد اطلع على أن البلد إذا ظهر فيها الشرك، وأُعلنت فيها المحرمات، وعُطّلت فيها معالم الدين: تكون بلاد كفر، يغنم أموال أهلها، وتستباح دماؤهم، وقد زاد أهل هذا البلد في إظهار المسبة له ولدينه، ووضعوا قوانين يُنفذِونها في الرعية مخالفة لكتاب الله وسنة نبيه، وقد علمت أن هذه كافية وحدها في إخراج من أتى بها من الإسلام، هذا ونحن نقول قد يوجد فيها من لا يحكم بكفره في الباطن من مستضعفٍ ونحوه، وأما في الظاهر فالأمر -ولله الحمد- واضح، ويكفيك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في مكة مع أن فيهم مستضعفين، وكذلك ما فعله أصحابه بكثير ممن ارتد عن الإسلام، من استباحة الدم والمال والسبي، وكل عاقل وعالم يعلم أنما أتى به هؤلاء من الكفر والردة أقبح وأفحش وأكثر مما فعله أولئك، فارجع البصر في نصوص الكتاب والسنة وفي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابِه تجدها بيضاء نقية لا يزيغ عنها إلا هالك، تحرَّى فيها ذكر العلماء، وارغب إلى الله في هداية القلب وإزالة الشبهة، وما كنت أظن أن هذا يصدر من مثلِك، ولا تغتر بما عليه الجهال، وما يقوله أهل الشبهات"، انتهى كلامه.
فانظر كيف حكم على أهل البلد بالكفر ظاهرًا، وذلك لتحققّ أوصاف فيهم اقتضت هذا الحكم؛ من تفشٍّ للكفر فيهم، وتمالئهم عليه، وإعلانهم به وغير ذلك، ولم يعلق حكمه عليهم على مجرد أن دارهم دار كفر فتنبه.
فالحاصل أنه ينبغي التفريق بين مسألة الحكم على الدار ومسألة الحكم على السكان؛ فيكون الحكم على الدار وفقًا لما علت الدار من أحكام، ويكون الحكم على السكان بالاطلاع على حال السكان، والله المستعان.
انتهى المبحث الأول عن الديار بتوفيق الله.
ونشرع الآن في مسائل المبحث الثاني: مبحث الهجرة.
الهجرة شرعًا: هي الخروج في سبيل الله من دار الكفر إلى دار الإسلام.
وقد تطلق الهجرة ويراد بها الخروج من دار معصية إلى دار طاعة، ومن دار بدعة إلى دار سنة.
المسألة الأولى: حكم الهجرة.
قال ابن القاسم -رحمه الله- في حاشيته على الأصول الثلاثة: "معلوم ثبوتها -أي الهجرة- بالكتاب والسنة والإجماع، مُتوعد من تركها، وقد حكى الإجماع على وجوبها من بلد الشرك إلى بلد الإسلام غيرُ واحد من أهل العلم"، انتهى كلامه.
المسألة الثانية: حكم ترك الهجرة.
لا يكفر المسلم بمجرد ترك الهجرة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال : 72].
فجمع بين وصفهم بالإيمان وترك الهجرة من أرض الحرب.
يقول أبو بكر ابن العربي رحمه الله: "قوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} يريد إن دعوا من أرض الحرب عونكم بنفير أو مال لاستنقاذهم فأعينوهم، فذلك عليكم فرض إلا على قوم بينكم وبينهم عهد، فلا تقاتلوهم عليهم، يريد حتى يتم العهد عليه أو ينبذ على سواء"، انتهى كلامه.
وإنما تحرم على المسلم الإقامة في دار الكفر إذا لم يكن متمكنًا من إظهار دينه لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّـهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97].
قال ابن كثير رحمه الله: "الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنًا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حرامًا بالإجماع"، انتهى كلامه.
وليس إظهار الدين هو مجرد التمكن من الصلوات وغيرها، وإنما المقصود من إظهار الدين إظهار العداوة للكفار والمشركين لقوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّـهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة : 4].
وأما من ترك الهجرة وكانت عنده أصل العداوة -يعني العداوة موجودة- ولكن لم يبدها -أي لم يظهرها- فهو عاص وليس بكافر.
سُئل الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله- عمن كان في سلطان المشركين وعرف التوحيد وعمل به ولكن ما عاداهم ولا فارق أوطانهم، فأجاب: "هذا السؤال صدر عن عدم التعقل لصورة الأمر، والمعنى المقصود من التوحيد والعمل به، لأنه لا يتصور أنه يعرف التوحيد ويعمل به ولا يعادي المشركين، ومن لم يعادهم لا يقال له عرف التوحيد وعمل به، والسؤال متناقض، وحسن السؤال مفتاح العلم، وأظن مقصودك: من لم يظهر العداوة ولم يفارق، ومسألة إظهار العداوة غير مسألة وجود العداوة؛ فالأول: يعذر به مع العجز والخوف لقوله تعالى: {إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران : 28].
والثاني: لا بدَّ منه، لأنه يدخل في الكفر بالطاغوت، وبينه وبين حب الله ورسوله تلازم كلي لا ينفك عنه المؤمن؛ فمن عصا الله بترك إظهار العداوة فهو عاص لله، فإذا كان أصل العداوة في قلبه فله حكم أمثاله من العصاة، فإذا انضاف إلى ذلك ترك الهجرة فله نصيب من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} [النساء : 97]، لكنه لا يكفر، لأن الآية فيها الوعيد لا التكفير، وأما الثاني الذي لا يُوجد في قلبه شيء من العداوة فيصدق عليه قول السائل لم يعادِ المشركين، فهذا هو الأمر العظيم والذنب الجسيم، وأي خير يبقى مع عدم عداوة المشركين؟! والخوف على النخل والمساكن ليس بعذر يوجب ترك الهجرة، قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت : 56]"، انتهى كلامه رحمه الله.
"وأما من ترك الهجرة من دار الكفر موالاة للكفار من أهلها أو إعانة لهم على المسلمين فهو كافر مثلهم".
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة: 23].
قال القرطبي رحمه الله: "ظاهر هذه الآية أنها خطاب لجميع المؤمنين كافة، وهي باقية الحكم إلى يوم القيامة في قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين، وروت فرقة أن هذه الآية إنما نزلت في الحض على الهجرة ورفض بلاد الكفرة، فالمخاطبة على هذا إنما هي للمؤمنين الذين كانوا بمكة وغيرها من بلاد العرب، خوطبوا بأن لا يوالوا الآباء والإخوة فيكونوا لهم تبعًا في سكنى بلاد الكفر"، انتهى كلامه.
وقال ابن حزم رحمه الله: "فصحّ بهذا أن من لحق بدار الكفر والحرب مختارًا محاربًا لمن يليه من المسلمين، فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام المرتد كلها، من وجوب القتل عليه متى قُدر عليه، ومن إباحة ماله، وانفساخ نكاحه وغير ذلك، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبرأ من مسلم"، انتهى كلامه.
وقال ابن تيمية -رحمه الله- معلقًا على أثر عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "من بنى ببلادهم، وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت، حشر معهم".
قال: "وهذا يقتضي أنه جعله كافرًا بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور أو جعل ذلك من الكبائر الموجبة للنار، وإن كان الأول ظاهر لفظه، فتكون المشاركة في بعض ذلك معصية"، انتهى كلامه.
المسألة الثالثة: أحوال المقيمين في دار الكفر.
يقول ابن حزم رحمه الله: "وأما من فرَّ إلى أرض الحرب لظلم خافه، ولم يحارب المسلمين ولا أعانهم عليهم، ولم يجد في المسلمين من يجيره: فهذا لا شيء عليه، لأنه مضطر مكره، وقد ذكرنا أن الزهري محمد بن مسلم بن شهاب كان عازمًا على أنه إن مات هشام بن عبد الملك لحق بأرض الروم، لأن الوليد بن يزيد كان نذر دمه إن قدر عليه، وهو كان الوالي بعد هشام، فمن كان هكذا فهو معذور، وكذلك من سكن بأرض الهند والسند والصين والترك والسودان والروم من المسلمين؛ فإن كان لا يقدر على الخروج من هنالك لثقل ظهر أو لقلة مال أو لضعف جسم أو لامتناع طريق فهو معذور.
فإن كان هناك محاربًا للمسلمين معينًا للكفار بخدمة أو كتابة: فهو كافر.
وإن كان إنما يقيم هنالك لدنيا يصيبها، وهو كالذمي لهم، وهو قادر على اللحاق بجمهرة المسلمين وأرضهم: فما يبعُد عن الكفر، وما نرى له عذرًا، ونسأل الله العافية.
وليس كذلك من سكن في طاعة أهل الكفر من الغالية ومن جرى مجراهم؛ لأن أرض مصر والقيروان وغيرهما، فالإسلام هو الظاهر، وولاتهم على كل ذلك لا يجاهرون بالبراءة من الإسلام، بل إلى الإسلام ينتمون، وإن كانوا في حقيقة أمرهم كفارًا.
وأما من سكن في أرض القرامطة مختارًا: فكافر بلا شك لأنهم معلنون بالكفر وترك الإسلام، ونعوذ بالله من ذلك.
وأما من سكن في بلد تظهر فيه بعض الأهواء المخرجة إلى الكفر: فهو ليس بكافر لأن اسم الإسلام هو الظاهر هنالك على كل حال من التوحيد والإقرار برسالة محمد صلى الله عليه وسلم والبراءة من كل دين غير الإسلام، وإقامة الصلاة وصيام رمضان، وسائر الشرائع التي هي الإسلام والإيمان، والحمد لله رب العالمين"، انتهى كلامه رحمه الله.
هذا وصلى الله على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ...المزيد
عبد الرحمن عارف
التدوينات
منذ 2025-07-03
الدولة الإسلامية سلسلة علمية في بيان مسائل منهجية (6-6) • الْحَلَقَةُ السادسة الحمد لله ...
الدولة الإسلامية
سلسلة علمية في بيان مسائل منهجية (6-6)
• الْحَلَقَةُ السادسة
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ...المزيد
سلسلة علمية في بيان مسائل منهجية (6-6)
• الْحَلَقَةُ السادسة
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ...المزيد
عبد الرحمن عارف
التدوينات
منذ 2025-07-03
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ستكون فتن، القاعد فيها خير ...
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
(ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من السّاعي، ومن يُشرف لها تستشرِفْه، ومن وجد ...المزيد
(ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من السّاعي، ومن يُشرف لها تستشرِفْه، ومن وجد ...المزيد
عبد الرحمن عارف
التدوينات
منذ 2025-07-03
مِن أقوال علماء الملّة ◾️ قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "إياك والكذبَ؛ فإنَّه يُفْسِدُ عليك ...
مِن أقوال علماء الملّة
◾️ قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-:
"إياك والكذبَ؛ فإنَّه يُفْسِدُ عليك تصوُّرَ المعلومات على ما هي عليه، ويُفسِد عليك تصويرَها وتعليمَها للناس! فإن الكاذب يُصوِّرُ المعدومَ ...المزيد
◾️ قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-:
"إياك والكذبَ؛ فإنَّه يُفْسِدُ عليك تصوُّرَ المعلومات على ما هي عليه، ويُفسِد عليك تصويرَها وتعليمَها للناس! فإن الكاذب يُصوِّرُ المعدومَ ...المزيد
عبد الرحمن عارف
التدوينات
منذ 2025-07-03
الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 501 الافتتاحية: • جدِّدوا الهجرة من غفلة المسلمين في ...
الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 501
الافتتاحية:
• جدِّدوا الهجرة
من غفلة المسلمين في هذا الزمان تضييع الأوقات والأزمان سدى بلا إعمار ولا اعتبار، فتمرُّ الذكرى بغير تذكُّر، والحوادث بغير ...المزيد
الافتتاحية:
• جدِّدوا الهجرة
من غفلة المسلمين في هذا الزمان تضييع الأوقات والأزمان سدى بلا إعمار ولا اعتبار، فتمرُّ الذكرى بغير تذكُّر، والحوادث بغير ...المزيد
عبد الرحمن عارف
التدوينات
منذ 2025-07-03
قصص من جهاد النساء 1 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ...
قصص من جهاد النساء 1
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فقد ذكرنا في المقالة ...المزيد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فقد ذكرنا في المقالة ...المزيد
عبد الرحمن عارف
التدوينات
منذ 2025-07-03
علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه قال ابن قيم الجوزية في كتاب (إغاثة اللهفان من مصايد ...
علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه
قال ابن قيم الجوزية في كتاب (إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان):
إن سائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانب النفس، فالمواد الفاسدة كلها إليها تنصبُّ، ثم تنبعث منها إلى ...المزيد
قال ابن قيم الجوزية في كتاب (إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان):
إن سائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانب النفس، فالمواد الفاسدة كلها إليها تنصبُّ، ثم تنبعث منها إلى ...المزيد
عبد الرحمن عارف
التدوينات
منذ 2025-07-03
سلسلة علمية في بيان مسائل منهجية (5-6) الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان ...
سلسلة علمية في بيان مسائل منهجية (5-6)
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ...المزيد
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ...المزيد
عبد الرحمن عارف
التدوينات
منذ 2025-07-03
الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 102 الافتتاحية: • إن الله يدافع عن الذين آمنوا الحمد ...
الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 102
الافتتاحية:
• إن الله يدافع عن الذين آمنوا
الحمد لله ولي المؤمنين، وقاهر المشركين، ومظهر دينه رغم أنوف الكافرين، والصلاة والسلام على من بُعث بالحق المبين، ...المزيد
الافتتاحية:
• إن الله يدافع عن الذين آمنوا
الحمد لله ولي المؤمنين، وقاهر المشركين، ومظهر دينه رغم أنوف الكافرين، والصلاة والسلام على من بُعث بالحق المبين، ...المزيد
عبد الرحمن عارف
التدوينات
منذ 2025-06-29
من صفات عُلمَاءِ السُّوءِ • قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا ...
من صفات عُلمَاءِ السُّوءِ
• قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف:١٧٥]
• يحملون العلم ...المزيد
• قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف:١٧٥]
• يحملون العلم ...المزيد
عبد الرحمن عارف
التدوينات
منذ 2025-06-29
حرب غزة والحقيقة المغيَّبة • لو تأمل العاقل أحداث غزة، لوجد أن حرب الإبادة التي يشنها جيش اليهود ...
حرب غزة والحقيقة المغيَّبة
• لو تأمل العاقل أحداث غزة، لوجد أن حرب الإبادة التي يشنها جيش اليهود قد دمرت الحجر قبل البشر، وسالت فيها دماء الأبرياء والمستضعفين، ولأيقن حينها أن اليهود متعطشون لدماء ...المزيد
• لو تأمل العاقل أحداث غزة، لوجد أن حرب الإبادة التي يشنها جيش اليهود قد دمرت الحجر قبل البشر، وسالت فيها دماء الأبرياء والمستضعفين، ولأيقن حينها أن اليهود متعطشون لدماء ...المزيد
عبد الرحمن عارف
التدوينات
منذ 2025-06-29
تعلموا أمر دينكم • صفة الكفر بالطاغوت تكون بـ: ➊ - اعتقاد بطلانها. ➋ - تركها والتبرؤ منها. ➌ ...
تعلموا أمر دينكم
• صفة الكفر بالطاغوت تكون بـ:
➊ - اعتقاد بطلانها.
➋ - تركها والتبرؤ منها.
➌ - بغضها وعداوتها.
➍ - تكفير أهلها.
➎ - معاداتهم في الله.
والدليل قوله تعالى: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ ...المزيد
• صفة الكفر بالطاغوت تكون بـ:
➊ - اعتقاد بطلانها.
➋ - تركها والتبرؤ منها.
➌ - بغضها وعداوتها.
➍ - تكفير أهلها.
➎ - معاداتهم في الله.
والدليل قوله تعالى: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ ...المزيد
عبد الرحمن عارف
التدوينات
منذ 2025-06-29
أليس هذا حال العساكر؟ • قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من حالف شخصاً على أن يوالي من ...
أليس هذا حال العساكر؟
• قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من حالف شخصاً على أن يوالي من والاه، ويُعادي من عاداه، كان من جنس التتر المجاهدين في سبيل الشيطان، ومثل هذا ليس من المجاهدين في سبيل ...المزيد
• قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من حالف شخصاً على أن يوالي من والاه، ويُعادي من عاداه، كان من جنس التتر المجاهدين في سبيل الشيطان، ومثل هذا ليس من المجاهدين في سبيل ...المزيد