الدولة الإسلامية سلسلة علمية في بيان مسائل منهجية (6-6) • الْحَلَقَةُ السادسة الحمد لله ...

الدولة الإسلامية
سلسلة علمية في بيان مسائل منهجية (6-6)

• الْحَلَقَةُ السادسة

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إمام الأولين والآخرين، أما بعد:

• فهذه الحلقة سنتناول الحديث فيها بإذن الله تعالى عن مبحثين:

المبحث الأول: عن الديار وأحكامها.
والمبحث الثاني: عن الهجرة وأحكامها.

• وسنتناول في مبحث الديار مسائل:

الأولى: معنى الدار، وانقسام العالم إلى دارين.
والثانيةُ: تعريف دار الإسلام، ودار الكفر.
والمسألةُ الثالثة: علة الحكم على الدار بالإسلام أو الكفر.
والرابعةُ: أقسام دار الكفر.

• وسنتناول في مبحث الهجرة مسائل:
الأولى: حكم الهجرة.
والثانيةُ: حكم تركِ الهجرة.

والثالثةُ: أحوال المقيمينَ في دار الكفر.
ونشرعُ الآن في المبحث الأول المتعلقِ بأحكامِ الديار:

المسألةُ الأولى من المبحث الأول:
معنى الدار، وانقسام العالم إلى دارين؛ ومعنى الدار اصطلاحًا:
اصطلح العلماءُ من السلف والخلف على تقسيم العالم إلى دارين؛ دارِ إسلامٍ ودارِ كفرٍ، وهذا التقسيم تقسيم أصيل مبنيٌّ على كتاب اللهِ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فمن كتاب الله قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ} [الحشر : 9].
قال الإمام ابنُ كثيرٍ رحمه الله: "أي سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم"، انتهى كلامه.

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّـهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء : 97].

والهجرة إذا أُطْلِقت في الكتاب والسنة، فهي تعني الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام.

أما من السنة فقد جاء تقسيم الديار في عدةِ أحاديث: فمن ذلك ما جاء في الحديث الذي رواه مسلمٌ عن بُريدةَ بن الحصيب -رضي الله عنه- مرفوعًا: (ثُمَّ ادعُهم إلى الإسلامِ، فإن أجابوكَ فاقبَل منْهم وكُفَّ عنهُم، ثمَّ ادعُهم إلى التَّحوُّلِ مِن دارِهم إلى دارِ الـمُهاجرينَ، وأخبرهم أنَّهم إن فعلوا ذلِكَ فَلَهم ما للمُهاجرينَ، وعَلَيهِم مَا علَى الـمُهاجرينَ).

وأخرج النسائي -رحمه الله- بإسناد صحيح، عن جابر بن زيد -رضي الله عنه- قال: قال ابن عباس -رضي الله عنهما- إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ وعمرَ كانوا من المهاجرين، لأنهم هجروا المشركين، وكان من الأنصار مهاجرون، لأن المدينة كانت دارَ شركٍ، فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة.

المسألة الثانية من مبحث الديار: تعريف دارِ الإسلامِ ودارِ الكفر.

دارُ الإسلامِ: هي كل بلدةٍ أو بقعةِ تعلوها أحكام الإسلام، والغلبةُ والقوةُ والكلمةُ فيها للمسلمين، وإن كان أكثرُ سُكانِ هذه الدار من الكافرين.

أما دارُ الكفر: فهي كل بلدٍ أو بقعةٍ تعلوها أحكامُ الكفر، والغلبةُ والقوةُ والكلمةُ فيها للكافرين، وإن كانَ أكثرُ سُكانِ هذه الدار من المسلمين.

قال الإمام ابن القيّمِ رحمه الله: "دارُ الإسلام هي التي نزلها المسلمون، وجرتْ عليها أحكامُ الإسلام، وما لم تجرِ عليه أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام، وإن لاصقها، فهذه الطائفُ قريبةٌ إلى مكةَ جدًا، ولم تَصرْ دار إسلام بفتح مكة، وكذلك الساحل"، انتهى كلامه.

وقال ابن مفلح رحمه الله: "فصلٌ في تحقيق دارِ الإسلامِ ودارِ الحرب؛ فكل دارِ غلب عليها أحكامُ المسلمين فدارُ الإسلام، وإن غلبَ عليها أحكام الكفار فدارُ الكفر، ولا دارَ لغيرهما"، انتهى كلامه.

المسألة الثالثة:
علة الحكم على الدار بالإسلام أو الكفر.

باستقراء كلام العلماء يتبين أنهم يذكرون سببين للحكم على الدار:
الأول: القوةُ والغلبة.
الثاني: نوع الأحكام المطبقةِ فيها.

قال ابن حزمٍ رحمه الله: "وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسلِمٍ أَقَامَ بَينَ أَظهُرِ المُشرِكِينَ)، يبين ما قلناه، وأنه عليه السلام إنما عنى بذلك دار الحرب، وإلا فقد استعمل عليه السلام عُمّاله على خيبر، وهم كلهم يهود، وإذا كان أهل الذمة في مدائنهم لا يمازجهم غيرهم، فلا يسمى الساكن فيهم لإمارة عليهم، أو لتجارة بينهم كافرًا، ولا مسيئًا، بل هم مسلم حسنٌ، ودارهم دار إسلام لا دار شرك، لأن الدارَ إنما تنسب للغالب عليها، والحاكم فيها، والمالك لها"، انتهى كلامه.وعن أبي يوسف، ومحمد بن الحسن -رحمهما الله تعالى-: "إذا أظهروا أحكام الشرك فيها، فقد صارت دارهم دار حرب، لأن البقعة إنما تنسب إلينا أو إليهم باعتبار القوة والغلبة، فكل موضع ظهر فيه حكم الشرك، فالقوة في ذلك الموضع للمشركين، فكانت دار حرب، وكل موضع كان الظاهر فيه حكم الإسلام، فالقوة فيه للمسلمين"، انتهى كلامهما.

وقال الشوكاني رحمه الله: "الاعتبار في الدار بظهور الكلمة، فإن كانت الأوامر والنواهي في الدار لأهل الإسلام، بحيث لا يستطيع من فيها من الكفار أن يتظاهر بكفره، إلا لكونه مأذونًا له بذلك من أهل الاسلام، فهذه دار إسلام، ولا يضرّ ظهور الخصال الكفرية فيها، لأنّها لم تظهر بقوة الكفار ولا بصولتهم، كما هو مشاهد في أهل الذمة من اليهود والنصارى، والمعاهِدين الساكنين في المدائن الإسلامية، وإذا كان الأمر بالعكس فالدار بالعكس"، انتهى كلامه.

المسألة الرابعة: أقسام دار الكفر.
تنقسم ديار الكفر من جهة كون الكفر فيها قديمًا أو طارئًا إلى قسمين:

القسم الأول؛ دار الكفر الأصلي: وهي التي لم تكن دار إسلام في وقت من الأوقات.
والثاني؛ دار الكفر الطارئ: وهي التي كانت دار إسلام في وقت من الأوقات، ثم استولى عليها الكفار، أو ارتد الحاكمون لها، أو ارتد أهلها وجرت فيهم أحكام الكفر.

فصفة الدار ليست من الصفات اللازمة المؤبدة، بل هي من الصفات العارضة المتغيرة، بمعنى: أن الدار قد تتغير من صفة إلى أخرى، فقد تكون الدار دار كفر في وقت ما، ثم تصير دار إسلام، وقد تكون دار إسلام ثم تصبح دار كفر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن كون الأرض دار كفر، أو دار إسلام أو إيمان، أو دار سلم أو حرب، أو دار طاعة أو معصية، أو دار المؤمنين أو الفاسقين، أوصاف عارضة لا لازمة، فقد تنتقل من وصف إلى وصف، كما ينتقل الرجل بنفسه من الكفر إلى الإيمان والعلم، وكذلك بالعكس"، انتهى كلامه رحمه الله.

• وهنا تنبيه مهم
أنه لا يلزم من الحكم على الدار بأنها دار كفر، أصليةٍ كانت أو طارئة، الحكم على من كان فيها من المسلمين بأنه كافر، بل هذه مقالة الغلاة، ومسلك من مسالك الخوارج.

فقد ذكر الأشعري -رحمه الله- هذا القول عن إحدى فرق الخوارج، فقال: "زعمت الأزارقة أن من أقام في دار الكفر فهو كافر، لا يسعه إلا الخروج"، انتهى كلامه.

وذكر عن الخوارج "البيهسية والعوفية" أنهم قالوا: "إذا كفر الإمام فقد كفرت الرعية، الغائب منهم والشاهد"، انتهى كلامه.

وذلك لأن الأصل هو بقاء المسلم على إسلامه فوق كل أرض، وتحت كل سماء، ما لم يرتكب ناقضًا من نواقض الإسلام، وما ثبت بيقين لا يزول بالشك.
قال الإمام الشوكاني رحمه الله: "اعلم أن التعرض لذكر دار الإسلام ودار الكفر، قليل الفائدة جدًا -أي في الحكم على قاطنيها- لما قدمنا لك في الكلام على دار الحرب، وأن الكافر الحربي مباح الدم والمال على كل حال، ما لم يؤمَّن من المسلمين، وأن مال المسلم ودمه معصومان بعصمة الإسلام، في دار الحرب وغيرها"، انتهى كلامه.

والتحقيق أن يقال:
إن حكم السكان في دار الكفر الطارئ، أو القول بأن الأصل فيهم الإسلام أو الكفر، أو حكمَ مجهول الحال منهم، يختلف باختلاف الأحوال، وكلها أحكامٌ فقهية مردها إلى فتوى العلماء، ولذلك اختلفت أقوالهم باختلاف أحوال الساكنين في تلك الديار.

وإليك بعضَ الأمثلة على ذلك:

المثال الأول: فتوى شيخ الإسلام -رحمه الله- في أهل (مَاردِين).
وهي دار إسلام كانت قد استولى عليها التتار، فعلتها أحكامُ الكفر.
سُئل -رحمه الله- عن بلد (مَاردِين) هل هي بلد حرب أم بلد سلم، وهل يجب على المسلم المقيم بها الهجرة إلى بلاد الإسلام أم لا، وإذا وجبت عليه الهجرة ولم يهاجر، وساعد أعداء المسلمين بنفسه أو ماله، هل يأثم في ذلك؟ وهل يأثم من رماه بالنفاق، وسبَّه به أم لا؟

فأجاب: الحمد لله؛ دماء المسلمين وأموالهم محرمة حيث كانوا في مَاردِين أو غيرها، وإعانة الخارجين عن شريعة دين الإسلام محرمة سواء كانوا أهل ماردين أو غيرهم، والمقيم بها إن كان عاجزًا عن إقامة دينه وجبت الهجرة عليه، وإلا استحبت ولم تجب.

ومساعدتهم لعدو المسلمين بالأنفس والأموال مُحرّمة عليهم، ويجب عليهم الامتناع من ذلك بأي طريق أمكنهم، من تغيّب أو تعريض أو مصانعة، فإذا لم يمكن إلا بالهجرة تعينت.

ولا يحل سبهم عمومًا ورميهم بالنفاق، بل السب والرمي بالنفاق يقع على الصفات المذكورة في الكتاب والسنة، فيدخل فيها بعض أهل مَارِدِين وغيرهم.

وأما كونها دار حرب أو سلم فهي مركبة، فيها المعنيان؛ ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، بل هي قسم ثالث: يُعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويُقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه"، انتهى كلامه رحمه الله.فانظر كيف حكم على السكان بأنه لا يحل سبهم عمومًا ورميهم بالنفاق، ولا أنهم كفار كأهل دار الحرب، مع أنه حكم على جندها بأنهم غير مسلمين، وكل ذلك في مَاردِين، وهي دار كفر طارئ.

المثال الثاني: فتوى حمد بن عتيق -رحمه الله- في أهل الأحساء.

قال: "ومن له مشاركة في ما قرره المحققون قد اطلع على أن البلد إذا ظهر فيها الشرك، وأُعلنت فيها المحرمات، وعُطّلت فيها معالم الدين: تكون بلاد كفر، يغنم أموال أهلها، وتستباح دماؤهم، وقد زاد أهل هذا البلد في إظهار المسبة له ولدينه، ووضعوا قوانين يُنفذِونها في الرعية مخالفة لكتاب الله وسنة نبيه، وقد علمت أن هذه كافية وحدها في إخراج من أتى بها من الإسلام، هذا ونحن نقول قد يوجد فيها من لا يحكم بكفره في الباطن من مستضعفٍ ونحوه، وأما في الظاهر فالأمر -ولله الحمد- واضح، ويكفيك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في مكة مع أن فيهم مستضعفين، وكذلك ما فعله أصحابه بكثير ممن ارتد عن الإسلام، من استباحة الدم والمال والسبي، وكل عاقل وعالم يعلم أنما أتى به هؤلاء من الكفر والردة أقبح وأفحش وأكثر مما فعله أولئك، فارجع البصر في نصوص الكتاب والسنة وفي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابِه تجدها بيضاء نقية لا يزيغ عنها إلا هالك، تحرَّى فيها ذكر العلماء، وارغب إلى الله في هداية القلب وإزالة الشبهة، وما كنت أظن أن هذا يصدر من مثلِك، ولا تغتر بما عليه الجهال، وما يقوله أهل الشبهات"، انتهى كلامه.

فانظر كيف حكم على أهل البلد بالكفر ظاهرًا، وذلك لتحققّ أوصاف فيهم اقتضت هذا الحكم؛ من تفشٍّ للكفر فيهم، وتمالئهم عليه، وإعلانهم به وغير ذلك، ولم يعلق حكمه عليهم على مجرد أن دارهم دار كفر فتنبه.

فالحاصل أنه ينبغي التفريق بين مسألة الحكم على الدار ومسألة الحكم على السكان؛ فيكون الحكم على الدار وفقًا لما علت الدار من أحكام، ويكون الحكم على السكان بالاطلاع على حال السكان، والله المستعان.

انتهى المبحث الأول عن الديار بتوفيق الله.
ونشرع الآن في مسائل المبحث الثاني: مبحث الهجرة.

الهجرة شرعًا: هي الخروج في سبيل الله من دار الكفر إلى دار الإسلام.

وقد تطلق الهجرة ويراد بها الخروج من دار معصية إلى دار طاعة، ومن دار بدعة إلى دار سنة.

المسألة الأولى: حكم الهجرة.
قال ابن القاسم -رحمه الله- في حاشيته على الأصول الثلاثة: "معلوم ثبوتها -أي الهجرة- بالكتاب والسنة والإجماع، مُتوعد من تركها، وقد حكى الإجماع على وجوبها من بلد الشرك إلى بلد الإسلام غيرُ واحد من أهل العلم"، انتهى كلامه.

المسألة الثانية: حكم ترك الهجرة.
لا يكفر المسلم بمجرد ترك الهجرة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال : 72].
فجمع بين وصفهم بالإيمان وترك الهجرة من أرض الحرب.

يقول أبو بكر ابن العربي رحمه الله: "قوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} يريد إن دعوا من أرض الحرب عونكم بنفير أو مال لاستنقاذهم فأعينوهم، فذلك عليكم فرض إلا على قوم بينكم وبينهم عهد، فلا تقاتلوهم عليهم، يريد حتى يتم العهد عليه أو ينبذ على سواء"، انتهى كلامه.

وإنما تحرم على المسلم الإقامة في دار الكفر إذا لم يكن متمكنًا من إظهار دينه لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّـهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97].
قال ابن كثير رحمه الله: "الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنًا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حرامًا بالإجماع"، انتهى كلامه.

وليس إظهار الدين هو مجرد التمكن من الصلوات وغيرها، وإنما المقصود من إظهار الدين إظهار العداوة للكفار والمشركين لقوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّـهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة : 4].

وأما من ترك الهجرة وكانت عنده أصل العداوة -يعني العداوة موجودة- ولكن لم يبدها -أي لم يظهرها- فهو عاص وليس بكافر.
سُئل الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله- عمن كان في سلطان المشركين وعرف التوحيد وعمل به ولكن ما عاداهم ولا فارق أوطانهم، فأجاب: "هذا السؤال صدر عن عدم التعقل لصورة الأمر، والمعنى المقصود من التوحيد والعمل به، لأنه لا يتصور أنه يعرف التوحيد ويعمل به ولا يعادي المشركين، ومن لم يعادهم لا يقال له عرف التوحيد وعمل به، والسؤال متناقض، وحسن السؤال مفتاح العلم، وأظن مقصودك: من لم يظهر العداوة ولم يفارق، ومسألة إظهار العداوة غير مسألة وجود العداوة؛ فالأول: يعذر به مع العجز والخوف لقوله تعالى: {إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران : 28].

والثاني: لا بدَّ منه، لأنه يدخل في الكفر بالطاغوت، وبينه وبين حب الله ورسوله تلازم كلي لا ينفك عنه المؤمن؛ فمن عصا الله بترك إظهار العداوة فهو عاص لله، فإذا كان أصل العداوة في قلبه فله حكم أمثاله من العصاة، فإذا انضاف إلى ذلك ترك الهجرة فله نصيب من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} [النساء : 97]، لكنه لا يكفر، لأن الآية فيها الوعيد لا التكفير، وأما الثاني الذي لا يُوجد في قلبه شيء من العداوة فيصدق عليه قول السائل لم يعادِ المشركين، فهذا هو الأمر العظيم والذنب الجسيم، وأي خير يبقى مع عدم عداوة المشركين؟! والخوف على النخل والمساكن ليس بعذر يوجب ترك الهجرة، قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت : 56]"، انتهى كلامه رحمه الله.

"وأما من ترك الهجرة من دار الكفر موالاة للكفار من أهلها أو إعانة لهم على المسلمين فهو كافر مثلهم".

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة: 23].

قال القرطبي رحمه الله: "ظاهر هذه الآية أنها خطاب لجميع المؤمنين كافة، وهي باقية الحكم إلى يوم القيامة في قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين، وروت فرقة أن هذه الآية إنما نزلت في الحض على الهجرة ورفض بلاد الكفرة، فالمخاطبة على هذا إنما هي للمؤمنين الذين كانوا بمكة وغيرها من بلاد العرب، خوطبوا بأن لا يوالوا الآباء والإخوة فيكونوا لهم تبعًا في سكنى بلاد الكفر"، انتهى كلامه.

وقال ابن حزم رحمه الله: "فصحّ بهذا أن من لحق بدار الكفر والحرب مختارًا محاربًا لمن يليه من المسلمين، فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام المرتد كلها، من وجوب القتل عليه متى قُدر عليه، ومن إباحة ماله، وانفساخ نكاحه وغير ذلك، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبرأ من مسلم"، انتهى كلامه.

وقال ابن تيمية -رحمه الله- معلقًا على أثر عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "من بنى ببلادهم، وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت، حشر معهم".

قال: "وهذا يقتضي أنه جعله كافرًا بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور أو جعل ذلك من الكبائر الموجبة للنار، وإن كان الأول ظاهر لفظه، فتكون المشاركة في بعض ذلك معصية"، انتهى كلامه.
المسألة الثالثة: أحوال المقيمين في دار الكفر.
يقول ابن حزم رحمه الله: "وأما من فرَّ إلى أرض الحرب لظلم خافه، ولم يحارب المسلمين ولا أعانهم عليهم، ولم يجد في المسلمين من يجيره: فهذا لا شيء عليه، لأنه مضطر مكره، وقد ذكرنا أن الزهري محمد بن مسلم بن شهاب كان عازمًا على أنه إن مات هشام بن عبد الملك لحق بأرض الروم، لأن الوليد بن يزيد كان نذر دمه إن قدر عليه، وهو كان الوالي بعد هشام، فمن كان هكذا فهو معذور، وكذلك من سكن بأرض الهند والسند والصين والترك والسودان والروم من المسلمين؛ فإن كان لا يقدر على الخروج من هنالك لثقل ظهر أو لقلة مال أو لضعف جسم أو لامتناع طريق فهو معذور.
فإن كان هناك محاربًا للمسلمين معينًا للكفار بخدمة أو كتابة: فهو كافر.

وإن كان إنما يقيم هنالك لدنيا يصيبها، وهو كالذمي لهم، وهو قادر على اللحاق بجمهرة المسلمين وأرضهم: فما يبعُد عن الكفر، وما نرى له عذرًا، ونسأل الله العافية.

وليس كذلك من سكن في طاعة أهل الكفر من الغالية ومن جرى مجراهم؛ لأن أرض مصر والقيروان وغيرهما، فالإسلام هو الظاهر، وولاتهم على كل ذلك لا يجاهرون بالبراءة من الإسلام، بل إلى الإسلام ينتمون، وإن كانوا في حقيقة أمرهم كفارًا.

وأما من سكن في أرض القرامطة مختارًا: فكافر بلا شك لأنهم معلنون بالكفر وترك الإسلام، ونعوذ بالله من ذلك.

وأما من سكن في بلد تظهر فيه بعض الأهواء المخرجة إلى الكفر: فهو ليس بكافر لأن اسم الإسلام هو الظاهر هنالك على كل حال من التوحيد والإقرار برسالة محمد صلى الله عليه وسلم والبراءة من كل دين غير الإسلام، وإقامة الصلاة وصيام رمضان، وسائر الشرائع التي هي الإسلام والإيمان، والحمد لله رب العالمين"، انتهى كلامه رحمه الله.

هذا وصلى الله على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
...المزيد

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ستكون فتن، القاعد فيها خير ...

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
(ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من السّاعي، ومن يُشرف لها تستشرِفْه، ومن وجد ملجأ أو معاذا فلْيعذْ به) [رواه البخاري] ...المزيد

مِن أقوال علماء الملّة ◾️ قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "إياك والكذبَ؛ فإنَّه يُفْسِدُ عليك ...

مِن أقوال علماء الملّة

◾️ قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-:
"إياك والكذبَ؛ فإنَّه يُفْسِدُ عليك تصوُّرَ المعلومات على ما هي عليه، ويُفسِد عليك تصويرَها وتعليمَها للناس! فإن الكاذب يُصوِّرُ المعدومَ موجودًا والموجودَ معدومًا، والحقَّ باطلًا والباطلَ حقًّا، والخير شرًّا والشرَّ خيرًا؛ فيفسُدُ عليه تصوُّرُه وعلمه عقوبةً له، ثم يُصوِّر ذلك في نفس المخاطب المغترّ به الراكن إليه؛ فيُفسِدُ عليه تصوُّرَه وعلمه". [الفوائد] ...المزيد

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 501 الافتتاحية: • جدِّدوا الهجرة من غفلة المسلمين في ...

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 501
الافتتاحية:

• جدِّدوا الهجرة

من غفلة المسلمين في هذا الزمان تضييع الأوقات والأزمان سدى بلا إعمار ولا اعتبار، فتمرُّ الذكرى بغير تذكُّر، والحوادث بغير تدبُّر، فلا اعتبار بانصراف الأيام والشهور، ولا اتعاظ بتصرُّم الأعوام والدهور، فقد طغت الغفلة وطالت الرقدة، وقست القلوب فهي كالحجارة أو أشد قسوة.

والواجب على المسلم أن يعمر بالطاعة أوقاته، ويتزود من حياته لمماته، وأن يعتبر بتسارع الأزمان وسرعة انقضائها وجريانها فهي تجري إلى أجل مسمّى، وتوشك أن تتوقف فتشرق الشمس من مغربها وتُبدل الأرض غير الأرض والسماوات، فبادِروا عباد الله قبل أن تُبادروا، فإنه: (لا تزول قدما عبدٍ حتى يُسألَ عن عمُرهِ فيما أفناه) [الترمذي]، فما بال الناس يعيشون اليوم وكأنهم لن يُسألوا، وكأنهم لن يُحاسبوا، وقد دُونت عليهم أعمالهم في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا}، روى ابن أبي الدنيا عن الحسن قال: "لا يُلقى المؤمن إلا يُعاتب نفسه؛ ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بأكلتي؟ ماذا أردت بشربتي؟، والعاجز يمضي قُدُما لا يُعاتب نفسه"، وقال إبراهيم التيمي: "مثّلت نفسي في الجنة، آكل ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثّلت نفسي في النار، آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالِج سلاسلها وأغلالها؛ فقلت لنفسي: أيْ نفسي، أيّ شيء تريدين؟، قالت: أريد أن أردّ إلى الدنيا؛ فأعمل صالحا، قال: قلت: فأنت في الأمنية فاعملي". [محاسبة النفس]

فبادر أيها المسلم بالأعمال، وتزود من دنياك لآخرتك، وحاسب نفسك قبل أن تُحاسب، وتقلَّلْ من الدنيا وأثقالها؛ فإن الخيل لا تجري الغايات وهي بُدن، إنما تجري وهي ضُمر، فبادر وأسرع وحثَّ الخطى إلى مولاك، فإنَّ التؤدة خيرٌ في كل شيء إلا ما كان مِن أمر الآخرة، وإن خير الأعمال وأجلَّ الطاعات نصرة الدين والجهاد في سبيل الله وما اتصل به، فهو ذروة سنام الإسلام، وفرض الساعة وواجب العصر وأمان أمة الإيمان.

وإلى جانب الغفلة عن الاعتبار بتسارع الأزمان، هناك غفلة أخرى لا تقل خطورة هي الغفلة عن الاقتداء والاقتفاء، كغفلة الناس عن مقاصد الهجرة النبوية رغم تكرارها رأس كل عام، فلا يقتدون بأبطالها ولا يقتفون سيرها وأحداثها.

فكل عام هجري يأتي حاملا معه ذكرى الهجرة النبوية التي كانت علامة فارقة في تاريخ الإسلام، بل منها بدأ التأريخ للإسلام، فقد ذكر أهل السير أن الخليفة الفاروق عمر لم يؤرخ لمبدأ الإسلام من مَبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا حتى من مولده على شرف المناسبة، بل اختار الهجرة تأريخًا وتقويمًا لمبدأ الإسلام، وقد بيَّن علماؤنا الحكمة من ذلك الاختيار، قال ابن الأثير: "جمع عمر الناس للمشورة، فقال بعضهم: أرّخْ لمبعث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وقال بعضهم: لمهاجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال عمر: بل نؤرخ لمهاجرة رسول الله، فإن مهاجرته فرق بين الحق والباطل؛ قاله الشعبي... وقال سعيد بن المسيب: جمع عمر الناس فقال: من أيّ يوم نكتب التاريخ؟ فقال عليّ: من يوم مهاجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفراقه أرض الشرك، ففعله عمر". [الكامل في التاريخ]

فعُلم مما تقدم أن الهجرة كانت نقطة تحوّل في تاريخ المسلمين غيرت مجرى التاريخ ووجه الأرض قاطبة، إذْ كانت فرقانا بين الحق والباطل، وكان بها قيام دولة الإسلام وجمع الكلمة ومفارقة الشرك جسدا وروحا، وبها عزّ جناب الإسلام وشُيد صرحه وغدا حاكما لا محكوما، فكانت الهجرة فتحا ربانيا نبويا في الحال والمآل.

ولذا حري بالمسلمين اليوم أن لا تكون الهجرة عندهم حدثا عابرا مرَّ من التاريخ بغير رجعة ولم يبق منه إلا الذكريات، بل يجب أن تكون الهجرة عندهم حركة متجددة مستمرة يهاجرون فيها من ديار الشرك إلى ديار الإسلام، ومن مواطن الذل إلى مواطن العز والنزال، يهاجرون بأرواحهم وأجسادهم من حيث لا يأمنون على دينهم إلى حيث يأمنون، يفارقون معسكرات الشرك إلى معسكرات التوحيد ويهجرون فيها الجاهلية إلى الإسلام.
فيا أيها الغافل القابع بين براثن الجاهلية تنبّه من رقدتك وتحرّر من أسرك فما زالت الهجرة ماضية، ويا أيها القاعد المتثاقل إلى الأرض انهض فما زال الجهاد ماضيا وأبوابه مشرعة، واحذر أن يفوتك الركب فتكون مع الخوالف، فإن الأزمان لا تشاوِر.

وإن خير ما نوصي به إخواننا المجاهدين مبدأ كل عام هجري؛ تجديد النية ومراقبة الإخلاص وتقوية دوافعه في النفس، فإن الإخلاص أول منازل الطلب في العلم والعمل، وهو أول المدارج وأجمعها وأهمها، وهو للمجاهد حصن ونجاة، به تُنال الدرجات وتُحصل البركات وتُقبل الطاعات، بل هو ركن الدين وأصله لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}، وتذكر أخي المجاهد أن أغلى ما يملكه العبد قلبه ووقته، فاعمر قلبك بالإخلاص واغمر وقتك بالعمل.

وليجدد كل مجاهد نيته وليشحذ همته وعزمه على مواصلة هذا الطريق المبارك الذي سارت فيه ركاب الأنبياء وتقاطرت عليه قوافل الشهداء، فاتَّبعوا سبيل ربهم ولم يحيدوا عنه وما استبدلوه بغيره من سبل الهوى والهوان، لا في شدة ولا في رخاء، بل لزموه في عسرهم ويسرهم حتى وصلوا إلى مبتغاهم ونصر الله بهم دينه وهزم عدوه وأعز ملته، وبقيت سيَرهم ماثلة للسائرين المقتفين.

ولقد اقتفى جنود الدولة الإسلامية هذا الفقه القرآني، واحتذوا هذا الهدي النبوي، واتبعوا النور الذي أُنزل معه، فأنارت دروبهم واستنارت بصائرهم، ومضوا على صراط ربهم نحو غايتهم التي خُلقوا لأجلها لا يلفتون وجوههم عنها، نحسبهم ولا نزكيهم، فكن أيها المسلم معهم لا عليهم، ولا تعْدُ عيناك عنهم، وجدِّد كما فعلوا مآثر الهجرة، ولا تجعلها مجرد ذكرى، فهي عبادة باقية ماضية مع الجهاد إلى يوم القيامة، قال تعالى، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.


• المصدر:
صحيفة النبأ العدد 501
السنة السابعة عشرة - الخميس 1 المحرم 1447 هـ

المقال الافتتاحي:
جدِّدوا الهجرة
...المزيد

قصص من جهاد النساء 1 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ...

قصص من جهاد النساء 1


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

فقد ذكرنا في المقالة سابقا نموذجا من نساء القرن الأول المبارك، وكيف شاركن بأنفسهن في المعارك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحملن في سبيل ذلك الصعاب.

وسنعرض في هذه المقالة جانبا من تحريضهن وصبرهن عند المصائب، كأمثلة نسوقها لك أيتها المجاهدة لتكون سلوى لك عند المصائب، وزادا على طريق الجهاد والمتاعب.

• أم سليم الأنصارية (رضي الله عنها) تذود عن نفسها بخنجر

فلك -أختي المسلمة- مثال واضح من أفعال الصحابية الجليلة تنبيك عن استعدادها للجهاد والدفاع عن دينها وعرضها، إنها أم سليم رضي الله عنها، تلك المرأة التي تميزت بقوة القلب في سبيل نصر دين الله، وخاطرت بنفسها ودخلت ميدان المعركة واستعدت لمواجهة الرجال، كل ذلك بسبب حبها للدين ونصر الإسلام، فعن أنس، أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجرا، فكان معها، فرآها أبو طلحة، فقال: يا رسول الله، هذه أم سليم معها خنجر، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هذا الخنجر؟) قالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين، بقرت به بطنه، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضحك" [رواه مسلم].


• صفية (رضي الله عنها) تقتل يهودياً

وهاك أختي المجاهدة صحابية أخرى عندها من قوة القلب ما نحتاجه في كثير من نساء المسلمين، ولا نظن أن رجلاً يعلم أن وراءه مثلها فينكص عن الجهاد والإقدام، وهذا النموذج هو صفية بنت عبد المطلب عمةُ النبي -صلى الله عليه وسلم- فعندما رقى أحد اليهود الحصن الذي فيه النساء والذرية كانت له بالمرصاد، قال ابن سعد في طبقاته: "فأخذت عموداً فنزلت فختلته حتّى فتحت الباب قليلا قليلا، ثمّ حملت عليه فضربته بالعمود فقتلته".

ولك أختي المسلمة المجاهدة جانبا من تحريض صفية -رضي الله عنها- للرجال على القتال إذ لم تقتصر على التحريض بلسانها فقط، بل بفعالها أيضاً، قال ابن سعد: "عن هشام بن عروة، أنّ صفيّة بنت عبد المطّلب جاءت يوم أحد وقد انهزم النّاس وبيدها رمح تضرب في وجوه النّاس وتقول: انهزمتم عن رسول اللّه..." [الطبقات الكبرى].


• صبر صفية (رضي الله عنها)

وأما صبرها على المصيبة واحتسابها فهي جبل أشم، قال الإمام الطبري: "قال ابن إسحاق: وأقبلت -فيما بلغني- صفيّة بنت عبد المطّلب لتنظر إلى حمزة، وكان أخاها لأبيها وأمّها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لابنها الزّبير بن العوّام: (القها فأرجعها، لا ترى ما بأخيها)، فلقيها الزّبير فقال لها: يا أمه، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرك أن ترجعي، فقالت: ولم، وقد بلغني أنّه مثّل بأخي وذلك في اللّه قليل! فما أرضانا بما كان من ذلك! لأحتسبنّ ولأصبرنّ إن شاء اللّه، فلمّا جاء الزّبير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بذلك، قال: خلّ سبيلها، فأتته فنظرت إليه وصلّت عليه، واسترجعت واستغفرت له" [تاريخ الطبري].


• قتلت تسعة من الروم بعمود

وهذه قدوة أخرى لك في الفداء والإقدام، وهي أسماء بنت يزيد بن السكن بنت عم معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال عنها الذهبي: "من المبايعات المجاهدات، وقتلت بعمود خبائها يوم اليرموك تسعة من الروم" [سير أعلام النبلاء].

ولكل أخت مجاهدة نقول: إن لم تستطيعي أن تفعلي فعل أسماء بنت يزيد فلا أقل من أن تدافعي عن نفسك إذا دهمك خطر الكفار والمرتدين فلا عذر لك حينئذ من القتال والمدافعة.

• زوجها يستشهد بعد سبعة أيام من زواجها

ولك أختي المسلمة في أم حكيم بنت الحارث عبرة، زوج عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه، وكيف تعالت على مصيبتها في زوجها، وتزوجت فارسا آخر وقاتلت معه في سبيل الله، ولكنه لم يبق معها سوى أيام وارتقى شهيدا، قال الذهبي: "وقال سعيد بن عبد العزيز: التقوا على النّهر عند الطّاحونة، فقتلت الرّوم يومئذ حتّى جرى النهر وطحنت طاحونتها بدمائهم فأنزل النّصر، وقتلت يومئذ أمّ حكيم سبعةً من الرّوم بعمود فسطاطها، وكانت تحت عكرمة بن أبي جهل، ثمّ تزوّجها خالد بن سعيد بن العاص، قال محمّد بن شعيب: فلم تقم معه إلّا سبعة أيّام" [تاريخ الإسلام].• امرأة طلبت لقاء ربها

وهذه أختي في الله قدوة أخرى لك، أحبت لقاء ربها وطلب المنازل العلا فكانت من أهلها، إنها أم حرام رضي الله عنها، وهي من محارم النبي -صلى الله عليه وسلم- باتفاق العلماء، فقيل أنها خالته من الرضاعة وقيل خالة أبيه، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إذا ذهبَ إلى قُباء يدخل على أمِّ حرام بنتِ مِلْحَان فتُطعمُه، وكانت تحت عُبادة بن الصامت، فدخل عليها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً فأطْعَمَتْه، فنام رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يُضْحِكك يا رسول الله؟ قال: ناسٌ من أمتي عُرِضوا عليَّ غُزَاة في سبيل الله، يركبون ثَبَجَ هذا البحر، مُلوكاً على الأسِرَّة -أو قال: مثلَ الملوك على الأسِرَّةِ- قالت: فقلت: يا رسول الله، ادْعُ الله أن يجعلني منهم، فدعا لها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت :فقلتُ: ما يُضْحِكُك يا رسول الله؟ قال: ناسٌ من أمتي عُرِضوا عليَّ غزاة في سبيل الله -كما قال في الأولى- قالت: فقلت: يا رسول الله، ادْعُ الله أن يجعلَني منهم، قال: أنت من الأولين، فركبت أمُّ حرام بنت مِلْحان البحرَ في زمن معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهما، فصُرِعت عن دابتها حين خرجت من البحر، فَهَلَكَت" [متفق عليه].

وكان ذلك في جزيرة قبرص حيث غزت أم حرام مع زوجها عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- وكانوا في جيش أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه، قال ابن الأثير: "وفي هذه الغزوة ماتت أمّ حرام بنت ملحان الأنصاريّة، ألقتها بغلتها بجزيرة قبرص فاندقّت عنقها فماتت، تصديقًا للنبي، صلى الله عليه وسلم، حيث أخبرها أنّها في أوّل من يغزو في البحر" [الكامل في التاريخ].

هذه أختي الكريمةَ أمُّ حرامٍ -رضي الله عنها- تشوقَت إلى مشاركة المجاهدين في أفعالهم وأجرِهم، فسألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يدعوَ لها لتكون من الغزاة في سبيل الله، وأن تكون النفر الذين هم مثل الملوك على الأسرة، وما كان هذا السؤال منها إلا لأن قلبها قد امتلأ بحب الله ورسوله والجهاد في سبيله، فاسترخصت النفس في مقابل ذلك، فرحمها الله ورضي عنها وأسكنها فسيح جناته.
...المزيد

علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه قال ابن قيم الجوزية في كتاب (إغاثة اللهفان من مصايد ...

علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه

قال ابن قيم الجوزية في كتاب (إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان):

إن سائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانب النفس، فالمواد الفاسدة كلها إليها تنصبُّ، ثم تنبعث منها إلى الأعضاء، وأول ما تنال القلب، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول فى خطبة الحاجة: (الحمدُ لله نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهدِيهِ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا) [رواه أحمد].

وقد استعاذ النبي -صلى الله عليه وسلم- من شرها عموما، ومن شر ما يتولد منها من الأعمال، ومن شر ما يترتب على ذلك من المكاره والعقوبات، وجمع بين الاستعاذة من شر النفس وسيئات الأعمال..

وقد اتفق السالكون إلى الله -على اختلاف طرقهم، وتباين سلوكهم- على أن النفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب، وأنه لا يُدخَل عليه سبحانه ولا يُوصل إليه إلا بعد تركها، وإماتتها بمخالفتها والظفر بها.

• فإن الناس على قسمين:

قسم ظفرت به نفسه فملَكته وأهلكته وصار طوعا لها تحت أوامرها.
وقسم ظفروا بنفوسهم، فقهروها، فصارت طوعا لهم منقادة لأوامرهم.

قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الحياةَ الُّدنْيَا * فَإنَّ الجحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى وَأمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنّ الجنَّةَ هِىَ المَأْوَى} [النازعات: 37 - 41].

فالنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، والرب تعالى يدعو العبد إلى خوفه ونهي النفس عن الهوى، والقلب بين الداعيين، يميل إلى هذا الداعي مرة وإلى هذا مرة، وهذا موضع المحنة والابتلاء.

وقد وصف سبحانه النفس فى القرآن بثلاث صفات: المطمئنة، والأمارة بالسوء، واللوامة...
النفس المطمئنة

فالنفس إذا سكنت إلى الله، واطمأنت بذكره، وأنابت إليه، واشتاقت إلى لقائه، وأنست بقربه، فهى مطمئنة، وهى التى يُقال لها عند الموافاة. {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمِئنَّةُ * ارْجِعِي إلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةَ} [الفجر: 27-28].

قال ابن عباس: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمِئنَّةُ}، يقول: المصدِّقة، وقال قتادة: "هو المؤمن، اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله"...

وحقيقة الطمأنينة: السكون والاستقرار، فهى التي قد سكنت إلى ربها وطاعته وأمره وذكره، ولم تسكن إلى سواه، فقد اطمأنت إلى محبته وعبوديته وذكره، واطمأنت إلى أمره ونهيه وخبره، واطمأنت إلى لقائه ووعده، واطمأنت إلى التصديق بحقائق أسمائه وصفاته، واطمأنت إلى الرضا به ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، واطمأنت إلى قضائه وقدره، واطمأنت إلى كفايته وحسْبِه وضمانه، فاطمأنت بأنه وحدَه ربُّها وإلهها، ومعبودها ومليكها، ومالك أمرها كلِّه، وأن مرجعها إليه، وأنها لا غنى لها عنه طرفة عين.


• النفس الأمارة بالسوء

وإذا كانت بضد ذلك فهى أمَّارة بالسوء، تأمر صاحبها بما تهواه: من شهوات الغيِّ، واتباع الباطل، فهى مأوى كل سوء، وإن أطاعها قادته إلى كل قبيح وكل مكروه، وقد أخبر سبحانه أنها أمَّارة بالسوء، ولم يقل آمرة، لكثرة ذلك منها، وأنه عادتها ودأبها إلا إذا رحمها الله، وجعلها زاكية تأمر صاحبها بالخير...


• النفس اللوامة

وأما اللوامة فاختلف فى اشتقاق هذه اللفظة: هل هى من التلوم، وهو التلون والتردد؟ أو من اللوم؟ وعبارات السلف تدور على هذين المعنيين.

قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: ما اللوامة؟ قال: "هى النفس اللئوم".

وقال مجاهد: "هى التى تَندَم على ما فات، وتلوم عليه" إلخ.

وأما من جعلها من التلوُّم فلكثرة ترددها وتلوُّمها، وأنها لا تستقر على حال واحدة. والأول أظهر.


• ثلاث حالات في ساعة واحدة

والنفس قد تكون تارة أمَّارة، وتارة لوامة، وتارة مطمئنة، بل فى اليوم الواحد والساعة الواحدة يحصل فيها هذا وهذا، والحكم للغالب عليها من أحوالها، فكونها مطمئنة وصفُ مدح لها، وكونها أمارةً بالسوء وصف ذمٍّ لها، وكونها لوامة ينقسم إلى المدح والذم، بحسب ما تلوم عليه.


• محاسبة النفس ومخالفتها

والمقصود: ذكر علاج مرض القلب باستيلاء النفس الأمَّارة عليه، وله علاجان: محاسبتها، ومخالفتها.

وهلاك القلب من إهمال محاسبتها، ومن موافقتها واتباع هواها، وفى الحديث الذى رواه أحمد وغيره من حديث شداد بن أوس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الكَيِّسُ من دان نفسَه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسَه هواها، وتمنَّى على الله) دان نفسه: أي حاسبها.
وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوا أنفسَكم قبل أن تُوزنوا، فإنه أهون عليكم فى الحساب غدا أن تُحاسِبوا أنفسَكم اليوم، وَتَزَيَّنوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية"..وقال ميمون بن مهران: "لا يكون العبد تقيَّا حتى يكون لنفسه أشدَّ محاسبة من الشريك لشريكه"، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوَّان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك".


• النفس مثل الشريك

وقد مُثَّلت النفسُ مع صاحبها بالشريك فى المال، فكما أنَّه لا يتم مقصود الشركة من الربح إلا بالمشارطة على ما يفعل الشريك أولا، ثم بمطالعة ما يعمل، والإشراف عليه ومراقبته ثانيا، ثم بمحاسبته ثالثا، ثم يمنعه من الخيانة إن اطلع عليه رابعا، فكذلك النفس، يُشارطها أولا على حفظ الجوارح السبعة التي حفظها هو رأس المال، والربح بعد ذلك، فمن ليس له رأس مال، فكيف يطمع فى الربح؟

وهذه الجوارح السبعة -وهي العين، والأذن، والفم، واللسان والفرج، واليد، والرِّجل: هى مركب العطب والنجاة، فمنها عطب من عطب بإهمالها، وعدم حفظها، ونجا من نجا بحفظها ومراعاتها، فحفظها أساس كل خير، وإهمالها أساس كل شر، قال تعالى: {قُلْ لِلمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيحفظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30]، وقال تعالى: {وَلا تَمْشِ فى الأرْضِ مَرَحًا إِنّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الجبَالَ طُولا} [الإسراء: 37] وقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلٌم إِن السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: 36] وقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبادى يَقُولُوا الّتى هِىَ أحْسَنُ} [الإسراء: 53] وَقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيداً} [الأحزاب: 70] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18].

فإذا شارطها على حفظ هذه الجوارح انتقل منها إلى مطالعتها والإشراف عليها ومراقبتها، فلا يهملها، فإنه إن أهملها لحظة وقعت فى الخيانة ولا بد، فإن تمادى على الإهمال تمادت فى الخيانة، حتى يذهب رأس المال كلِّه، فمتى أحس بالنقصان انتقل إلى المحاسبة، فحينئذ يتبيَّن له حقيقة الربح والخسران، فإذا أحَسَّ بالخسران وتيقَّنه استدرك منها ما يستدركه الشريك من شريكه، من الرجوع عليه بما مضى، والقيام بالحفظ والمراقبة فى المستقبل، ولا مطمع له فى فسخ عقد الشركة مع هذا الخائن، والاستبدال بغيره، فإنه لا بد له منه، فليجتهد فى مراقبته ومحاسبته، وليحذر من إهماله.


• ما يعين على المحاسبة والمراقبة

ويعينه على هذه المراقبة والمحاسبة معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غدا إذا صار الحساب إلى غيره، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غدا.

ويعينه عليها أيضا: معرفته أن ربح هذه التجارة سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه، وخسارتها: دخول النار، والحجاب عن الرب تعالى، فإذا تيقن هذا هان عليه الحساب اليوم.

فحقٌّ على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر: أن لا يغفُل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها فى حركاتها، وسكناتها وخطراتها وخطواتها، فكل نَفَس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة.

فإضاعة هذه الأنفاس، أو اشتراء صاحبها بها ما يجلِب هلاكه: خسران عظيم لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس وأحمقهم وأقلهم عقلا، وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيدا ً} [آل عمران: 30] . انتهى كلامه - باختصار
...المزيد

سلسلة علمية في بيان مسائل منهجية (5-6) الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان ...

سلسلة علمية في بيان مسائل منهجية (5-6)


الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام الأولين والآخِرين، أما بعد؛

فسنتكلم في هذه الحلقة بإذن الله تعالى عن المسائل التي حصل فيها النزاع حول حكم الطائفة الممتنعة عن شرائع الإسلام.

وقبل الدخول في موضوع الطائفة الممتنعة نود أن نبدأ بتقرير مقدمة يسيرة، فنقول:

إن أهل السنة والجماعة قد اتفقوا على أن الإيمان قول وعمل، ونقل غير واحد من أهل العلم إجماعهم على ذلك، وتفصيل ذلك القول هو بما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فقال: "ومن أصول أهل السنة أن الدين والإيمان قولٌ وعمل؛ قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح"، انتهى كلامه.

وتوضيح ذلك أن الله تعالى إذا أمر بأمر كالصلاة والزكاة وغيرها، وركن الإيمان بأمر الله تعالى هو الانقياد له وذلك من عمل القلب، فمن لم يقم في قلبه انقياد لأمر الله تعالى فهو كافر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ومعلوم أن الإيمان هو الإقرار لا مجرد التصديق، والإقرار ضمن قول القلب الذي هو التصديق وعملِ القلب الذي هو الانقياد"، إلى أن قال: "فمن لم يحصل في قلبه التَّصديق والانقياد فهو كافر"، انتهى كلامه رحمه الله.

ولا بدَّ أيضًا من التنبيه على أمر مهم؛ وهو أن انقياد القلب لأمر الله لا بدّ وأن يظهر أثرُه على الجوارح، فمن امتنع عن العمل دل امتناعُه على عدم إيمانه وانقياده أو ضعف إيمانه وانقياده، فالممتنع عن العمل إما أن يكون كافرًا وإما أن يكون فاسقًا، وهذا يختلف باختلاف صورة الامتناع عن العمل.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فأصل الإيمان في القلب؛ وهو قول القلب وعملُه، وهو إقرارٌ بالتصديق والحب والانقياد، وما كان في القلب فلا بدَّ أن يظهر موجبُه ومقتضاه على الجوارح، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه"، انتهى كلامه.

والمقصود من ذلك أن الإنسان إذا امتنع عن عمل من أعمال الإسلام إباءً واستكبارًا فإنه يعد كافرًا لعدم انقياده، وكفر هذا كـكفر إبليس الذي امتنع عن السجود لآدم عليه السلام مع إقراره بالوجوب.

• نعود إلى مسألة الطائفة الممتنعة فنقول: ما هي الطائفة الممتنعة؟

الجواب: هي جماعة تنتسب إلى الإسلام ثم تمتنع بالقوة والقتال عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، ولو أقرت بوجوبها.

مثالها: لو امتنعت طائفة عن التزام أداء الزكاة أو عن التزام الصيام أو غير ذلك من شرائع الإسلام، ولو أقرُّوا بوجوبها، أو لم يلتزموا ترك المحرمات الظَّاهرة كالربا والخمر والزنا، ولو أقروا بتحريمها، ولم نقدر على إلزامهم إلا بالقتال، أو يكونون ذوي قوة يمتنعون بها عن التزام الشرائع الظاهرة ولو لم يباشروا القتال فعليًا.

• ثم نقول: ما حكم الطائفة الممتنعة؟

الجواب: حكم الطائفة الممتنعة على الصحيح من قولي العلماء هو الردة، والخروج عن الإسلام، وذلك بناءً على ما سبق ذكره في المقدمة عن مسمى الإيمان، وأنه قول وعمل، وأنه لا بدّ من الانقياد لأوامر الله تعالى.

والدليل على ذلك: إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- المستند إلى الدليل فقد سموا مانعي الزكاة بالمرتدين.

يقول أبو عبيدٍ القاسم ابن سلّام: "والمصدق لهذا جهادُ أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- بالمهاجرين والأنصار على منع العرب الزكاة، كجهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك سواءا، لا فرق بينهما في سفك الدماء، وسبي الذرية، واغتنام المال، فإنما كانوا مانعين لها غير جاحدين بها"، انتهى كلامه.

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد اتفق الصحابة والأئمة بعدهم على قتال مانعي الزكاة وإن كانوا يُصلون الخمس، ويصومون شهر رمضان، وهؤلاء لم يكن لهم شبهة سائغة، فلهذا كانوا مرتدين، وهم يقاتَلون على منعها، وإن أقرّوا بالوجوب كما أمر الله"، انتهى كلامه.

ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعد نقله لكلام شيخ الإسلام: "فتأمل كلامه وتصريحه بأن الطائفة الممتنعة عن أداء الزكاة إلى الإمام أنهم يقاتلون، ويحكم عليهم بالكفر، والردة عن الإسلام، وتسبى ذراريُّهم، وتغنم أموالهم، وإن أقروا بوجوب الزكاة، وصلوا الصلوات الخمس، وفعلوا جميع شرائع الإسلام غير أداء الزكاة، وأن ذلك ليس بمسقط للقتال لهم، والحكم عليهم بالكفر، والردة، وأن ذلك قد ثبت بالكتاب والسنة، واتفاق الصحابة رضي الله عنهم، والله أعلم"، انتهى كلامه رحمه الله.• حكم قتال الطائفة الممتنعة.

لقد دل الكتاب، والسنة، والإجماع على وجوب قتال الطائفة الممتنعة.

قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّـهِ} [الأنفال : 39 ].

فإذا كان بعض الدين لله، وبعضه الآخر لغير الله: وجب القتال حتى يكون الدين كلُّه لله.

وفي الصحيحين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أُمِرتُ أن أُقاتِلَ الناسَ حتى يشهدوا أن لا إلهَ إلا اللهُ وأن محمدًا رسولُ اللهِ، ويقيموا الصلاةَ، ويؤتوا الزكاةَ، فإذا فعلوا ذلك عَصَموا مني دماءَهم وأموالَهم إلا بحقِّ الإسلامِ، وحسابُهم على اللهِ).

وقال أبو بكر رضي الله عنه: "الزكاة حق المال، والله لو منعوني عَناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وأجمع العلماء على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة متواترة من شرائع الإسلام، فإنه يجب قتالها حتى يكون الدين كله لله، كالمحاربين وأَولى".

وقال أيضًا رحمه الله: "فعُلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه ليس بمسقط للقتال، فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب، فأيُّما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج أو عن التزام تحريم الدماء، والأموال، والخمر، والزنا، والميسر أو عن نكاح ذوات المحارم أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، وغير ذلك من واجبات الدين، ومحرماته التي لا عذر لأحد في جحودها وتركها، التي يكفر الجاحد لوجوبها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتَل عليها، وإن كانت مقرة بها، وهذا مالا أعلم فيه خلافا بين العلماء"، انتهى كلامه رحمه الله.

فإذا كان هذا حكمَ الطائفة إذا امتنعت عن التزام شريعة واحدة من شرائع الإسلام فكيف إذا امتنعت عن أكثر من ذلك، بل كيف بمن يعلن عدم التزامه بشرع الله من خلال استبداله بقوانين ديمقراطية أو مبادئ وضعية؟!

إذا تقرر هذا فلا بدّ من التنبيه على مسائل:
المسألة الأولى: الخلاف الذي وقع بين علماء الصحابة: أبي بكر وعمر حول تكفير الطائفة الممتنعة.

إن الخلاف الذي وقع بين الصحابة في تكفير مانعي الزكاة في أول الأمر ثابت بنص الحديث الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واُستُخلف أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله، ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله)، فقال: والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عِقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق".

فكان استدلال عمر -رضي الله عنه- على تحريم القتال بأنهم يقولون لا إله إلا الله، دليل واضح على أنه لم يكن يرى كُفرهم.

وممن نص على حدوث هذا الخلاف بين الصحابة الإمام ابن قدامة في كتابه الـمُغني، فقد قال بعد ذكره للروايتين في تكفير مانع الزكاة: "ووجه الأول أن عمر وغيره من الصحابة امتنعوا من القتال في بدء الأمر، ولو اعتقدوا كفرهم لما توقفوا عنه..." إلى آخر كلامه رحمه الله.

المسألة الثانية: ذكر الخلاف الذي وقع بين العلماء في هذه المسألة.

اختلف علماء أهل السنة في حكم كفر الطائفة الممتنعة بناءً على اختلاف الصحابة رضي الله عنهم، فذهب الشافعي -رحمه الله- إلى عدم كفر مانعي الزكاة، وذهب إلى أن نسبتهم إلى الردة نسبة لُغوية لا شرعية، فذهب إلى أن الصحابة إنما اختلفوا في القتال مع اتفاقهم على عدم التكفير، ووصفهم بأنهم ممتنعون عن أداء حق للإمام بتأويل.

قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "وأهل الردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربان؛ منهم قوم أغروا بعد الإسلام مثل طليحة ومسيلمة والعنسي وأصحابِهم، ومنهم قوم تمسكوا بالإسلام ومنعوا الصدقات، فإن قال قائل: ما دلَّ على ذلك والعامة تقول لهم: أهلَ الردة؟ قال الشافعي: فهذا لسان عربي؛ فالردة الارتداد عما كانوا عليه بالكفر، والارتداد بمنع الحق، قال: ومن رجع عن شيء جاز أن يقال ارتدّ عن كذا"، انتهى كلامه.

وذهب الإمام أحمد إلى ذلك في رواية عنه، فنقل الأثرم عنه فيمن ترك صوم رمضان: "هو مثل تارك الصلاة؟ فقال: الصلاة آكد ليس هي كغيرها. فقيل له: تارك الزكاة؟ فقال: قد جاء عن عبد الله: ما تارك الزكاة بمسلم، وقد قاتل أبو بكر عليها والحديث في الصلاة"، انتهى كلامه.قال القاضي أبو يعلى: "فظاهر هذا أنه حكى قول عبد الله، وفعل أبي بكر، ولم يقطع به لأنه قال: الحديث في الصلاة، يعني الحديث الوارد بالكفر لينظر هو في الصلاة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بينَ العبدِ وبينَ الْكفرِ ترْكُ الصَّلاةِ فمَن ترَكَ الصَّلاةَ فقَد كفَرَ)، ولأن الزكاة حق في المال فلم يكفر بمنعه، والقتال عليه كالكفارات وحقوق الآدميين"، انتهى كلامه.

ويقول شيخ الإسلام: "ثم تَنازع الفقهاءُ في كفر من منعها، وقاتل الإمام عليها مع إقراره بالوجوب على قولين، هما روايتان عن أحمد كالروايتين عنه في تكفير الخوارج"، انتهى كلامه.

المسألة الثالثة : هل المخالف في كفر الطائفة الممتنعة بدعيٌ أم سني؟

نقول: من كان يقول بعدم كفر الطائفة الممتنعة وبنى ذلك على قوله بأن الإيمان قول بلا عمل، فهو مرجئ، وأما من كان يقول: إن الإيمان قول وعمل ثم لم يكفر الطائفة الممتنعة، فإنه ليس بمبتدع، وإنما هو مُجتهد مخطئ، والإمام الشافعي من هذا الصنف، فهو ممن يقرر أن الإيمان قول وعمل كعامة أئمة السنة والجماعة.

قال الإمام الشافعي -رحمه الله: "وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ممن أدركناهم، أن الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر"، انتهى كلامه.

وهذا الأمر يشبه الخلاف في كفر تارك الصلاة؛ فمن العلماء من ذهب إلى عدم كفر تارك الصلاة مع قولهم: إن الإيمان قول وعمل، فهذا سني وليس بمبتدع.

وأما من قال بعدم تكفير تارك الصلاة أو أنه يقتل بعد أن يُدعى إليها حين يقتل مسلمًا فقد دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية في مسمى الإيمان، وبالتالي بنى قوله بعدم التكفير على ذلك.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "فهذا الموضع ينبغي تدبُّره؛ فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب، وعلِم أن من قال من الفقهاء أنه إذا أقرَّ بالوجوب وامتنع عن الفعل لا يُقتل، أو يقتَل مع إسلامه، فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المُرجئة والجهمية، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل، ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في مسألة الإيمان، وأن الأعمال ليست من الإيمان"، انتهى كلامه رحمه الله.

ونأخذ مثالاً على هذا:
وهو ما كان من ابن شهاب الزهري -رحمه الله- فقد روى المروزي في تعظيم قدر الصلاة عن ابن شهاب الزهري أنه سُئل عن الرجل يترك الصلاة فقال: "إن كان إنما تركها أنه ابتدع دينًا غير دين الإسلام قُتل، وإن كان إنما هو فاسق ضرب ضربًا مبرحًا وسجن".

فهذا واضح في أن ابن شهاب لم يكن يرى كفر تارك الصلاة، فقد روى اللالكائي عن معقل ابن عبيد الله العبسي قال لنافع مولى ابن عمر: قلت إنهم يقولون نحن نُقر بالصلاة فريضة ولا نصلي، وإن الخمر حرام ونحن نشربها، وإن نكاح الأمهات حرام ونحن نريده، فنتر يده من يدي وقال: من فعل هذا فهو كافر.

قال معقل: فلقيت الزهري فأخبرته بقولهم فقال: سبحان الله؛ أوقد أخذ الناس في هذه الخصومات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الشَّارِبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ).

فانظر إلى قوله بعدم تكفير تارك الصلاة مع إنكاره على المرجئة الذين يخرجون العمل من مسمى الإيمان، فهذا الذي يجعلنا لا نتهم أمثال الإمام الزهري بالإرجاء لمجرد أنه لا يرى كفر تارك الصلاة، فتأمل هذا الموطن جيدًا، ولا تغتر بكثرة المشغِّبين، ولا بأقوال المُغالين، والله المستعان.

وختامًا ينبغي التنبيه ها هنا على أمر هام
وهو أن أغلب من نقاتلهم اليوم من طوائف الكفر والردة لا يجري فيهم الخلاف الذي وقع بين أهل العلم في الطوائف الممتنعة؛ فجيوش الدول الطاغوتية وشرطهم وأعوانهم كفار باتفاق، وهم أقرب إلى كونهم كأتباع مسيلمة والأسود من كونهم كمانعي الزكاة؛ فجند الطاغوت وكل من قاتل في سبيله كافر بنص القرآن، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء : 76].

ومن والى الطاغوت على الحكم بغير ما أنزل الله ومحاربة أولياء الله فهو كافر مثلُه؛ لأن من والى الكفار كان منهم لقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [ المائدة : 51 ].

وقد مر معنا أن البراءة من المشركين وموالاة الموحدين من أصل الدين الذي لا يعذر فيه أحد بالجهل ولا بالتأويل، وهذا محل اتفاق في الجملة بحمد الله تعالى.

ونكتفي بهذا القدر، ونسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يجمع على الحق كلمتنا، وأن يجعلنا هداة مهتدين، وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.
...المزيد

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 102 الافتتاحية: • إن الله يدافع عن الذين آمنوا الحمد ...

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 102
الافتتاحية:

• إن الله يدافع عن الذين آمنوا

الحمد لله ولي المؤمنين، وقاهر المشركين، ومظهر دينه رغم أنوف الكافرين، والصلاة والسلام على من بُعث بالحق المبين، وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...

إن حامية الصليب أمريكا عندما أعلنت حملتها العسكرية على الخلافة، أعماها البطر والكبرياء، فأقحمت نفسها في الحرب على المجاهدين مع بعض أوليائها، متحملة العبء الأكبر فيها، ولما حمي وطيس الحرب علم الزنجي الأخرق المجازفة التي قام بها، حيث بدأ مخزون القنابل عنده بالنفاد، وبدأت تكلفة الحرب ترهق اقتصاده المتهالك، فهرع إلى ملل الكفر قاطبة وإلى طواغيت العالم أجمعين، يطلب منهم العون والسند، والعُدة والعدد، لعلَّهم يُخرجونه من مستنقع الدماء الذي غرق فيه، فبدأ الكفار دولا وجماعات يسارعون فيه طلبا للعزة والرفعة، حتى كثر حوله الأولياء والأنصار، وبايعته على حرب الدين دول وأمصار، فظنوا أن لن يقدر عليهم أحد، وأنهم جميع منتصر، وأنهم هم الوارثون.

ثم إنه عندما شمرت الحرب عن ساق، واضطرم أوار المعارك، ولفح لهيبها المستعر الصليبييِّن في عقر دارهم، أحجم من له عقل عن قتال المجاهدين، فيما بقي الآخرون في تردد وخوف، فما إن ينزلوا إلى الأرض حتى يذوقوا من بأس المجاهدين ما يدفعهم للنأي بأنفسهم عن المواجهة المباشرة، فتراهم يدفعون بأوليائهم دفعا إلى القتال، ويمدونهم بالعدد والعتاد والمال، ويدعمونهم بقصف الطائرات وضرب المدافع، وبات أئمة الكفر يدافعون عن أوليائهم، فترى أمريكا تدافع عن ملاحدة الأكراد، وروسيا تدافع عن النصيرية، وإيران تدافع عن الروافض، وتركيا تدافع عن الصحوات، ظانِّين بذلك أنهم سيحمون وكلاءهم وسيبيدون المجاهدين، وأنهم بذلك سيُعلون راياتهم ويكسرون شوكة المسلمين، ولم يعلم هؤلاء كلهم {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38].

نعم... إن الله يدافع عن المجاهدين من صواريخ الصليبيين، ويدافع عنهم من جحافل الكافرين، ويدفع عنهم الضرر العظيم فلا يصيبهم من بأس عدوهم إلا أذى، {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ} [آل عمران: 111].
إن كفار العالم أجمعين قد وصلوا اليوم إلى حافة الانهيار، بعد أن أنفقوا الغالي والنفيس لإطفاء نور الله وإفناء الخلافة، وأنهكت جيوشهم الجراح، وأثقلتهم الديون، بينما لا تزال الدولة الإسلامية صامدة ثابتة بفضل الله، تقارع أمم الكفر مجتمعة ذودا عن حياض المسلمين، وحفظا لبيضة الدين، ويتجلَّى في كل يوم للعدو قبل الصديق دفاع الله عنها، وحفظه لها.

فعلى جنود الخلافة اليوم مواصلة البذل في سبيل الله، آخذين في ذلك بكل سبب، متوكلين على ربهم وحده، وأن لا يفتُروا عن القتال، ولا يتأخروا عن سوح النزال، فإن الكفار وإن نالوا من المسلمين مرة أو مرتين، أو انتزعوا منهم بعض الأرضين، فليتيقَّن الموحدون أن العاقبة لهم ما اتقوا ربهم وصبروا، {قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]، وأن انتفاش الباطل واختياله ما هو إلا ابتلاء من الله لهم ليعلم من ينصره ورسله بالغيب، {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196-197]، عالمين أن أعداءهم يألمون كما يألمون، وأن الله أعد لهم جنات وأعد للكافرين سعيرا، {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104].
...المزيد

من صفات عُلمَاءِ السُّوءِ • قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا ...

من صفات عُلمَاءِ السُّوءِ

• قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف:١٧٥]

• يحملون العلم ولا يعملون به، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:٥]

• يتركون المحكم ويأخذون بالمتشابه، قال تعالى: {هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ آيَٰتٌ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِۦ كُلٌّ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} [آل عمران:٧]

• يكتمون ما أنزل الله، قال تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَٰتِ وَٱلْهُدَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِى ٱلْكِتَٰبِ ۙ أُوْلَٰٓئِكَ يَلْعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ} [البقرة:١٥٩]

• يكذبون على الله ورسوله ﷺ، قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُۥنَ أَلْسِنَتَهُم بِٱلْكِتَٰبِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ ٱلْكِتَٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ ٱلْكِتَٰبِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:٧٨]

• ينقضون ميثاق الله، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَٱشْتَرَوْاْ بِهِۦ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:١٨٧]

• يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:٧٩]

إنفوغرافيك النبأ جمادى الأولى ١٤٣٨ هـ
...المزيد

حرب غزة والحقيقة المغيَّبة • لو تأمل العاقل أحداث غزة، لوجد أن حرب الإبادة التي يشنها جيش اليهود ...

حرب غزة والحقيقة المغيَّبة

• لو تأمل العاقل أحداث غزة، لوجد أن حرب الإبادة التي يشنها جيش اليهود قد دمرت الحجر قبل البشر، وسالت فيها دماء الأبرياء والمستضعفين، ولأيقن حينها أن اليهود متعطشون لدماء المسلمين، وأن صدورهم تحمل غلاً وأحقادًا متجذرة في عقائدهم الكفرية الخبيثة، وليس كما يدعون بأن حربهم موجهة إلى فصائل وتنظيمات وطنية بل الواقع أثبت غير ذلك؛ حين شاهد الجميع ما يحدث للمسلمين على أيدي اليهود وحلفائهم الصليبيين. ...المزيد

تعلموا أمر دينكم • صفة الكفر بالطاغوت تكون بـ: ➊ - اعتقاد بطلانها. ➋ - تركها والتبرؤ منها. ➌ ...

تعلموا أمر دينكم

• صفة الكفر بالطاغوت تكون بـ:
➊ - اعتقاد بطلانها.
➋ - تركها والتبرؤ منها.
➌ - بغضها وعداوتها.
➍ - تكفير أهلها.
➎ - معاداتهم في الله.

والدليل قوله تعالى: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ۖ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [الممتحنة: ٤]

إذاً فمن لم يحقق هذه الصفة لم يكن مؤمناً بالله كافرا بالطاغوت، بل العكس، لأن الإيمان بالطاغوت والإيمان بالله ضدان لا يجتمعان في قلب إنسان أبدا، إذ لا يمكن أن يوصف الشخص بأنه مشرك وموحد في نفس الوقت، بل لا بد له من أحد الوصفين لا محالة، إذ لا ثالث لهما، لقوله تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ } وقوله: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا }

فهذا الطاغوت الذي أمرنا أن نكفر به ونجتنبه، وهذه عبادته التي نهينا عنها وأمرنا بتركها وتكفير أهلها ومعاداتهم.

- كتاب تعلموا أمر دينكم صادر عن ديوان الدعوة والمساجد / سلسلة (4)
...المزيد

أليس هذا حال العساكر؟ • قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من حالف شخصاً على أن يوالي من ...

أليس هذا حال العساكر؟

• قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من حالف شخصاً على أن يوالي من والاه، ويُعادي من عاداه، كان من جنس التتر المجاهدين في سبيل الشيطان، ومثل هذا ليس من المجاهدين في سبيل الله تعالى، ولا من جند المسلمين، بل هؤلاء من عساكر الشيطان" أنتهى.

• أليس هذا هو حالكم؟ حيث توالون وتعادون في أشخاص الطواغيت الحكام، توالون من والوهم وتعادون من عادوهم، بغض النظر عن شرعية تلك الموالاة أو المعاداة، تنتهك حرمات الأمة ويُعتدى على مقدساتها، ويُقتل الأطفال والنساء، ويشتم الله ورسوله، فكل هذا وغيره لا يستدعي موقفاً منكم ولا من حكامكم!

الشيخ فارس آل شويل/نصيحة إلى العساكر

اعرف حقيقة الجيوش
...المزيد

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً