حفظ القرآن أريد حِفظ القرآن، لكن في كلِّ مرّة أبدأ بقوّة ثم سرعان ما تفتر همَّتي.. فَبِمَ ...

حفظ القرآن

أريد حِفظ القرآن، لكن في كلِّ مرّة أبدأ بقوّة ثم سرعان ما تفتر همَّتي.. فَبِمَ تنصحني؟
• يجب أنْ تُدرك أنّ ساعات النشاط والفتور التي تمرُّ بها هي حالة طبيعية، يمرُّ بها جميع الناس، ولستَ في هذا الشأن حالة شاذَّة، كيْ تنظر إلى نفسك نظرة قُصور، ولأجل ذلك: استثمر في ساعات إقبالكَ، ولا تيأس بعد ساعات إدباركَ. فلو كان المراد منكَ أنْ تنشط في كلِّ حين لعبادةِ اللهِ لخُلقتَ مَلَكًا لا بشرًا.
• حفظ القرآن مشروع عمرٍ، لا مشروع سنة أو سنتين.. فاحذف مِن ذهنكَ فكرة أنْ تُلزِم نفسكَ بحفظه في مدّة محدَّدة، وافتح القوس لنفسكَ، وعشْ معه حفظًا وتلاوة ما بقيَ في حياتكَ مِن رَمق.
• مهما طالتْ مدَّة حفظكَ للقرآن فأنتَ لم تخسَر شيئًا، بل على العكس مِن ذلك، في كلِّ حرفٍ تقرؤُه تكسبُ حسنات، لذلك لا تتضايَق مِن فكرة طُول الوقت، وأَمِدَّ نفسكَ طمأنينة العيش مع القرآن، فما أكثر الذين حفظوا حروفه وهجروا تلاوته، وافرحْ بنفسكَ أنْ لم تكنْ منهم، وأنكَ برغم طُول حِفظه ما زلتَ تتلو آياته.
• إنْ أصبتَ بحالة فتور وإدبار.. حاول ألَّا تضغط على نفسكَ، وتلجأ للحفظ، بل أعطِ نفسكَ فرصة تلتقط فيها أنفاسكَ، وتُغيِّر فيها جوًّا.. وبعدها لك أنْ تعود إلى مشروعكَ بعد عودة نشاطكَ، واعلم علمَ يقينٍ أنّ فتوركَ حالة عارضة ومؤقّتة، سرعان ما تمضي، فعشها عيشةً صحّية، ولا تجعل مِن الحبّة قُبّة، فأشهر القرّاء كانوا مثلكَ، يقرؤون في ساعات، ويُروِّحون عن أنفسهم في أشياء أخرى عندما يروْا مِن أنفسهم حاجةً لذلك.
• لا تسمح للحظة فتور عابرة أنْ تَهدم الجسر الواصل بينكَ وبين مشروع عمركَ، القرآن ليس امتحان بكالوريا كي تُعطيه عامًا مِن وقتكَ، فإنِ اجتزتها انتقلتَ إلى ضروريات الجامعة، بل القرآن مشروع حياة، يَصْحبكَ ما بقيَ فيكَ مِن روح، ولو أنْ تحفظَ كلّ يومٍ آية فأنتَ في الطريق الصحيح.
• إنْ وجدتَ ثقلًا في نفسك عند حفظ آيات جديدة، فحاول أنْ تنتقل إلى مذاكَرة محفوظك القديم، واعلم أنّكَ في الطريق الصحيح، فمراجعة المحفوظ القديم ليست أقلّ قيمةً مِن حفظ الجديد.
• حِفظكَ للقرآن مشروع عظيم جدًّا، لذلك توقَّع مِن الآن أنّ إبليس سيقفَ حجرَ عثْرةٍ أمامكَ، فإنْ وجدتَ منه ذلك فكنْ أهلًا لمحاربته، ولا تجعله يكسب عنك المعركة، ففي النهاية إبليس لا يملك إلَّا الوسوسة، أمَّا القرار الأخير فهو بيدكَ أنتَ، إنْ شئتَ عصيته، وإنْ شئتَ أطعته.
...المزيد

• أريد أجمل جلباب عندكَ في المحل، ولا يهمّ السِّعر.. سأشتريه! • قال الشيخ الألباني رحمه الله: ...

• أريد أجمل جلباب عندكَ في المحل، ولا يهمّ السِّعر.. سأشتريه!

• قال الشيخ الألباني رحمه الله: «والمقصود مِن الأمر بالجلبـاب، إنّما هو ستر زيـنة المرأة، فلا يُعقل حـينئذٍ أنْ يـكون الجلبـاب نفسه زينة».

#محمد_خمفوسي 🌾
...المزيد

هناك قولٌ للصحابيّ الجليل عبدالله بن مسعود، ما قَرَأَتْه امرأة إلّا أحبّت ألّا تقرأه، فضلًا أنْ يصل ...

هناك قولٌ للصحابيّ الجليل عبدالله بن مسعود، ما قَرَأَتْه امرأة إلّا أحبّت ألّا تقرأه، فضلًا أنْ يصل لغيرها، رجلًا كان أم امرأة، لشدّة ما يُخالف هوًى في نفسها، يقول رضي الله عنه: «ما تقرَّبت امرأة إلى الله بِأعظم مِن قعودها في بيتها»!

ولو نظرنا إلى قوله مِن زاوية شرعية، لوجدنا أنّه غرّد داخل السِّرب لا خارجه، وأكّد آية: {وقرن في بيوتكن}.

لكن ليس هذا ما أردته قوله هنا، بل أردتُ أنْ أُوصي أيّ امرأة يصلها هذا القول ألّا تطرحهُ جُملة وتفصيلًا، وتُلقي بمعناه عُرض الحائط، لا لشيء إلّا لأنّ واقع حالها يُناقض هذا القول، مِن كونها موظّفة، أو عاملة.. وتسعى لتطبيق جزء منه عند فراغها مِن وظيفتها، فمعلوم أنّ الإتيان ببعض الباطل اضطرارًا أرحم مِن الإتيان به كلّه اختيارًا، ومَن طبّق ما وسعه ممّا شُرِّع له خير ممّن طلّقه طلاق بينونة كُبرىٰ!

أردتُ أنْ أقول لكِ:
عندما ينتهي دوام شُغلكِ، حاولي قدر استطاعتك الرجوع إلى بيتكِ، وكوني حِلْسَ داركِ إلّا أنْ يَجِدَّ طارئ للخروج، فلَأَنْ يقتصر خروجك عند الحاجة أسلم لدِينك ودِين الرجال مِن أنْ تكوني خَرّاجة ولّاجة!

#محمد_خمفوسي 🌾
...المزيد

قال نبيّ الله صالح: {فمن ينصرني مِن الله إن (عصيته)}. وقال رسول الله ﷺ: {إني أخاف إنْ (عصيت) ربي ...

قال نبيّ الله صالح: {فمن ينصرني مِن الله إن (عصيته)}.

وقال رسول الله ﷺ: {إني أخاف إنْ (عصيت) ربي عذاب يوم عظيم}.

أنبياء تُرهبهم المعصية، وفينا مَن يُقسّمها إلى صغيرة وكبيرة بكل (أريحية)!

_ على الآباء تعويد أبنائِهم على استحضار الله في كلِّ شيء؛ لأنَّ التربية بالوازع الدِّيني أثمر منها ...

_ على الآباء تعويد أبنائِهم على استحضار الله في كلِّ شيء؛ لأنَّ التربية بالوازع الدِّيني أثمر منها بالمراقبة الأبوية، فالأب قد يغيب، والأمُّ قد تغفَل، لكن الوازع الدِّيني حاضر معه حيثما يَمَّمَ!

المتطفِّلون على الكتابة كيف لا تكون منهم؟ لقد أغدق الله علينا بالكثير من النعم التي لا يعدُّها ...

المتطفِّلون على الكتابة كيف لا تكون منهم؟
لقد أغدق الله علينا بالكثير من النعم التي لا يعدُّها عادٌّ ولا يُحصيها مُحصٍ، ومن جُملة هذه النعم "موهبة الكتابة"، فالكتابة ليست سوقًا يدخلها كل من ملَكَ بضاعةً للبيع، وإنما هي ميدان لا يلج بابه إلاَّ اثنان: "كاتب بالفطرة، أو مكتسبُ الكتابة".

لكن ينبغي أن تُدرك شيئًا بالغ الأهمية هنا؛ أنَّ الكتابة لها ضوابطها التي إذا لـم تتقيَّد بها صُنِّفتَ متطفِّلاً؛ لذلك لا بد قبل نشر كتابكَ أن تتأكَّد من ثلاثة نقاط جوهريَّة: "الفكرة الصائبة، اللغة السليمة، الهدف النبيل"، فمتى تخلَّفت نقطة واحدة من هذه النقاط الثلاثة عن أُخْتَيْهَا، عُدَّ كتابكَ بلا أدنى شك أذيَّة للكاتب قبل القارئ.

لذلكَ يلزمكَ أن تُنَمِّي حسَّ الأمانة في داخلكَ، إذْ ليس أمرًا سهلاً أن تنشر كتابًا للناس بمجرد امتلاككَ لـمادة حَرْفية كافية لطبعها؛ لأن الغاية من نشر الكتب لا تكمن في توفُّر الـمادة الـمراد نشرها، وإنما صلاحيتها للنشر.

وأنت تكتب حاول الكتابة عن أشياء تستحقُّ القراءة، أشياء تجعل القارئ يمتلئ بما ينفعه بعد فراغه من قراءة كتابكَ، أشياء تجعل بها القارئ يمحي مصطلح الفراغ ليُخْلِفهُ بمصطلح المطالعة، فليس يمحلُ عليكَ أن تُقنع القارئ بأنَّ وقته أثمن مِن أنْ يُمضيه بعيدًا عن القراءة، وأنتَ تملكُ لغةً حوَّلت قلوبًا كانت تحارب المسلمين إلـى قلوب صارت تحارب معهم، ألـمْ يقولوا لـمَّا يئسوا من إسلام عُمَر: "لا يُسلم ابن الخطَّاب، حتى يسلمَ حمار الخطَّاب"، وفي النهاية أسلم بسبب: "طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى"!؟

وهذا ما عبَّر عنه بشار بن بُرد من زاوية أخرى بقوله:
يا قَومُ أُذْني لبعـض الـحيِّ عاشِقَةٌ
وَالأُذنُ تَعشَقُ قـبل العَينِ أَحيانا
قالـوا بِمَن لا تَرى تَهذي، فَقُلتُ لَهُم:
الأُذنُ كَالعَينِ تُؤتي القَلبَ ما كانا

فرغم أنَّ بشار بن بُرد أعمى إلاَّ أنه جاءنا بفلسفة عشقٍ جديدة تمثَّلت في أنَّ العشق لا يُصنع بالنظر فقط وإنما بالسمعِ أيضًا، وهذا إن دلَّ على شيءٍ فإنما يدل على أنَّ الله جعلَ للكلمة سُلطانًا على القلوب.

وبما أنَّ الكلمة لها سُلطتها ونفوذها، فهذا يعني أنَّ التأثير في الآخرين متاحٌ لمن يملكون موهبة الكتابة أكثر من غيرهم، الأمر الذي يحدو بنا إلى استثمار هذه المَوهبة فيما يخدمنا خدمةً تتجاوزنا إلى الآخر ولا تقف عندنا، فلذة نجاحكَ أيها الكاتب لا تكمن في تحقيق شهرتكَ من خلال الكتابة؛ بل من خلال صناعة الأفكار في الآخرين، واستثمار عقولهم عن بعد بما تكتبه.

وبما أن الكتابة "فطرة توهَب، أو عِلم يُكتسب" باتَ من اللازم ألاَّ يمارسها إلاَّ هذين، فإن أبى من لا ناقة له فيها ولا جمَلٍ إلاَّ وُلوجَها حلَّت بنا طامَّة كبرى، لعلَّ منها فقدان الأثر من خلالها، وإذا فَقد الآخرون التأثُّر بـما يُكتب فقدت الكتابة هيبتها.

ولا منجى لنا هنا إلاَّ أن نفعِّل خاصيَّة "النقد" ونقبله بصدر رحبٍ وقلب مُحبٍّ، لأنَّ بالنقد يُعرف الغثُّ من السمين، والصالح للاستهلاك من الذي انتهت صلاحيته، فجلُّ الكتَّاب إن لـم يكن كلُّهم معجبون بأقلامهم، لكن قلة قليلة تُجري الأقلام من أجل رؤية الأثر!

الأمر الذي يُحتِّم علينا استيعاب أنَّ الكتابة حرفة للمتأهلين، وليست سوقًا لبيع الأقمشة، لأنَّ تهافتنا الشديد على الكتابة ليس بُشرى خير، بقدر ما هو نذير شُؤم، إذْ كلَّما زاد عدد الكتَّاب نقصَ عدد القرَّاء، ومصلحتنا لا تكمن في زيادة الكتَّاب وإنما في زيادة القرَّاء، ولكَ أن تتساءل لَــمَ كانت أوَّل كلمة وحيٍ نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلَّم هي "اقْرَأْ"، وليست "اكتبْ"!؟

ولعلَّ من أخطر ما ينتج عن التطفُّل الكتابي فائض الكتب التي اثَّاقلت بها رفوف المكتبات، علمًا أن وعي الشعوب لا يقاس بعدد الكتب التي تؤلَّف وإنما بعدد الكتب التي تُقرأ، وهذا ما دعا العبقري محمود عبَّاس العقاد للقول: "اقرأ كتابًا جيدًا ثلاث مرات، أنفع لك من أن تقرأ ثلاث كتب جديدة"! فإنْ كانت قيمة القراءة بحدِّ ذاتها لا تقاس بعدد الكتب المقروءة وإنما بجودتها، كيفَ الـحال عند الكتابة؟!

كنَّا بالأمس نُرجع سبب تخلُّفنا عن ركب الأمم لكوننا لا نقرأ، أمَّا اليوم فتخلَّفنا أكثر لأننا أضفنا إلـى إهمالنا للقراءة تهافتنا على الكتابة، فصار يُطبع للتلميذ من الكتب ما لا يُطبع للأستاذ، ويُقرأ للرويبضة ما لا يُقرأ للفقيه... وانقلبت الـموازين ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله!

ولتعلم يا حامل القلم أنَّ القضية ليست في نوعية المواضيع التي تكتب عنها فقط، أيضًا في كيفية تناولها، فقد يكتب كاتب في الشؤون الإصلاحية بطريقة أقرب إلـى الفساد منها إلـى الإصلاح، وقد يكتب آخر في شؤون مسكوتٍ عنها فينقذُ بها أقوامًا شارفوا على التهلكة.

للوهلة الأولى تعتقد أن الكتابة عن الجهاد أمر مستحسن، لكن ما أكثر الذين كتبوا فيه فتحوَّل قُرَّاؤهم إلـى إرهاب، خلعوا ثوب الأنْسَنَة ليرتدوا بدلهُ ثوب الدَّعشنة، ربَّما كتبوا عن حسن نية لكن ليس بحسن النوايا فقط تؤلَّف الكتب!
في حين هناك من كتبَ عن طابوهات الـمعاشرة الزوجية، فأنقذ آلافَ الـحبال الأُسريَّة من سكين الطلاق، ولا أعني هنا أنَّ الكتابة في النكاح خير من الكتابة في الجهاد، وإنما أعني أنَّ كيفية تناول المواضيع أهمُّ بكثير من اختصاصها، اكتبْ فيما شئتَ لكن لا تكتبْ بمنأى عن الجودة، جودة الطرح فكرًا ولغة.

وبعد الفراغ من كتابة نصكَ، لا تتسرع في نشره قبل مراجعته مرة وثانية وثالثة، فالأخطاء التي نراها أثناء مراجعة النصوص لا يمكن رؤيتها عند كتابتها، سواءً كانت أخطاء لها علاقة بالقالب أو الـمضمون، واستحضر دائمًا أن اللمسات الأخيرة في اللوحة هي التي تصنع سرَّ جماليتها، وأنَّ التسرُّع نقيضُ الإتقان.

خذ وقتًا في جمع أفكاركَ، ووقتًا في سكبها إلـى لغة، ووقتًا في تلاحم فقرات النص بعضه ببعضٍ، فرُبَّ موضوع رفيع تشوَّه بفعل غياب اللُّحمة بين فقراته، وحبَّذا أنْ تتحفَ كتاباتكَ ببعض الـمعلومات التي تصبُّ في نهر موضوعكَ، لأنَّ المعلومة ليست سلاحًا لتقوية الحجَّة فقط، أيضًا هي لـمسة من لـمسات الجمال النصِّي، وخاصَّة إذا سيقت صياغة أدبية سلاَّبة للقلوب، فإنها تضمن لكَ سعادة القارئ جاعلة منه يقع صريعًا في حبِّ نصكَ، لا سيَّما إن كان في ذلك إضافة لرصيده المعرفي.

هناك كُتَّابٌ سِمان الألفاظ نحيفي المضمون، وهناكَ كُتَّاب رغمَ جودة مضامين مواضيعهم إلاَّ أنهم بخسوا الألفاظ حقَّها، وكلا الـمَسلكين عيبٌ فضَّاح خير لكَ ألاَّ تقع في شَرَكِهِ، لذلكَ حظيٌّ بكَ أن تعمل على جودة الـمضمون وسحر اللغة، فتصطاد قارئين بنصٍّ واحدٍ، من تعنيهم المواضيع ومن تعنيهم اللغة، وكلاهما يؤتى بهما بعد البحث والدُّربة، وعلى قدر المجهود يكون النوال.

وأحبُّ أن أصحِّح للذين يزعمون أنَّ اللغة "موهبة فطرية" غير قابلة للاكتساب، أنَّ هذا الزعم لا يزيد عن كونه "ذريعة" للعجز، ذلكَ أنَّ مَثل اللغة مَثل بقية العلوم، ما يكون منها بالفطرة لا يعني أبدًا انتفاء كسبها بالممارسة.

وعليه: تأكَّد أن اللغة تكتسب بعد عدمها، وتُصَقَّل بعد كسبها، ما عليكَ إلاَّ أن تكثِّف من قراءاتكَ، ثم ريثما تجدُ نفسكَ شيئًا فشيئًا قد ارتقيتَ لغويًّا، وكوَّنتَ قاموسًا تستطيع التعبير به عن أفكاركَ، ولذلك يرى الفلاسفة القدماء أنَّ عجز الإنسان التعبيرَ عن أغراضه لا يرجع لعدم استيعاب اللغة لأفكارنا، وإنما لافتقارنا إلـى اللغة ذاتها، فلا يوجد فكرة غير قابلة للتجسيد لغويًّا، ولكن يوجد أشخاص لديهم فقر لغويٌّ في قواميسهم.

وهذا ما قال به "هيملتون"، حيث شبَّه الألفاظ والمعاني بظهر الورقة ووجهها
وأكَّده "هيجل" بقوله: "إننا نفكر داخل الكلمات"، أي أننا عندما نفكر فإننا نفكر بالألفاظ.
وعَنَاه"ميرلو بونتي" بقوله: " إن الفكر لا يوجد خارج الكلمات"!

لذلك يجب أن تؤمن أن أفكاركَ السابحة في خيالكَ، يمكن ترويضها باللغة، وأنَّ ما لا يفهمه الناس شعوريًّا يمكننا ترجمته لغويًّا ليسعهم فهمه، لأنَّ اللغة وسيلة لتوصيل أفكارنا.

ولأننا نتحدَّث عن نقل الفكرة، فهنا حقيق بنا أن نتريَّث قبل أن نتحدَّث، فالكلمة ثمينة وليس مجانيَّة، وما من فكرة نُلبسها ثوبًا لفظيًّا دون فحصها إلاَّ كانت مادة مُسرطنة للأذهان قبل الأبدان.

#محمد_خمفوسي
#مدونات_الجزيرة
...المزيد

أرجوكم كفُّوا عن مكافحة الإرهاب: رغم أنَّ موضوع الإرهاب من الـمواضيع التي أُشبعتْ بحثا، بَيْدَ أنه ...

أرجوكم كفُّوا عن مكافحة الإرهاب:
رغم أنَّ موضوع الإرهاب من الـمواضيع التي أُشبعتْ بحثا، بَيْدَ أنه موضوع شائكٌ اختلف فيه المُنظِّرون اختلافًا شديدًا بدءًا بتعريفه مرورًا بظهوره وانتهاءً بآليات مكافحته.

ولأنه صار اليوم ظاهرة تفشَّت على ظهر هذا الكوكب، فقد بات أمر دراستها ممَّا لا ينبغي أنْ يُحاد عنه، لأنّه لا تقدُّم لدولة بلا أمن.
وعليه فما هو الإرهاب؟ وكيف تمَّت صناعته؟ وما هي آليات مكافحته؟

الإرهاب ليس بسفكِ الدماء فقطْ:
حينما تُقرأ الأفكار الـمتطرِّفة في بطون الكتب، أو تُشاهد على شاشات الإعلام، فإنها تنتقل من مرحلة الفكرة إلـى مرحلة التطبيق، فتصير جريمة لا إنسانية يُطلق عليها الإرهاب.
وينبغي لفت الانتباه هنا أنَّ الإرهاب ليس جريمة فعلية فحسب، وإنما هو جريمة شاملة تتَّسمُ بالتطرُّف سواءً كانت جريمة فكرية أو مشاعريَّة أو سلوكية. ولذلك يُخطئ الكثير من الناس حينما يُقزِّمون معنى الإرهاب في دَمَويَّة الـموقف، وينسون أنَّ الإرهاب قضية تتجاوز الدماء، وما أكثر الذين تأرْهَبُوا معنا دون استعمالهم لآلات قاتلة، وقتلونا دون أن تسيل دماؤنا.
فإرهاب الدماء وإن كان ينتمي إلـى إرهاب السلوك، فلا شكَّ أنه وليد مشاعر خبيثة وأفكار متطرِّفة يُمكن اعتبارها إرهابًا صغيرًا قبل الإرهاب الكبير، أو إرهاب ما قبل الإرهاب.

فالحسد كقيمة شعوريَّة سيِّئة هي من جرَّت بقابيل إلـى قتل أخيه هابيل، واختلاف الـمعتقد كقيمة فكرية هو ما جرَّ الخوارج إلـى اغتيال علي بن أبي طالب. فتأمَّل هنا كيفَ تسوق الـمشاعر الخبيثة والأفكار الـمتطرِّفة إلـى السلوكات الدَّموية التي تستهجنها الفطرة السويَّة.

وينبغي أن نستوعب أن الإرهاب متعدِّد الأشكال، ولا يقتصر على استلاب الأرواح فحسب، إذْ هيمنة الدولار الأمريكي والأورو الأوروبي على السوق العالَمية يعتبر إرهابًا اقتصاديًّا، وإهمال إصلاح الطرقات برغم ما تحصده حوادث الـمرور من أرواح يعتبر إرهابًا قاعديًّا، والاعتماد على ترويج الأدوية العلاجيَّة بدل الترويج للأغذية الصحيَّة يعتبر إرهابًا صحيًّا، وتزايد خرِّيجي الجامعات دون توظيفهم يعتبر إرهابًا أكاديميًّا.
الأمر الذي يجعلنا نعي أن الإرهاب ليس بسفكِ الدماء فقطْ.

الإرهاب لا دِينَ له:
من الظلم الاعتقاد أن الإرهاب جريمة لصيقة بدِينٍ ما أيًّا ما كان هذا الدِّين، أو أنه جريمة لها جنسية ما أيًّا ما كانت هذه الجنسيَّة، ذلك أن الجرائم على عمومها لها علاقة بالأشخاص الذين يرتكبونها ولا تتعدَّاها إلـى الدِّين أو الـمواطنة.
الجريمة التي ارتكبت قبل أيام في نيوزيلندا هي وإن كانت ألـيمة في ظاهرها إلاَّ أنها خدمت الإسلام في جوهرها، إذْ كانت سببًا قويًّا في إثبات أنَّ الإرهاب لا دِين له في أذهان غير المسلمين، وبالتالـي أقصت فكرة أنَّ الإرهاب هو وليد الإسلام.
فالإرهاب منذ نشوئه لا يعتنق أيَّ دِينٍ، ولا يحمل أيَّ جنسية، بل هو عابر للقارَّات. لكن الغرب لـمَّا أدرك خطورة الـمد الإسلامي في بلاده أراد تغيير خارطة الطريق، فبرمج ذهنيات الـشعوب إعلاميًّا على أنَّ الإسلام هو من ينتج الإرهاب، رغم أن الإرهاب كمصطلح ظهر أيام الثورة الفرنسية، وكجريمة فجذوره ضاربة في القِدَم، بدءًا من عهد الفراعنة الذين قتلوا كلَّ مخالف لدينهم، مرورا بالـمسيح عيسى عليه السلام واضطهاده من قبل مجتمعه، وانتهاءً بالعصر الإسلامي وما بعده...
فالإرهاب هو من قتل "مالكوم إكس" بأمريكا، وهو من قتل "أنور السادات" بمصر، وهو من قتل "شكري بلعيد" في تونس، وهو من قتل تشي جيفارا في كوبا، وهو من قتل المهاتما غاندي في الهند، وهو من قتل الملك فيصل في السعودية، وهو من قتل غسان كنفاني بفلسطين على يد الموساد الإسرائيلي، فلا يخلو بلد من إرهاب.
وكما أن الإرهاب لا يعترف بالدِّين ولا بالجنسيات، فهو أيضًا لا يميِّز بين شرائح المجتمع الواحد، فقد قتل من رجال الدِّين كذلك الانفجار الذي استهدف جامع الإيمان في دمشق في مارس 2013م، فأودى بحياة رئيس هيئة علماء بلاد الشام "محمد سعيد رمضان البوطي".
وقتل أحد أعمدة السينما العربية المنتج السوري "مصطفى العقاد" مخرج فيلمي "الرسالة" و"عمر المختار"، حيث تسببت تفجيرات العاصمة الأردنية عمان، في نوفمبر 2005م بقتله هو وابنته.
وقتل من أهل الفن كمغني الراي الشاب "حَسْنِي شقرون" الذي راح ضحية له حينما اغتيل أمام منزله بوهران يوم 29 سبتمبر 1994، برصاصتين في الرقبة والرأس.

صناعة الإرهاب:
هناك أشياء كثيرة غذَّت ولا زالت تُغذِّي الإرهاب لعلَّ من ذلك ظاهرة الإقصاء، سواءً كان إقصاءً أدبيًّا كالذين حاولوا اغتيال "نجيب محفوظ" لأنهم اختلفوا معه في روايته "أولاد حارتنا"، أو كان إقصاءً سياسيًّا كالذين اغتالوا هواري بومدين.
ولا يقتصر الإرهاب على الجنس العربي فحسب بل هو شامل للجنس البشري على اختلاف جنسياته ودياناته، فقد اغتيل الرئيس الخامس والثلاثون للولايات المتحدة "جون كنيدي" بل هو رابع رئيس للولايات المتحدة يروح ضحية لجريمة القتل.
واغتيل رجل الدِّين مارتن لوثر كينغ، وأنديرا غاندي ابنة جواهر لال نهرو. وغيرهم كثير.

ناهيك عن الإعلام هو الآخر فإن لـم يكن مراقبًا صنع إرهابًا لا يمكن لمنظمات العالَم أن تكافحه، بل إن الإعلام اليوم يوازي إرهاب الأسلحة، لذلك نحن أحوج ما نكو ن اليوم إلـى صناعة إعلام إسلامي قويٍّ يثبت للعالَم اللاإسلامي أنَّ الإسلام دِين سلام لا دِين حرب، فكيف بقولهم دِين إرهاب؟.

هكذا نكافح الإرهاب:
ولأنه حيثما يكون التطرف يكون الإرهاب لا محالة، صار لا بدَّ قبل محاربة الإرهاب الدَّموي البدء بـمحاربة الإرهاب الفكري والـشعوري.
ذلك أنَّ محاربة الجريمة لا تكون بقتل مرتكبيها ولا بسجنهم، وإنما بهدم الـجسر الوَصُولِ بينهما، أيْ قطع الأسباب التي دعت إليها، لذلك ترى الذين يفشلون في التغيير عادة ما يُقلعون عن الجريمة ذاتها بينما يُبقون على أسبابها، فتراهم بعدها قد عاودوا ممارستها، وهذا خطأ فادح في عملية الإصلاح.
فالـمدخن الذي بدأ التدخين في الـملاهي، لا يُمكنه أن يُقلع عن التدخين وهو ما يزال يرتاد إلـيها، وإذا كان تاجر الـمخذرات الذي مارسَ هذا العمل اللاقانوني في محيط صُحبويٍّ فإنه لن يعزف عن هذه التجارة دون قطع هذه الصحبة. وهلمَّ جرًّا.
فالإرهاب مثله مثل الجرائم الأخرى ينبغي محاربته بقطع أسبابه قبل أن يصبح نتيجة.
وهذه العملية الإصلاحية وردت في القرآن إذ يقول تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} فلمَّا صار الارتكاب نتيجةً للاقتراب، أضحى قطع الاقتراب سببٌ للحدِّ من الارتكاب.
ومثل ذلك في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فلا يصحُّ أن يتناول الإنسان ما يُسكر ثم يراهن على عِلْمِيَّةِ ما يقوله، لأنَّ سُكر العقل يقتضي جهل ما يَنطقه اللسان بالضرورة، فصار ترك السُّكْرِ شرطًا لصحَّة الاقتراب من الصلاة.

ومن الخبراء من أعطى حلاًّ لنزع فتيل الإرهاب بمتنوِّع أصنافه حينما أرجع ذلك إلـى ضرورة توفير الأذن الصاغية للآخرين، في حدود ما هو مشروع شرعًا وقانونًا، فالفرد في عائلته حينما يُمنع من ممارسة حقوقه لا ينبغي أنْ يُلام على انحرافه، وأسقط ذلك على عُموم المجتمعات، فلا ينبغي إقصاء الشعوب عن حقوقها وحينما تمارس الإرهاب تلام وحدها، لأنَّ أول خطوة نحو الإرهاب منع الآخر من حقوقه.
ولذلك تنعمُ الأُسَر التي لا تبخس أفرادها حقوقهم بالراحة، وتنعَمُ الحكومات التي لـم تهضم حقوق شعوبها بالأمن، فتوفير الحقوق يلعبُ دورًا شأنويًّا في الحدِّ من الإرهاب بل قطعه في كثيرٍ من الأحايين.

وعلى الدول العربية اليوم إن كانت صادقة في مكافحة الإرهاب أن تسارع في تأسيس جامعة خاصَّة بمكافحة الجريمة بما في ذلك الإرهاب، شريطة أن تكون مكافحته وفق الـمنظور الإسلامي، علمًا أنَّ الحلول الإسلامية تجعلنا في غُنية عن الحلول الغربيَّة، لا سيَّما تلك الحلول التي تُصادم أعرافنا العربية وقيمنا الإسلامية.
صحيح أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية هي من ابتكرت مصطلح "الحرب على الإرهاب"، عقب أحداث 11 سبتمبر 2001 م، بيد أن هذه البادرة الإنسانية في ظاهرها المجهولة في مضمونها، ينبغي ألاَّ نرتاح لها وبخاصَّة أن الإسلام في نظر الأمريكان هو مصدر الإرهاب.
حتى أن باراك أوباما نفسه حينما قرَّر التخلي عن مصطلح "الحرب على الإرهاب" عام 2010م، وركَّز على ما يوصف بـ"الإرهاب الداخلي"، جاءت الوثيقة تنصُّ "أن الولايات المتحدة ليست في حالة حرب عالمية على الإرهاب أو على الإسلام"، فتأمل كيف يتمُّ الربط بين الإرهاب والإسلام دائمًا.
وهذا ما عبَّر عنه "جلال أمين" بقوله: "هناك دولة ـ خاصة الولايات المتحدة وإسرائيل ـ دأبت على استخدام الإرهاب لوصم كثير من الأعمال المعادية لها، بل ولتبرير شن حروب ضد دول لا خطر منها، لتحقيق أهداف غير معلنة، ولا تتفق مع المبادئ الإنسانية السائدة، فيقال بدلا من ذكر الحقيقة إن الحرب شُنت لـمكافحة الإرهاب".

والذي يعزب عن أذهان كثير من الناس أن "مكافحة الإرهاب" باتت اليوم تجارة رائجة لدى الغرب، إذْ جعلوا منها مشروعًا لإعادة الشعوب إلى بيت الطاعة، واحتلال أراضيهم واستنزاف خيراتهم، فالغرب لا تعنيه "مكافحة الإرهاب" بقدر ما هم يدور مع مصالحه حيث دارت، وبالتالي لا يُعقل لدولة تعادي الإسلام أن تحارب الإرهاب في بلدٍ مسلم.
لذلك علينا اليوم تبني آليات "لـمكافحة الإرهاب" ذات صبغة إسلامية، بعيدًا عن تلك الحلول الـمستوردة من أمريكا وأخواتها، وعليه قولوا لأمريكا: أرجوكم لا تُكافحوا الإرهاب عندنا، فمن يصنعون الإرهاب في مناطقنا لا يُمكن يومًا أن يكونوا سببًا في مكافحته.
...المزيد

نجيب محفوظ بين جائزة نوبل وطعنة السكين: "عندما تتعرَّض لصدمات في حياتكَ، تأكَّد أن عقلكَ سيصبح ...

نجيب محفوظ بين جائزة نوبل وطعنة السكين:
"عندما تتعرَّض لصدمات في حياتكَ، تأكَّد أن عقلكَ سيصبح أكبر من سنكَ بكثير"

- نجيب محفوظ

في 11 ديسمبر 1911م أنجبت القاهرة هرمًا من أهرامات مصر، لم تكن ولادته قطُّ سهلةً، الأمر الذي دعا والده لتسميته بِاسْمِ الطبيب الذي سهَّل ولادته "نجيب باشا محفوظ".

إنه أول روائيٍّ عربي حاز على جائزة نوبل في الأدب. دخل النجيب مضمار الكتابة عام 1930م وظلَّ يعاركُ فيه حتى 2004م؛ أي ما يعادل 74 عامًا عاش فيها الكتابة والقراءة بما يشبه الشهيق والزفير، متأثرًا بمصطفى لطفي المنفلوطي، ومحمود عباس العقاد، وجيمس جويس، وفرانز كافكا، ومارسيل بروست..

ابن المقاهي الشعبية في مصر، جالسًا على كرسيه المعتاد بقهوته المعتادة بجرنالها المعتاد في ذلك الركن المعتاد ما يزيد عن ثمانين سنة، يتحمل ما تسمع أذناه وترى عيناه، ليغدقَ علينا بأدبٍ يوجِّه كاميرات العالم وأنظار الصحف العالمية إلى الأدب العربي.

عَبَرت رواياته القارات الخمس، رغم أنه لـم يسافر خارج مصر إلاَّ مرتين أو ثلاث، مِصْرُ التي دارت جميع رواياته في فلكها، في حارة تعادل العالَم، وأدبٍ صنِّف بالواقعي تتخلَّله بعض المواضيع الوجودية، ليصير بذلكَ أكثر أديبٍ عربي حُوِّلت أعماله إلى السينما والتلفزيون.

وفازت جائزة نوبل بنجيب محفوظ:

إن أوّل من تنبأ لنجيب محفوظ بجائزة نوبل هو عميد الأدب العربي د. طه حسين وأشاد له برواية "بين القصرين"، لتحقق نبوءته في ظهيرة يوم 13 أكتوبر 1988، عندما عاد نجيب من عمله ليهنأ بقيلولته كعادته، ظل اليوم عاديا حتى دق جرس الهاتف، لترد زوجته وتجد أحد محرري "الأهرام" يريد أن يبلغه خبر فوزه بالجائزة.

البداية كانت حين تُرجمت ثلاثيته "السكرية "و"قصر الشوق" و"بين القصرين" إلى الفرنسية، فلما نالت حظوتها من الشهرة تابعته لجنة نوبل لتختار 06 روايات له لمراجعتها، منها "أولاد حارتنا" و"ثرثرة فوق النيل" و"الثلاثية".

ويخطئ الكثير إذْ يظنون أن نجيب حاز على نوبل بفضل روايته: "أولاد حارتنا"، والحقيقة أنه نالها بفضل أعماله الخمسة التي تُرجمت إلـى خمس لغات، وهذا الذي صرَّحت به ابنته أم كلثوم. شاع الخبر داخل مصر وخارجها، ولـم يبقَ إلا أمر تسلِّمها، لكن حالة نجيب الصحيّة حالت بينه وبين السفر للسويد لاستلامها، فتسلّمتا ابنتاه الجائزة نيابة عنه، وألقى محمد سلماوي الخطاب باللغة العربيّة قبل إلقائه بالإنجليزيّة كما أوصاه نجيب قائلاً: "آن الأوان أن يسمع جرس اللغة العربية بين جدران الأكاديمية السويدية العريقة" فسُمِع!

لماذا طُعنَ نجيب محفوظ؟

ألَّف نجيب رواية عام 1959م سمَّاها "أولاد حارتنا" أثارت الرواية زوبعة جدلٍ واسعة، ووُصفت بالرواية الإجرامية التي تطاولت على الذات الإلهية وأهانت الذات النبوية، منذ نشرها مُسَلْسَلَةً في صفحات جريدة "الأهرام".

الأمر الذي حدَا إلى تكفيره واتهامه بالإلحاد والزندقة، وسُوِيَ بينه وبين سلمان رشدي صاحب رواية "آيات شيطانية"، فأُفتيَ بقتله.

مُنع إصدار الرواية بمصر، فانتظرت ثلاثة سنوات حتى رأت النور عام 1962م عن دار الآداب اللبنانية، فمنع دخولها إلى مصر رغم أن نسخا مهربة منها وجدت طريقها إلى الأسواق المصرية.

ولـم تنشر الرواية في مصر إلاَّ عام 2006م عن دار الشروق؛ أي بعد مُضيِّ 44 عامًا عن إصدارها الأول وهو العام نفسه الذي غادرنا فيه نجيب محفوظ.

نجيب محفوظ تحت مطرقة النقد:

صحيح أنَّ نجيب محفوظ واحدًا من جملة الأدباء الذين اختلفوا فيهما اختلافًا كبيرًا، فمنهم من رفعه إلى درجة التقديس كونه مؤسس الرواية العربية، ومنهم من ساواه بإبليس كونه خدش الحياء وتجاوز حدَّه الأدبي إلى ازدراء الأديان وتشخيص الذات الإلهية تحت اسم "الجبلاوي" بطل رواية "أولاد حَارِتْنَا"، وبين هذا وذاكَ تبقى موضوعيَّة النقد أهمَّ من عاطفة الانحياز.

وفي الجانب الآخر رأى الكثير من النقَّاد أن رواية " أولاد حارتنا" دُرة إنتاج الأديب العملاق، وردُّوا على الذين طعنوا فيه أنهم لم ينظروا إلى الرواية من ناحية أدبية صحيحة ولم يدرسونها بنقدية موضوعية، ولم يحاولوا أن يناقشونها مع كاتبها.

تحدَّثوا عنه بالسوء حتى عرَّفوا به العالَم، ومن النقدِ ما يصنعُ شُهرةً، وتحاملوا على نقده حملة لـم ير مثلها في البلاد، فصدق فيه بيت أبو العلاء المعرِّي:

وما ضرَّني غيرُ الذينَ عرفتُهُم

جزَى اللهُ خيرًا كُلَّ من لستُ أَعرفُ

ومن النقاد من ذهبَ إلـى أن نوبل أكرمت نجيب بالجائزة لا لأنه ازدرى الأديان وشخَّص الذات الإلهية فحسب، إنما عن مباركته السياسية للسلام مع الكيان الإسرائيلي أيضًا.

ومنهم من طعن في أسلوبه في الكتابة كونه لا يختلف كثيرًا عن أساليب الصحف والجرائد، لكن أصدق النقد ما نقده به سيد قطب إذ كتب مشيدًا بأعماله: "على النقد اليقظ أن يكشف أن أعمال نجيب محفوظ هي نقطة البدء الحقيقية في إبداع رواية قصصية عربية أصيلة".

وطعنه الذي لم يقرأ له حرفًا:

بعد مسيرة أدبية حافلة بمؤلفات رَبَتْ عن الخمسين، في عصر جمعة 14 أكتوبر 1994م، خطّط شابين لقتل قامة أدبية له باع طويل في الأدب، فالذين حاولوا قتل نجيب محفوظ لـم يسعوا لذلك بغية شخصه، بل لإيقاف الفكر الذي يحويه هذا الشخص، وإلاَّ فأيُّ فائدة مرجوة من قتل رجل شارف الثمانين حولاً؟

يريدون بذلكَ اغتيالَ صوت الرواية، لأنهم يعتقدون أن رسالة الكلمة إذا لمْ تكنْ مصبوغة بالدِّين فلا يليقُ بصاحبها إلا حجْرُها في حنجرته، وإلا ذبحوه من حُنجرته! أرادوا قتله ليقتلوا فيه أدبه، لكن ليس بالسكين يُسكتُ القلم الحر، يقول وينستون تشرتشل: "إن بريطانيا العظمى مستعدة للتنازل عن جميع مستعمراتها في العالم، لكنها لا تستطيع التنازل بأي حال من الأحوال عن سطر واحد كتبه شكسبير".

لكن نجيب محفوظ كان محفوظًا ونجيبًا، وآثر استمرار قلمهِ، ومن ظنّ أن السكين تُسكتُ القلم الحر فواهم مسكين، وربَّ محاولة اغتيال عظَّمت المستهدف وصغَّرت الهادف، وذلك مع حدث مع نجيب فقد حاولوا قتله ولم يعلموا أنهم زادوا من حياته! البداية كانت حينما شقَّ فيها أديب نوبل طريقه إلى ندوته الأسبوعية في مقهى قصر النيل كعادته، إذا بآلة حادَّة تُنشب في رقبته، غرسها الجاني في أعصابه وتمكن من قطعها، ممَّا أثر ذلك على أعصاب أطرافه.

طعنة كان فيها "محمد ناجي" هو المجرم و"نجيب محفوظ" هو الضحيَّة، طعنة كانت غائرة احتاج فيها هذا الأخير خمس ساعات في غرفة العمليات، وثلاثة عشر عبوة من الدم لإنقاذه، ولولا حذاقة طبيب الأوعية الدموية موفَّقًا بالعناية الربانية لصار نجيب محفوظ في خبر كان!

حينها أصدر الرئيس حسني مبارك توجيهاته بعلاجه على نفقة الدولة، وعمرٌ آخر كُتب لنجيب محفوظ، وظل في المستشفى أيامًا معدودات سنحت فيها للشيخ محمد الغزالي بزيارته، هذا الأخير الذي كان ضدَّ نشر " أولاد حارتنا".

وأكَّدَ الجاني محمد ناجي أنه لم يقرأ أي رواية للنجيب، وأوضح أنه حاول قتله تنفيذًا لفتوى عمر عبد الرحمن مفتي الجماعة الإسلامية آنذاك، مثلها مثل فتوى الدكتور محمد مزروعة الذي كان قد أفتى لاغتيال فرج فودة.

وعلى رأس الذين كفَّروا نجيب محفوظ الشيخ عبد الحميد كشك الذي كتب كتابه "كلمتنا في الرد على رواية أولاد حارتنا".

بعدما مكث نجيب محفوظ في المستشفى سبعة أسابيع استفاق من غيبوبته ليقول متحسِّرًا في حديث لـ "الأهرام": "الشاب الذي رأيته يجري كان شابًا يافعًا في ريعان العمر، كان من الممكن أن يكون بطلاً رياضيًا أو عالمًا أو واعظًا دينيًا، فلماذا اختار هذا السبيل لست أفهم؟!"

والأكثر غرابة أن أشرف العشماوي مسؤول التحقيق وقتها صرَّح أن الجاني محمد ناجي كان لا يعرف اسم نجيب محفوظ، وكثيرًا ما كان يسمِّيه بـ "محفوظ نجيب"!
...المزيد

رُبَّ مُفَسْبِكَةٍ ضارَّة نافعة: كتبتُ بالأمسِ منشورًا ما كنتُ أحسبُ أنه يُثير حفيظةَ الكثير ممَّن ...

رُبَّ مُفَسْبِكَةٍ ضارَّة نافعة:
كتبتُ بالأمسِ منشورًا ما كنتُ أحسبُ أنه يُثير حفيظةَ الكثير ممَّن كنتُ أعتقدُ أنهم على رُتبة عالية من الأخلاق، لكنَّ معادن الناس تُكشف عند الاختلاف، وعندما توضع صفيحة الذهب على النار يُعلم خُلوصها من غشِّها!

منهم من شكَّك في مستوايَ العقلي ولا عجب، لا سيَّما وأنّ هناك صنفٌ من البشر يتعمَّدون توصيفكَ بما يُخالفُ حقيقتكَ تمامًا.

كما قيلَ عن رسول اللّه صلَّى اللّه عليه وسلَّم "مجنونٌ"، وهو أعقل آدميٍّ ركَّبَ اللّه صورتهُ!

وكما قيلَ عن عائِشَتُنَا في حادثة الإفكِ "زانية"، وهي الحَصَان الرَّزان، الصِّدِّيقةُ بنتُ الصِّدِّيق، أطهر من الصبح «إِذَا تَنَفَّسَ»!

لكنِّي أقول لكل من تُسَوِّل له نفسه المَساس بعرض أحدٍ ذكرًا كان أم أنثى:

ـ ستلقى نظير مَساسكَ من يمَسُّ عرضكَ، والضرر عند العقابِ أشد منهُ عند بَدْئه.

المنشور باختصار شديد ومفيد، وضعه صاحبهُ كفكرة للنقاش، وليس كلُّ ما يُنشر يُعبِّر عن رأي الناشر، الكثير من المنشورات ننشرها ليُعرب الآخرون عن آرائهم!

بل ولا ضير حينما يُمثِّلني كل ما أكتبه، إذْ لا أحد يملك الحقَّ على أحدٍ في أن يُملي عليه ما يكتبه ممَّا يكبُته، وما يُصرِّح به ممَّا يلمِّح عنهُ، ولو أن يكون الحق بمثقال: «حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ»!

كما أنّ "شَعرة معاوية" التي بينكَ وبين الناس ينبغي ألاَّ تُقطع، فإنْ أبيتَ إلاّ قطعها فأنت لا ريبَ صاحبُ عيبٍ، ومثلكَ يُستغنى عنه ولا يُستغنى بهِ.

ويُنزع من قائمة الأصدقاء نَزْعَ الشَّعرة من العجين، وما أكثر الشَّعر في عجينِ طحينِ آخر زمنٍ!

(فقال قائل: ومِن قلة نحن يومئذ؟

قال: "بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل").

وغُثاء السيل في الفيسبوك يربو عن غثاء السيل في الواقع، فالأخلاق في النهاية أرزاق، وعلى قدر أخلاقكَ تكون ردودكَ، وشتَّان شتَّان بين دخان عود البخور وعودٍ عاديٍّ كسائر الأعواد..

من أكثر الدروس التي أمدَّتني بها السنة الماضية، ألاَّ أحشرَ أنفي في أخلاق الناس، ولا أُطيلُ لساني في أعراضهم..

فالسارقُ سارقٌ على نفسه، والزانية زانية على نفسها، ولَأَنْ يَسلم لساني منهما خيرٌ لديني ودُنيايَ.

ورحم الله عمر بن عبد العزيز حينما سُئل عن علي وعثمان، وصفين، وما كان بينهم؟

فقال:

ـ "تلك دماء كَفَّ الله يدي عنها، وأنا أكره أن أغمس لساني فيها"!

لله درُّه وعلى الله برُّه، نطقَ فصدقَ، إذْ ـ وربُّ الكعبة والمدينة ـ لا خير في فتنةٍ يُنزِّهُ اللّه يدكَ عنها، فتُلطِّخُ لسانكَ بها!

وعَوْدًا على بَدْءٍ..

جاءَ في المنشور:

ـ " إذا سمعتَ أنّ امرأةً أحبَّت رجلاً فقيرًا، فاعلمْ أنها مجنونة، أو فاذهبْ إلى طبيب الأذنين"!

المقولة بعيدًا عن ظاهرها المُضحك، وجوهرها المُبْكِ، توصيفٌ لواقعٍ مُعاشٍ لا يُنكره إلاَّ جاحدٌ ليس إلى إقناعه سبيل، فضلاً عن وجود ثُقبةِ أمل..

نُشرت المقولة ليَعلم صاحبها مدى صدقها من كذبها؟

وما هي الأسباب التي تجرُّ النساء جَرًّا إلى المال؟! حتى إنكَ ترى فيهن من تترك الرجل الصالح بسبب فقره، إلى الفاسد لأجل غناه!

وليس في المقولة أي "عموم"، لأنّ صاحب المنشور يؤمن أنّ لكل عموم تخصيص يخرجُ عنه.

لا سيَّما وأنّ هناك نساءٌ رفضن رجالاً أغنياء لفساد أخلاقهم، وقبلن برجال فقراء لصلاح أخلاقهم.

بل إنّ فيهن من رفضت رجلاً غنيًّا رغم صلاحه، إلى فقير رغم فساده.

لكن أن تأتي (مُفَسْبِكَةٌ) إلى حسابي، وتسبُّني طُولاً وعرضًا، كون المنشور قد جرح كرامتها، فهذا ما لا أرضاهُ لي ولا لغيري..

(ولكم فيسبوككم، ولي فيسبوكي)!

أما المبدأ العسكري: (تبكِ أمكَ، ولا تبكِ أمِّي)، فو الذي نفسي بيده لأَمْسَحَنَّ الأرضَ بوجهها طولاً وعرضًا.

وبعد أن أسكتها ردًّا تلك الشابة الشمْطاء، عليها من الله ما تستحق..

خرجت لي أخرى قالت عن المنشور بعبارة مُقتضبة:

ـ " تفاهة"!

والحمد لله أنها تَفَّهَت المنشور لا الناشر، ولو أنّ تَتْفِيه هذا من تَتْفيهِ ذاكَ..

لكني لنْ أبخلها في الردِّ، وليتها تقرأ ما كتبتُ عنها في عجالة عساها تتربَّى قليلاً.

رغم أنّني أؤمن أن الفتاة التي يفشل من ولداها في تربيتها، لا ينجحُ سواهما في ذلكَ.

لو فقط كانت لديكِ "بذرة حياء"، لما تجرَّأتِ على وصف المنشور بهكذا وصف، ولكن لأنّ "كل إناء بما فيه ينضح"، فلا أملكُ أنْ أُنطقَ لسانكِ بالعسل وقلبكِ مليءٌ بالقَطَران..

لا أملكُ أن أجعل من لسانكِ مَرْيَمِيًّا، وقلبكِ أوسخُ من قلبِ (بقرات إبليس) اللاَّتي تحرّشن بيوسف، ولمَّا أعرض عنهن سجننهُ!

ولا أملكُ أن أعيد تربيتكِ، لأنني مؤمنٌ أن الذي فشلَ والدها في تربيتها، لا أحد يقوى على تربيتها وإن كان المُربِّي زوجها، كيف والخالُ مُفسبكٌ مثلي بيني وبينها جبال ووديان وصحراء؟!

وما أكثر ما يكون الناسُ شُجعانًا عند تباعد المسافات..

وأزيدكِ من القصيدِ بيتًا:

إن كتبَ الله ووصلكِ منشوريَ هذا، فلا تأخذكِ العزة على نفسكِ، ويحمى أنفكِ عليَّ، " فالبادي أظلم".

وإن زدتِ زدتُ..

والسلامُ عليَّ يوم نشرتُ، ويوم علَّقتُ، ويومَ أُحظرُ حيًّا..
...المزيد

هكذا سوَّد بِيضُ البشرة حياة "مالكوم إكس": "إنَّ حسن المعاملة لا تعني شيئًا ما دام الرجل الأبيض لن ...

هكذا سوَّد بِيضُ البشرة حياة "مالكوم إكس":
"إنَّ حسن المعاملة لا تعني شيئًا ما دام الرجل الأبيض لن ينظر إلي كما ينظر لنفسه، وعندما تتوغَّل في أعماق نفسه تجد أنه ما زال مقتنعًا بأنه أفضل مني" الشهيد مالكوم إكس.

عندما تجتمع البشرة السوداء بالحظِّ الأسْود

وُلد في عائلة سوداء البشرة والـحظ، من صُلبِ والدٍ عمِلَ قسيسًا يعيل العائلة ممَّا يجمعه من الكنائس، فكان كثيرًا ما يأخذه معه إلى الكنيسة، أحبَّ والده بشرة ابنه الفاتحة قليلاً، أمَّا أمه فكانت تقسو عليه لذات السبب وتقول له: "اخرج إلى الشمس ودعها تمسح عنكَ هذا الشُّحوب"، لا تتساءل من يكون؟ طبعًا إنه "مالكوم إكس"، المعروف بـ "الحاج مالك الشباز". وُلد "مالكوم إكس" في 19 ماي 1925م، من عائلة مسيحيَّة أمريكيَّة الجنس إفريقية الأصل، كان الولد الرابع من بين ثمانية أولاد، أنجبته أمه وعمرها ثمانية وعشرون عامًا. كانت حياة عائلته عبارة عن سلسلة من النكبات؛ إذْ لم يترك الرجل الأمريكي الأبيض شيئًا أسْودًا ولم يمارسه مع "مالكوم إكس"، لا لشيء إلاَّ لأنه أسْود البشرة.

وبدأ لونُ السواد في حياته يزداد قتامةً من لـمَّا أحرقوا منزل عائلته من قبل منظمة "كوكلوكس كلان" العنصرية، ليُقتل بعدها والده بصورة وحشية عام 1931م على يد جماعة عنصرية بيضاء وهو بعد ابن ستِّ سنوات، كما قتلوا أعمامه الستَّة قبلها. حيث هشموا رأسه ووضعوه في طريق حافلة كهربائية دهسته حتى فارق الحياة، وتم اتهام والده لاحقًا بالانتحار، فكانت صدمة ثقيلة للأسرة وبخاصة الأم التي ترمَّلت بعمر 34 عامًا، فاضطرَّت أن تعمل خادمة في بيوت البيض لتعول ثمانية أطفال تركَ بعضهم الدراسة، لكن سرعان ما طُردت هي الأخرى لأسباب عنصرية.

لمَّا تردَّت أحوال عائلته بذلت الأم جهدها لكي تحظى بمعونة اجتماعية، إلاَّ أن الهيئات الاجتماعية حالت دون إعطائها، بُغية إلجاءها إلـى تسوُّل الصدقات التي كانت تأباها حفظًا لـماء وجهها، فجاءت قسوة فقر 1934م ليُصبح الأخْوة السُّود تحت رعاية دولة بيضاء شتَّتتهم على بيوت مختلفة، وتحكَّم الأبيض في الأسود بمقتضى القانون. وفي ظل هذه الظروف السوداء أصيبت الأم بصدمة نفسية أحالتها إلـى مستشفى الأمراض العقلية سنة 1939م، تاركة أطفالها يتجرَّعون يُتمًا تزاوج بين القتل والجنون، فجاء اليوم الذي شبَّ أبناؤها وقويَ ساعدهم فأخرجوها من الـمصحِّ بعد أن قضت فيه 26 سنة عادلت نصف حياتها.

لعنةُ "الـزنجي" تلاحق مالكوم إكس كالظل

رغم ما أوتيه "مالكوم إكس" من عضلات مفتولة تستجلبُ الإعجاب، إلاَّ أنه لم يُرَ في أعين البيض إلاَّ خنزيرًا لا شعور له ولا إدراك، ولو أنه كان أبيضَ البشرة لاعتبروه بطلاً عالـميًّا في كمال الأجسام، فكان من البداهة أن تنمو بذور الكراهية والعنصرية فيه تُجاههم. حتَّى وهو في السجن ظلَّت صفة "الزنجي" تلاحقه كظلِّه، ولـم يشفع له تفوُّقه في التاريخ واللغة الإنجليزية أن يُرى آدميًّا بين أقرانه، بل لقد خافَهُ أساتذته من لـمَّا تفتَّق ذهنه وأبان عن نبوغه وعبقريته فلجأوا إلـى السخرية منه ليحطِّموه نفسيًّا. إلاَّ أن ذلكَ لـم يُثنه قيد أُنملة، وضربَ باستخفافهم عُرضَ الـحائطِ ليتخرَّج من الثانوية متفوِّقًا على زملائه نائلاً أعلى الدرجات.

عندما يقود إحباط المعلم التلميذ إلى السجن

فـي نهاية المرحلة الثانوية أبان الطلبة عن أمنياتهم المُستقبلية، شجَّعهم أستاذ التاريخ إلاَّ صاحب اللون الأسود الذي تمنَّى أن يُصبح محاميًا، فقد نصحه أنَّ المحاماة مهنة غير واقعية له لأنه زنجي وأن عليه أن يعمل نجَّارًا، الأمر الذي كسرَ جناح الأمل لديه، وتوَّجع لسماعها وجعًا جعلها نقطة تحوُّلٍ في حياته.

هنا تُدرك أنَّ الانحراف الـسلوكي لـ "مالكوم" بعدها لـم يكن وليد اختياره، بقدر ما كان نتيجة أسباب تعمَّدها بيضُ البشرة معه، لا سيَّما ذلك الأستاذ الذي قطع خيط الأمل بينه وبين المحاماة. ها هو مالكوم يترك الـمدرسة شاقًّا طريقه إلـى جنَّته نيويورك، وفـيها انتقل بين الـمهن الـمهينة من نادل في المطعم فعامل في السكك الحديدية إلى ماسح أحذية في الـمراقص حتى أصبح راقصًا يشار إليه بالبنان.

وعندها احلوَّت في عينيه حياة الطيش والضياع مارسَ "مالكوم" أصناف الإجرام، بدءها بتدخين السجائر فشرب الخمور والقَوَادَةِ، بل لقد ادَّعى الجنون ليتجنَّب التجنيد الإجباري إبَّان الـحرب العالمية الثانية، وشيئًا فشيئًا أخذ يلعب القمار ويتعاطى الـمخذرات ثم لـم يلبث أن اتَّجر فيها، وتعدَّى الأمر به إلـى سرقة المنازل والسيارات... ولمَّا تورَّط مالكوم في طريق الجريمة، كان مصير السجن أمرًا منتظرًا، فجاء اليوم الذي ألقت عليه الشرطة القبض هو ورفاقه عام 1946م، كلِّ هذه الانحرافات السلوكية وهو دون الواحد والعشرين من عمره، وبعد جملة أستاذه: "المحاماة مهنة غير واقعية لكَ لأنكَ زنجيٌّ"!

حينما حوَّل السجن مالكوم إكس إلى داعية:

لـمَّا كانت طفولة مالكوم بائسة يائسة خلَّفت تشوُّها في منظومته الخُلقيَّة؛ إذْ تسكَّع وتطفَّل وسرقَ حتى طُرد من المدرسة وهو ابن السادسة عشرة من العمر، وأُودع السجن وهو بعمر العشرين سنة 1946م، وهناك حُكم عليه بعشر سنوات سجنًا. في السجن تأنسنت أخلاقه وتهذَّبت طباعه، لا سيَّما حينما تأثر بـ "بيمبي" السجين الذي كان يتحدَّث عن الدين والعدل، شيئًا فشيئًا اهتدي مالكوم للإسلام، لا سيَّما حينما اعتنق جميع إخوته الإسلام على يد "محمد إلايجا" الذي كان يترأَّسُ حركة "أمة الإسلام"، وهناك أُتيح له الانضمام إلـيها، حتى صار يُناظر ويُحاضر داخل السجن للدعوة للإسلام. وممَّا صقل شخصيته تحويله إلى سجن كان يحاضر فيه أساتذة جامعيين من هارفارد وبوسطن يحوي مكتبة ضخمة بها عشرة آلاف مجلد، فرأى أنه لا سبيل لإنهاء عصر سيطرة الشيطان الأبيض من اعتناق الإسلام.

بعد ست سنوات أُطلق سراحه عام 1952م فكانت الشهرة بانتظاره، وبعد عقد من الزمان صار مالكوم المتحدث الإعلامي لحركة "أمة الإسلام"، بيد أن هذه الـحركة كانت شاذة عن الإسلام في أيديولوجياتها، لا سيَّما اعتبارها أن الإسلام دين للسودِ فقط، الأمر الذي جعل مالكوم يقع في تصادم معها قبل أن ينسحب منها.

فلسفة "الضجيج البعضي"

وممَّا زاد من معاناة "مالكوم" أنَّه كان هو وعائلته الزنوج الوحيدين بالمدينة؛ لذا كان البيض يطلقون عليه "الزنجي" أو "الأسود"، حتى خالَ أنهما جزءٌ من اسمه، وما أشدَّ قسوة الحياة حينما تولد في بيئة يُنظر لكَ فيها أنكَ أنقصُ من أهلها، لكنه لـم يستسلم لهذا التوصيف الدوني، ووقفَ ضدَّه بالـمرصاد، حتى أنه كان حينما يعود من مدرسته إبَّان طفولته يصرخ مطالبًا بالطعام ويصرخ ليحصل على ما يريد، الأمر الذي حدَا به إلـى القول: "لقد تعلمتُ باكرًا أنَّ الحق لا يعطى لمن يسكت عنه، وأن على المرء أن يحدث بعض الضجيج حتَّى يحصل على ما يريد".

ها هو مالكوم إكس يعلِّمنا فلسفة جديدة تسمَّى: "الضجيج البعضي" للحصول على ما نُريد، هذه الفلسفة التي طالت حتى السياسة فصارت بعض الشعوب تُظاهر ضدَّ حكَّامها دون تخريب كما حدثَ بالجزائر العامرة في جمعة 22 فبراير 2019م حينما خرج الشعب على بكرة أبيه ضدَّ العهدة الخامسة بحلَّة سلميَّة تجلَّت واضحة في باقة من الصور أدَّوا فيها صلاة الـجمعة، وأهدى فيها الـمتظاهرون الورد لرجال الأمن، وكما حدثَ قبل نصف عام في الـمملكة الأردنية الهاشمية حينما تظاهر الشعب بوعيٍ إلـى درجة أنَّ رجال الشرطة شاركوا الـمتظاهرين صفوف الصلاة!

وهكذا اغتيل "مالكوم إكس"

كان "مالكوم إكس" واحد من جملة الذين تغيرت أفكارهم 180 درجة، حتى أنه أسف أسفًا دامعًا على سابق أفعاله، إبَّان كان متحدثًا باسم حركة "أمة الإسلام" التي غذَّى فيها أفكار العنصرية بين الأمريكيين البيض والسود، قبل تركها عام 1964م ليصير سُنِّيًّا. ورغمَ كلِّ الـحياة السوداء التي عاشها وعُيِّشها "مالكوم"، لكنه فـي النهاية آثر أن يرحل تاركًا سيرة بيضاء، مفادها أنَّ الذين يُقتلون في سبيل رسالة نبيلة يزدادون حياةً فينا بدءًا من ساعة مقتلهم، ففي اللحظة التي يتهاوى فيها المفكر من منصة الإعدام، تُصك شهادة الميلاد الأبدية لأفكاره، قُتل سقراط في القرن الرابع قبل الميلاد وامتد الزمن بفلسفته إلى يومنا هذا، أعدم سيد قطب فأعادت أفكاره صياغة العالم وغيرت مجرى التاريخ، إعدام الأجساد يساوي خلود الفكرة، والفكرة أخطر لو كانوا يعلمون.

قبل 54 عامًا وثلاثة أيام، تحديدًا فـي 21 فبراير 1965م أقدم ثلاثةٌ من أعضاء حركة "أمة الإسلام" على اغتياله، وهكذا اغتيل "مالكوم إكس" واحدٌ من أعظم الإفريقيين الأمريكيين وأكثرهم تأثيرًا على مر التاريخ. فرحم الله الشهيد الأسْوَد الذي ردَّ للسودِ إنسانيتهم...
...المزيد

الاعتراف بالذنوب لا يعني أبدا الحديث بها للناس... بل أن تظلَّ نُصب عينيكَ كي تحول دون ارتكابكَ ...

الاعتراف بالذنوب لا يعني أبدا الحديث بها للناس...

بل أن تظلَّ نُصب عينيكَ كي تحول دون ارتكابكَ لذنوب أخرى.

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً