الرسائل الأُرْطُغْرُلِيَّة: لـم يكنْ مسلسل "قيامةُ أُرْطُغْرُلْ" مجرَّد مسلسل دراميٍّ كباقي ...

الرسائل الأُرْطُغْرُلِيَّة:
لـم يكنْ مسلسل "قيامةُ أُرْطُغْرُلْ" مجرَّد مسلسل دراميٍّ كباقي الدراميات العابرة، بل كان مسلسلاً مليئًا بالرسائل التي تغنيكَ بدروس حياتية وخبراتٍ تاريخية دون حاجتكَ لأنْ تكبر في عمركَ أو تُلدغَ من جُحركَ، لعلَّ من أجلِّها:

01 ـ خدمة الدولة للدين:

وظهر ذلك جليًّا في حِرص رجل السياسة على تمثّل القيم الإسلاميّة خطابًا وممارسةً، وقد ظهرت إسلامية الدولة في رجوع "أرطغرل" إلـى الدستور الإسلامي الذي مُثِّل في شخص الإمام الأكبر "محيي الدين بن عربي" هذا الأخير الذي بنى توجيهاته على مناط الوحيين "القرآن والسنة" والصحابة والتابعين والصالحين...

فكان الدين في قلب "ابن عربي" والسيف في يد "أرطغرل"، من أجل إفادة الـمسلم أنَّ الفتوحات الإسلامية لا بد لها من كتاب يهدى وسيف ينصر.

ويجدر التنبيه هنا إلـى التفريق بين عَلَمين أشهر من نار على جبل، وهما: الإمام الـمالكي الـملَّقب بـ" القاضي أبو بكر بن العربي"، وبين أشهر الصوفيين وإمام العارفين "محيي الدين بن عربي" والـملقَّب بـ "الإمام الأكبر" و "الكبريت الأحمر" كناية عن نُدرته.

وكلاهما أندلسيان، ويشتركان في اسم الشهرة "ابن العربي"، بيد أنَّ من العلماء من مايز بينهما في الكتابة، فجعل الألف واللام في "ابن العربي" للقاضي الـمالكي "أبو بكر بن العربي"، أمَّا "محيي الدين ابن عربي" الصوفي الذي مثَّل في "قِيَامَةَ أُرْطُــغْرُلْ" فيكتب بدون الألف واللام.

02 ـ خطر خيانة الداخل أكبر من خطر عدوّ الخارج:

تعدَّدت صور الـخيانة والانقلابات في الـمسلسل سواء لصالح البيزنطيين كما في شخصيّة الأمير "سعد الدين كوبيك" مثلاً، أو لصالح المغول كما في شخصيّة الأمير "بهاء الدين".

فجاءت الرسالة واضحة كعين الشمس أنَّ العدو الذي يعيش داخل حدودنا أخطر من عدونا الذي يعيش خارجها، وأن جسم الأمة لا يتمزَّق على يد الأعداء فقط، أيضًا على يد الخونة.

لا سيَّما أن بطل الـمسلسل "أرطغرل" قد مات غَيْلَةً في الحلقة الأخيرة على يد وزير الدولة "سعد الدين كوبيك" التي عمل أرطغرل على حمايتها.

03 ـ شوكة تركيا كثيرًا ما تقوى بعد ضعفها:

كان الـمسلسل من أول حلقاته يهدفُ لغاية مقصودة، وهي بناء دولة تجمع شتات القبائل التركيّة، تجلَّت بعدها الدولة العثمانية العليَّة التي تأسست على يد "عثمان غازي بن أرطغرل".

فمن كان ليصدِّق أن الدولة العثمانية هي وليدة خيمات مشتتة توحَّدت بعدها؟

04 ـ تصوير معاناة القبائل الـمشتتة:

أبدع السيناريست في توصيف معاناة القبائل التركيّة المشتّتة، ليقنع الـمشاهد التركي أن فكرة "الدولة الواحدة" فكرة رئيسة لا ينبغي أن نحيد عنها تفكيرًا ولا ممارسة، وأن نبلغ في سبيل تأسيسها النفس والنفيس.

05 ـ الوجه الحسن للإعلام:

لا سبيل لتغيير قناعات الآخرين القديمة ولا لزرع قناعات جديدة مثل الإعلام، وكأن صُنَّاع الـمسلسل قد عرفوا أنَّ عالَم اليوم هو عالَم الصورة، لذلك ضربوا على هذا الوتر الـحسَّاس، فأبدعوا في تَقَنية الإخراج ولغة النص، حتى اكتست صور المقاطع المعبرة مواقع التواصل وأُفرد لها حسابات وصفحات خدمت المسلسل من حيث لا يدري صُنَّاعه.

ففي الوقت الذي لا نملك فيه سنداتٍ تاريخية عن أسلافنا، من الـمستحسن حينها أن يكون الفن هو صانع التاريخ، ولا نكتفي بالـمعرفة السطحية عنهم كأضراب تلك الرسومات التي نُقشت على كهوف الـمغارات.

لأنَّ أهم وظائف الفن هو جعل الخيال محسوسًا، كما نحت اليونانيين أبطال حرب طروادة، ونظم عنها "هورميوس" الإلياذة الخالدة رغم أنه جاء بعد حرب طروادة بقرون.

وكما نحت ورسم "ميكائيل أنجلو" شخصيات وأحداث قصص الكتاب المقدس، وهو الذي كان في عصر النهضة بينما أحداث الكتاب المقدس قبل الميلاد بقرون.

وكما نظم الظاهرة البريطانية "وليام شكسبير" مسرحيته عن "يوليوس قيصر" و "كليوبترا" في قالب شعري حاول محاكاته فيه شاعرنا "أحمد شوقي" بعد قرون من أحداث القصة التي دارت قبل الميلاد.

06 ـ أنهض رجولة الرجال وعفة النساء:

"قِيَامَةَ أُرْطُــغْرُلْ" استطاع أن يعيد ترتيب الأوراق في أذهان شبابنا وشوابنا، فأمَّا الرجال فقد أنهض فيهم رجولتهم لا سيَّما وأننا نعيش زمنًا حمل رجاله الدفوف ونافسوا النساء في زينتهن.

وممّا يلفت الانتباه في المسلسل الدور البارز الذي أُنيط بالنساء، فهن الناعمات في السِّلم الشرسات في الحرب، نساء مع النساء رجال مع الرجال، ومن ذلكَ ردُّ فعل حليمة الشرس ضد "حارس القصر" حين وضع يده على كتفها ليسحبها للخارج فقالت غاضبة: "بأي حق تضع يدك على امرأة؟"؛ شيئًا فشيئًا تعجبكَ عفتها حتى تودُّ لو أن بناتنا بمثل طينتها!

والترك معروفون بأنَّهم أمّةٌ مُقاتلة، قوية الشكيمة، ومما ذَكَره المؤرخون والرحَّالة الذين زاروها أنَّ: "نساء التُرك يقاتلن كرجالهم"، وهذا رسالة قيِّمة ارتكز عليها الـمسلسل حيثُ أظهر النساء مقاتلات شرسات ممَّا دفع بالعدو إلـى رؤية الـمرأة كعدو لا كأنثى سهلة الاغتصاب.

وهذا ما حدث في سورية الجريحة، إذْ قد سأل رجل سوري غيور على عرضه مفتيًا: "هل يجوز أن أقتل بناتي إذا أراد الجنود الروس اغتصابهنَّ أمام عيني؟"، فبكى المفتي وعدِمَ الجواب على فُتيا لـم يسبق أن خطرت بقلبه؛ وربَّما آن له أن يُدرك أن النساء لسنَ كائنات بيتوتية فقط، تُحبس بين أربعة جدران كما تحبس قِطَّات البيوت.

ورحم الله"هايماه" أمَّ "أرطغرل" إذْ لـم يغلب حنان أمومتها طموحها في ولدها؛ فربته تربية جهاد قبل أن تربيه تربية أولاد.

07 ـ الـخيمة هي نواة الدولة:

انطلقت أحداث الـمسلسل من خيمة زعيم القبيلة "سليمان شاه" والد "أرطغرل بك"، ملفتًا أن الخيمة هي النواة الأولـى لتهذيب الأخلاق، فقد كان الربط بين الخيمة والأخلاق ربطًا مقصودًا لا ربطًا عبثيًّا.

والخيمة باعتبارها بيت الإنسان القديم كانت بيئة عامرة بالـمشاهد الروحية التي أراد بها صنَّاع الـمسلسل أن يوصلوا للمشاهد المعاصر بألاَّ يتخلَّى عن هذه الـروحانيات في بيته الإسمنتي، فليست العبرة بخصوص الخيمة ولكن بعموم البيت.

08 ـ الأخلاق قبل الوسائل:

من أصدق ما قرأتُ لـ "روجيه جارودي" قوله:"لو قدر لأجدادنا الأقدمين أن يعودوا إلى دنيانا، فإن أول ما سيلفت انتباههم ويأخذ بعقولهم، ليس التطور التكنولوجي الذي وصلنا إليه، إنما غياب القيم والأخلاقيات".

الدولة التي لا تسعى لفرض قوتها، ريثما تُفرض عليها قوة دولة أخرى، وهذه القوة ينبغي أن تُخترع لها وسائلها، وقبل ذلكَ أخلاق قوَّادها.

لأنَّ قوة الوسائل وحدها لا تكفي لإقامة دولة قوية ما لـم تكن أخلاق مقيميها ذاتُ بطانة صالحة، وإخلاص يسري في العروق سير الدماء فيها.

09 ـ تقديس القيم الدينية:

ما أشدَّ ما يحترم الأتراك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، إذْ ما إن يُذكر عليه الصلاة والسلام في مشهد من الـمشاهد إلاَّ ورأيت الصمت قد أطبق المكان لا تسمع للحضور همسًا، ثم لا تلبث أن تراهم يضعون أيديهم على قلوبهم تعبيرًا منهم على أنه في القلب!

فقد كانت الصبغة الدينية حاضرة بقوة في طول شريط الـمسلسل، وبرع السيناريست إذْ أقحم شخصية "ابن عربي" كرمز ديني، فقد كان هذا الإقحام في ذروة الحبكة الدرامية، لا سيَّما عند لـجوء أرطغرل إليه لـمدِّ العون الإلهي لـمَّا تعوقهُ السبل، على خلاف استحياء الدراما المصرية واقتصارها على "مأذون" عقد أو طلاق أو "مقرئ" لجلسات عزاء، فكأنهم يريدون برمجة الناس أنَّ الدِّين جزء من كلٍّ، لا الكل في الكل.

وقد كان "أرطغرل" حينما يواجه الموت وجها لوجه يستدعي ذكرى "الإمام الحُسين" وواقعة "كربلاء" فيقول: "لو سقط ألف حسين فلن يتخلى ألف إنسان عن مبدأ علي".

وحينما تضيق به الأرض بما رحبت يأتي مولانا "ابن عربي" ليذكره بحمامة الغار وبيت العنكبوت اللذان على ضعفهما سخَّرهما الله بقدرته لحماية رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وصدِّيقَه أبو بكر، فتُذهب حلاوة لسان الشيخ مرارة ضيق الـجندي.

ولقد علَّمنا "قِيَامَةَ أُرْطُــغْرُلْ" أنَّ الجهاد منا والنصر من الله، وأنَّ قوتنا حينما لا تكفينا فإن إيماننا سيكفينا، ناهيك عن صيحاتهم قُبيل كل قتال "الحي هو الله" "الحق هو الله".

وحينما كانت الدراما العربية تشوِّه رجال الدِّين وتصوِّرهم "إرهابًا"، جاء "قِيَامَةَ أُرْطُــغْرُلْ" ليعيد الحقيقة إلـى مجاريها، ويثبت أن رجال الدِّين صُنَّاع "قادة".

ناهيك عن كون الـمسلسل عامرٌ باحترام علماء الدِّين، لأنَّهم يعتقدون أن احترام العلماء يرهبُ الأعداء، وهذا ما كشفه أعداء الإسلام فجعلونا نستخفُّ بهم، ونتابع زلاَّتهم ولا نُراعي حُرمتهم.

والقارئ في تاريخ هذه الحقبة التاريخية يدرك أنه منذ أن اعتنق الأتراك الإسلام وهم يُسْدون إلى الإسلام والمسلمين كل الخدمات الجليلة التي أسهمت جنبا إلى جنب مع بقية المسلمين في نشر الإسلام وتشييد حضارته.

10 ـ القادة لا يُولدون بل يُصنعون:

لم يولد "أرطغرل" بطلاً من بطن أمه؛ إنما صنعته تربية أمه الجهادية، ودرَّبه طموح أبيه، وعاش في بيئة تحترم المجاهدين وتقدر الأبطال؛ وبالتالي خرج "أرطغرل" وخرج من بعده ابنه "عثمان"؛ وبعد "عثمان" جاءت "الدولة العثمانية"، فصناعة القادة تحتاج إلى بيئة قيادية تعطي وتمنح، تربي وتعلم، فما أعظم أن تقدم للأمة قائدًا تفتخر به، وتعمل بقول الشاعر:

إنا وإن كَرُمت أوائلنا لسنا على الآباء نتكلُ نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثلما فعلوا

11 ـ الأخوة بالـمواقف وليست بالنسب فحسب:

أحببنا "أرطغرل" ذاك الشهم الذي آل على نفسه أن لا يغمد سيفه إلا وأمة الإسلام موحَّدة، ناهيكَ عن أصحابه الذين وقفوا معه وقفة النبض مع القلب والنفَس مع الرئة، حتَّى لقد برع صُنَّاع الـمسلسل إذْ ركَّزوا على البطل ولـم يُهملوا دور أصحابه في صنع بطولته، وخدموا بهم أحداث الرواية ليلفتوا أن النصر لا يكون من رجل واحد فحسب، ولو كان يحدث حقًّا لحدث للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم وهو الذي خاطبه ربُّه: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} ، بل إن من سوء القيادة ألا يكون الذين حول القائد قادة.

ثم إنكَ لا تجد قائدًا أثبت بطولته دون عون أصدقائه، فالقائد الذكي حيثما يمضي قُدمًا لصُنع نفسه يصنع تزامنًا مع ذلك أصحابه، وهذا ما حدث مع "أرطغرل"، فلولا رفاق دربه "تورغوت"، و "بامسي"، و "دوغان" لربَّما لـم يسمع أحد "بأرطغرل".

هؤلاء الثلاثة كانوا إخوة وإن لـم ينجبهم بطنٌ واحدٌ، وأثبتوا أن الأخوة الحقيقية ليست من تنجبها نفس البطن بل من تقف معكَ جنبًا لجنب كي توقفكَ على قدميكَ، فآزروه في الوقت الذي تخلى عنه أخوه "جوندوجدو"، وفي الوقت الذي حاربه أخوه "سونغر تكين"، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على أن الأخوة بالمواقف وليست بالنسب فحسب.

12 ـ وراء كل بطولة خالدة همَّة قائدة:

يقولون: "رُبّ همّة صنعت أمّةً"، لكن في "قِيَامَةَ أُرْطُــغْرُلْ" شاهدنا رأي العين أنَّى للهمة أن تصنع أمة.

فإنَّ همة "أرطغرل" ألانت له حديد الظروف، فبها جابه الـمصائب وتحدَّى الـمصاعب، وهي من كانت قُوتَهُ قبل أن يتقوَّتَ بقوَّتهُ.

ولولا همته التي قادته لترك قبيلته الأم والهجرة ب 400 مقاتلٍ جهادًا في سبيل الله لـما تأسست دولة دان العالم لها؛ لنعلم أنَّ وراء كل بطولة خالدة همَّة قائدة.

13 ـ القوة سلاح الـحق:

ولأن الحق يُسلب ولا يوهب، فمسكين من ظن أن الحق ينتصر بالدعاء فقط، أو أن الدعوات تنتصر بمصداقية أصحابها لا غير.

مسكين من رفع يديه وجبن عن حمل سلاحه، وغرَّته الأماني أنَّ الله يستجيب الدعاء ونسي أن يتسبَّب بأسبابه، ألا إن من أسباب الدعاء العمل بالوسائل.

وكما أن قوة الأسلحة دون الاستعانة بالدعاء لا تضمن نصرًا، كذلك لا ينفع حضور الدعاء إذا غابت الأسلحة، ولا بدَّ من هذا وذاك، وصدق الله العظيم حينما قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ} ؛ فسلاحكَ يُرهبُ أعداءكَ، ومن فرَّط في سلاحه اُستهينَ بقوته، ومن اُستهين به تجرَّؤوا عليه، ومن تجرَّؤوا عليه غلبوه.

علَّمني "أرطغرل" أن الحق لا بدَّ له من سلاح وإلاَّ سُلبَ منَّا ونحن نشاهد، لذلك حقيق بالسلاح أن يكون حاضرًا في السفر والـحَضَر.

14 ـ لا ينبغي للخونة أن يُرحموا:

الصفح جميل، لكن ليس في كل الـحالات، ولا مع كلِّ الأشخاص، هناك مواقف لا ينفع فيها إلاَّ العقاب، تأديبًا لـمن أخطأ ولـمن تسوِّل له نفسه الخطأ.

وبيَّن الكاتب أنَّ ضريبة الإبقاء على جاسوس واحد هي ضريبة فادحة، فقد استطاع "كورد أوغلو" جاسوس الصليبيين القيام بالاستيلاء على قبيلة "الكايي" بسبب حُسن ظنّ "سليمان شاه" به ورفضه الاستماع لكلام نجله "أرطغرل" الذي رآه شابا متهورًا، ولولا لطف الله الذي أوقع الخائن في شر أعماله، لقطعت الفأسُ الرأسَ.

فحينما انقلب "كورد أوغلو" على "سليمان شاه"، ثم طلب منه أن يسامحه بعدما فشل انقلابه في أقل من يوم، فرفض "سليمان شاه" طلب أخيه من الدم قائلا: "الخونة لا يُرحمون يا كورد أوغلو"؛ فالخائن لو عاد لعاد لخيانته، ولو رُحمَ لـن يَرحمَ، وبهذا تعامل الرئيس التركي "طيب رجب أردوغان" مع خائنيه حينما حاولوا الانقلاب عليه.

وكما أن الخائن لا ينبغي أن يُرحم، كذلك ينبغي التنبيه أنَّ العدو لا ينبغي أن يُصالَح، وهذا ما عبَّر عنه القائد المغولي "بايجو نويان" حينما وقع في الأسر وتم تخليصه بحيلة سماها أصحابها "عقد صلح"، وهنا قال "نويان" متبجحا: "المغول لا يعرفون شيئا اسمه مصالحة، الصلح عندنا مجرد حيلة نخدع بها الضعفاء".

15 ـ البُعد الوُحدوي للأمة الإسلامية:

ممَّا زاد "قِيَامَةَ أُرْطُــغْرُلْ" قيمة في عين متابعيه أن كاتبه كانَ عارفًا بكثرة اختلافات الـمسلمين الطائفية آنذاك واليوم، فلـم يعرضْ لها الـمَشاهد التي قدْ تشتتُ ذهن الـمُشاهد عمَّا يُراد له استيعابه.

وهذا ما عبَّر عنه أحد نقَّاد الـمسلسل بـ "البعد الوُحدوي"؛ إذْ نجح الـسيناريست في التركيز على الوحدة الإسلامية التي من أجلها صُنع الـمسلسل.

فكأنه يريد أن يقول لنا: أن الوحدة الإسلامية أهمُّ من الأشلاء الطائفية، وعلينا أن نتذكر كيف اجتمع المسلمون خلف "صلاح الدين الأيوبي" وهو أشعري، وكيفَ توحَّدوا خلف "محمد الفاتح" وهو صوفي فرفع الله رايتهم وقوَّى شوكتهم!

16 ـ ترك الـجهاد مذلَّة:

تساءل الكثير: لـماذا اختار "أرطغرل" حياة "الجهاد" بدل حياة "الأمن والرزق"؟

والجواب عند "أرطغرل" واضح كالشمس في رابعة النهار، فقد أكَّد لهم أن أصلح طريق للحصول على الأمن والرزق هو مجاهدة الأعداء، مصداقًا لحديث النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: (وجُعِلَ رزقي تحت ظل رمحي)، وما ترك قوم الجهاد إلا ذلّوا...

17 ـ سياسة التآمر، مشروع اليهود والنصارى:

حبكة التآمر التي دارت جلُّ مجريات الـمسلسل عليها، تُنبي مصداق قوله تعالـى في الكفرة الفجرة، إذْ هم لا يجرؤون على الـمواجهة لذلك تراهم يكيدون ويتآمرون: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ}.

وحتى يومنا هذا لا زالت وستبقى سياسة "التآمر" مشروعهم الأبدي، إذْ لـمْ يتمكن الروس من قتل القائد "سيف الإسلام خطّاب" عام 2002 في الشيشان إلا عبر رسالة مسمومة سلمها له أحد الخونة في صفوف المسلمين.

كما لم تتمكن القوات الروسية والميليشيات الإيرانية الرافضية وقوات النظام السوري من احتلال حلب مؤخرا إلا بزرع العملاء في مناطق تواجد المجاهدين...

الأمر الذي يجعلنا نسعى لصنع مجاهدين مخلصين قبل السعي لصنع أسلحة، فلا تنفع أسلحة الدمار الشامل بلدًا جنوده خونة!

والعمالة الداخلية هي أخطر ما يواجه الدولة مقارنة بالخطر الظاهر من الخارج؛ لأنَّ العدو المعروف مهما بلغت قوته فإنه ليس أخطر علينا من العدو المجهول وإن كان متواضع القوة، ذلك أن القوة ليست هي وحدها من تغلبنا؛ إذْ كثيرًا ما نُغلبُ نتيجة الغدر، فحينما قتل وحشيٌّ "حمزة" أسد الله إنما قتله بطعنة رُمح في ظهره، ولـم يجرؤ على مبارزته بالسيف وجهًا لوجهٍ، وعلى هذا فقس...

فأمام الغدرات لا أحد يمكن أن يراهن على قوته.

وعلى الذين عابوا تركيز المسلسل على قضية "المؤامرة"، فذلك ممَّا لا بدَّ منه لا سيَّما في السياسة، ووجود الـخونة الذين يرتدون ثياب الوطنية كائن في صفوف كل جيش وفوق تراب كل دولة، وقد كان في جيش النبي صلى الله عليه وسلَّم منافقون كما كان فيه من استسلم وعاد القهقرى أو تخابر مع العدو...

18 ـ النصر غير مشروط بصلاح أصحابه:

صلاح الـفرد لأجل النصر قد يكون مطلبًا تعجيزيًّا، لأنَّ الـخلوَّ من الذنوب غير مشروط لحصول النصر والتمكين، وإنما النصر حليف من أخذ بالأسباب وحافظ على جملة إسلامه وإن كان من أهل الذنوب.

وما أكثر ما شهدنا انتصارات كانت وليدة أبطال قليلي صلاح، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه قال: (إن الله ينصر هذا الدين بالرجل الفاجر) وفي رواية: (بأناس لا خَلاق لهم).

وهذا يُفيدنا إلـى ترك تصنيف الناس إلـى صُلاَّح وغير ذلك، فإن العبرة بالخواتيم {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}، وما تدري من ينصر الإسلام ممَّن ينكصُ عن عقبيه!
...المزيد

نجيب محفوظ بين جائزة نوبل وطعنة السكين: "عندما تتعرَّض لصدمات في حياتكَ، تأكَّد أن عقلكَ سيصبح ...

نجيب محفوظ بين جائزة نوبل وطعنة السكين:

"عندما تتعرَّض لصدمات في حياتكَ، تأكَّد أن عقلكَ سيصبح أكبر من سنكَ بكثير"

- نجيب محفوظ

في 11 ديسمبر 1911م أنجبت القاهرة هرمًا من أهرامات مصر، لم تكن ولادته قطُّ سهلةً، الأمر الذي دعا والده لتسميته بِاسْمِ الطبيب الذي سهَّل ولادته "نجيب باشا محفوظ".

إنه أول روائيٍّ عربي حاز على جائزة نوبل في الأدب. دخل النجيب مضمار الكتابة عام 1930م وظلَّ يعاركُ فيه حتى 2004م؛ أي ما يعادل 74 عامًا عاش فيها الكتابة والقراءة بما يشبه الشهيق والزفير، متأثرًا بمصطفى لطفي المنفلوطي، ومحمود عباس العقاد، وجيمس جويس، وفرانز كافكا، ومارسيل بروست..

ابن المقاهي الشعبية في مصر، جالسًا على كرسيه المعتاد بقهوته المعتادة بجرنالها المعتاد في ذلك الركن المعتاد ما يزيد عن ثمانين سنة، يتحمل ما تسمع أذناه وترى عيناه، ليغدقَ علينا بأدبٍ يوجِّه كاميرات العالم وأنظار الصحف العالمية إلى الأدب العربي.

عَبَرت رواياته القارات الخمس، رغم أنه لـم يسافر خارج مصر إلاَّ مرتين أو ثلاث، مِصْرُ التي دارت جميع رواياته في فلكها، في حارة تعادل العالَم، وأدبٍ صنِّف بالواقعي تتخلَّله بعض المواضيع الوجودية، ليصير بذلكَ أكثر أديبٍ عربي حُوِّلت أعماله إلى السينما والتلفزيون.

وفازت جائزة نوبل بنجيب محفوظ:

إن أوّل من تنبأ لنجيب محفوظ بجائزة نوبل هو عميد الأدب العربي د. طه حسين وأشاد له برواية "بين القصرين"، لتحقق نبوءته في ظهيرة يوم 13 أكتوبر 1988، عندما عاد نجيب من عمله ليهنأ بقيلولته كعادته، ظل اليوم عاديا حتى دق جرس الهاتف، لترد زوجته وتجد أحد محرري "الأهرام" يريد أن يبلغه خبر فوزه بالجائزة.

البداية كانت حين تُرجمت ثلاثيته "السكرية "و"قصر الشوق" و"بين القصرين" إلى الفرنسية، فلما نالت حظوتها من الشهرة تابعته لجنة نوبل لتختار 06 روايات له لمراجعتها، منها "أولاد حارتنا" و"ثرثرة فوق النيل" و"الثلاثية".

ويخطئ الكثير إذْ يظنون أن نجيب حاز على نوبل بفضل روايته: "أولاد حارتنا"، والحقيقة أنه نالها بفضل أعماله الخمسة التي تُرجمت إلـى خمس لغات، وهذا الذي صرَّحت به ابنته أم كلثوم. شاع الخبر داخل مصر وخارجها، ولـم يبقَ إلا أمر تسلِّمها، لكن حالة نجيب الصحيّة حالت بينه وبين السفر للسويد لاستلامها، فتسلّمتا ابنتاه الجائزة نيابة عنه، وألقى محمد سلماوي الخطاب باللغة العربيّة قبل إلقائه بالإنجليزيّة كما أوصاه نجيب قائلاً: "آن الأوان أن يسمع جرس اللغة العربية بين جدران الأكاديمية السويدية العريقة" فسُمِع!

لماذا طُعنَ نجيب محفوظ؟

ألَّف نجيب رواية عام 1959م سمَّاها "أولاد حارتنا" أثارت الرواية زوبعة جدلٍ واسعة، ووُصفت بالرواية الإجرامية التي تطاولت على الذات الإلهية وأهانت الذات النبوية، منذ نشرها مُسَلْسَلَةً في صفحات جريدة "الأهرام".

الأمر الذي حدَا إلى تكفيره واتهامه بالإلحاد والزندقة، وسُوِيَ بينه وبين سلمان رشدي صاحب رواية "آيات شيطانية"، فأُفتيَ بقتله.

مُنع إصدار الرواية بمصر، فانتظرت ثلاثة سنوات حتى رأت النور عام 1962م عن دار الآداب اللبنانية، فمنع دخولها إلى مصر رغم أن نسخا مهربة منها وجدت طريقها إلى الأسواق المصرية.

ولـم تنشر الرواية في مصر إلاَّ عام 2006م عن دار الشروق؛ أي بعد مُضيِّ 44 عامًا عن إصدارها الأول وهو العام نفسه الذي غادرنا فيه نجيب محفوظ.

نجيب محفوظ تحت مطرقة النقد:

صحيح أنَّ نجيب محفوظ واحدًا من جملة الأدباء الذين اختلفوا فيهما اختلافًا كبيرًا، فمنهم من رفعه إلى درجة التقديس كونه مؤسس الرواية العربية، ومنهم من ساواه بإبليس كونه خدش الحياء وتجاوز حدَّه الأدبي إلى ازدراء الأديان وتشخيص الذات الإلهية تحت اسم "الجبلاوي" بطل رواية "أولاد حَارِتْنَا"، وبين هذا وذاكَ تبقى موضوعيَّة النقد أهمَّ من عاطفة الانحياز.

وفي الجانب الآخر رأى الكثير من النقَّاد أن رواية " أولاد حارتنا" دُرة إنتاج الأديب العملاق، وردُّوا على الذين طعنوا فيه أنهم لم ينظروا إلى الرواية من ناحية أدبية صحيحة ولم يدرسونها بنقدية موضوعية، ولم يحاولوا أن يناقشونها مع كاتبها.

تحدَّثوا عنه بالسوء حتى عرَّفوا به العالَم، ومن النقدِ ما يصنعُ شُهرةً، وتحاملوا على نقده حملة لـم ير مثلها في البلاد، فصدق فيه بيت أبو العلاء المعرِّي:

وما ضرَّني غيرُ الذينَ عرفتُهُم

جزَى اللهُ خيرًا كُلَّ من لستُ أَعرفُ

ومن النقاد من ذهبَ إلـى أن نوبل أكرمت نجيب بالجائزة لا لأنه ازدرى الأديان وشخَّص الذات الإلهية فحسب، إنما عن مباركته السياسية للسلام مع الكيان الإسرائيلي أيضًا.

ومنهم من طعن في أسلوبه في الكتابة كونه لا يختلف كثيرًا عن أساليب الصحف والجرائد، لكن أصدق النقد ما نقده به سيد قطب إذ كتب مشيدًا بأعماله: "على النقد اليقظ أن يكشف أن أعمال نجيب محفوظ هي نقطة البدء الحقيقية في إبداع رواية قصصية عربية أصيلة".

وطعنه الذي لم يقرأ له حرفًا:

بعد مسيرة أدبية حافلة بمؤلفات رَبَتْ عن الخمسين، في عصر جمعة 14 أكتوبر 1994م، خطّط شابين لقتل قامة أدبية له باع طويل في الأدب، فالذين حاولوا قتل نجيب محفوظ لـم يسعوا لذلك بغية شخصه، بل لإيقاف الفكر الذي يحويه هذا الشخص، وإلاَّ فأيُّ فائدة مرجوة من قتل رجل شارف الثمانين حولاً؟

يريدون بذلكَ اغتيالَ صوت الرواية، لأنهم يعتقدون أن رسالة الكلمة إذا لمْ تكنْ مصبوغة بالدِّين فلا يليقُ بصاحبها إلا حجْرُها في حنجرته، وإلا ذبحوه من حُنجرته! أرادوا قتله ليقتلوا فيه أدبه، لكن ليس بالسكين يُسكتُ القلم الحر، يقول وينستون تشرتشل: "إن بريطانيا العظمى مستعدة للتنازل عن جميع مستعمراتها في العالم، لكنها لا تستطيع التنازل بأي حال من الأحوال عن سطر واحد كتبه شكسبير".

لكن نجيب محفوظ كان محفوظًا ونجيبًا، وآثر استمرار قلمهِ، ومن ظنّ أن السكين تُسكتُ القلم الحر فواهم مسكين، وربَّ محاولة اغتيال عظَّمت المستهدف وصغَّرت الهادف، وذلك مع حدث مع نجيب فقد حاولوا قتله ولم يعلموا أنهم زادوا من حياته! البداية كانت حينما شقَّ فيها أديب نوبل طريقه إلى ندوته الأسبوعية في مقهى قصر النيل كعادته، إذا بآلة حادَّة تُنشب في رقبته، غرسها الجاني في أعصابه وتمكن من قطعها، ممَّا أثر ذلك على أعصاب أطرافه.

طعنة كان فيها "محمد ناجي" هو المجرم و"نجيب محفوظ" هو الضحيَّة، طعنة كانت غائرة احتاج فيها هذا الأخير خمس ساعات في غرفة العمليات، وثلاثة عشر عبوة من الدم لإنقاذه، ولولا حذاقة طبيب الأوعية الدموية موفَّقًا بالعناية الربانية لصار نجيب محفوظ في خبر كان!

حينها أصدر الرئيس حسني مبارك توجيهاته بعلاجه على نفقة الدولة، وعمرٌ آخر كُتب لنجيب محفوظ، وظل في المستشفى أيامًا معدودات سنحت فيها للشيخ محمد الغزالي بزيارته، هذا الأخير الذي كان ضدَّ نشر " أولاد حارتنا".

وأكَّدَ الجاني محمد ناجي أنه لم يقرأ أي رواية للنجيب، وأوضح أنه حاول قتله تنفيذًا لفتوى عمر عبد الرحمن مفتي الجماعة الإسلامية آنذاك، مثلها مثل فتوى الدكتور محمد مزروعة الذي كان قد أفتى لاغتيال فرج فودة.

وعلى رأس الذين كفَّروا نجيب محفوظ الشيخ عبد الحميد كشك الذي كتب كتابه "كلمتنا في الرد على رواية أولاد حارتنا".

بعدما مكث نجيب محفوظ في المستشفى سبعة أسابيع استفاق من غيبوبته ليقول متحسِّرًا في حديث لـ "الأهرام": "الشاب الذي رأيته يجري كان شابًا يافعًا في ريعان العمر، كان من الممكن أن يكون بطلاً رياضيًا أو عالمًا أو واعظًا دينيًا، فلماذا اختار هذا السبيل لست أفهم؟!"

والأكثر غرابة أن أشرف العشماوي مسؤول التحقيق وقتها صرَّح أن الجاني محمد ناجي كان لا يعرف اسم نجيب محفوظ، وكثيرًا ما كان يسمِّيه بـ "محفوظ نجيب"!

تحرير 27/2/2019
...المزيد

خلق الله آدم، فلما استوحش خلق له حواء فالمرأة مؤنسة الرجل من وحشته ومن لا يستأنس بالمرأة فيه ...

خلق الله آدم، فلما استوحش خلق له حواء

فالمرأة مؤنسة الرجل من وحشته
ومن لا يستأنس بالمرأة فيه وحشية وإن كان يدّعي أنه أنسنُ إنسان على ظهر الأرض💚

بعض الناس كالصحراء في ظاهرها تبدو خالية على عروشها بينما في أعماقها مليئة بالثروات.

بعض الناس كالصحراء
في ظاهرها تبدو خالية على عروشها
بينما في أعماقها مليئة بالثروات.

في قلبي أنثى لا تُجيد الطبخ: يقولونَ: "إنّ أسهل طريقةٍ للدخولِ إلى قلبِ الرّجل، من ...

في قلبي أنثى لا تُجيد الطبخ:

يقولونَ: "إنّ أسهل طريقةٍ للدخولِ إلى قلبِ الرّجل، من معدَّتهِ".
ــ لـماذا؟
ــ لأنّ الرجل بفطرتهِ أكُول أكثر من المرأة.
بل يكادُ لا يوجد رجلٌ في العالَم لا يحبُّ الأكل، في حين قدْ تجدُ في النساءِ مَن لا تُبالي بهِ، فضلاً عنْ حبِّه.
أجل.
المرأة تُبالي بالطعام لكونهُ طبخًا، لكن ليسَ لكونه طعامًا تُمتلأُ بهِ المعدّة، ويُسكِتُ عصافير البطن.
لأن الطعام في نظرِ المرأة فنٌّ تُقدّمه، قبل كونهِ طعامٌ تهضمه.
في كثيرٍ من الحالات التي جهَّزت فيها أمِّي الطعام، لـمْ تأكلْ منهُ إلاّ لُقمة أو لُقمتين. وكنّا حينما نطلبُ منها الأكل تُجيبنا:
ــ «إذا أكلتم أنتم.. شبعتُ أنا»، إنه إيثار الأمومة، ومن آثَرُ من الأمِّ يا ولدي؟
كانت تستمتعُ باستمتاعنا بمأكولاتها، وكنّا أصغرَ من أنْ نعي فكرة أنّ المرأة خُلقت للطبخِ أكثر ممَّا خُلقت للأكل.
ليست الأمّ وحدها من تفعل ذلك، فالزوجة والأختُ والبنتُ أيضًا.
قبل عامين فقطْ كنتُ لا أستوعبُ فكرة أن تكون مُستلزمات الطبخة نفسها، بينما تختلفُ الأُكلة من يدٍ إلى يدٍ، إلى أنْ عرفتُ من أختي فاطمة أنّ «الطبخَ نَفَسٌ».
يا اللّه. «الطبخُ نَفَسٌ».
أعجبتني العبارة، الآن تأكّدتُ أنّ الطبخَ سحرٌ وليسَ كلّ النساء يعرفنهُ.
كان هناكَ فرقٌ عريضٌ بين طبخةِ أختي فاطمة وطبخة أختي أمّ كُلثوم، في طبخة فاطمة نُكهة تُشمُّ رائحتها علَى بُعد عشرة دِيار، أما طبخة أمّ كُلثوم فهيَ أقرب إلى المحروقاتِ منها إلى المطبوخات.
فاطمة تضعُ في الأُكلة سرًّا تودّ لو أنكَ أكلتَ أصابعكَ بعدها، أما أمُّ كُلثوم فسامحها اللَّه علَى كلِّ ما طبختهُ لنا.
كنتُ أثني علَى طبخ فاطمة بإنهاء ما في الصحنِ، أمّا طبخ أم كُلثوم فكنتُ أُثني عليهِ لسانًا لا أكلاً.
حقًّا تستمعُ كلّ امرأة في تقديم شُكركَ لها بعد كل أُكلةٍ تُجهّزها حتَّى لو كانت مجرّد بصلة قشّرتها، بل قدْ أثبتت الكثير من الدراسات أنّ الإعجاب بأُكلات المرأة يزيد من رغبتها في الإبدَاع.
وإذا عُرف بين الناس أنَّ ما من طريقة أسهل لقلب الرجل مثل معدَّته، فإنه لا طريقة أسهل لقلب الـمرأة من الثناء علَى طبخها.
فالـمرأة بطبعها تحبُّ من يُثني عليها، وتحبُّ أكثر من يُثني علَى طبخها، لذلكَ إذا أردتَ طعامًا يُرضي شهيَّتكَ، ما عليكَ إلاّ أنْ تُقدّم جُملةً أو جُملتين من الثناءِ علَى طبخ زوجتكَ.
الطبخُ فنٌّ وليسَ مجرد هضمٌ للطعام، ومن محاسنهِ أنّه من الفنون التي تُعلِّمكَ كيفَ تُجهّز أطباقَ حياتكَ، وهذا ما دفع بالسيّدة أحلام مستغانمي للقول:
ــ «عندما تتقن فن الطبخ، أنتَ حتمًا تعرف كيف تعد مائدة حياتك؟
وكيف تطهو رغباتك؟».
وليس غُلوًّا لو قلنا أنّ الكثير من النساء اللاّتي تراجعن في جودةِ الطبخِ، كان ذلكَ بسبب إبدَاء رأيٍ سَلبيٍّ من طرفِ شخصٍ اعتادت علَى إعداد الطعام له، فأثّر رأيه المُرُّ في طريقة تحضيرها، وما أكثر ما تَشنقُ الكلماتُ مواهبنا.
ههنا لا علينا، إذْ كلّ امرأة لا تُجيد الطبخَ بسببِ انتقادات زوجها معذورة، فالنساء اللاّتي يُجدن الطبخَ يُجدنه نتيجة مزاجٍ لطيفٍ، فإذا فسد المزاج فسدت الطبخة.
وبالتالي صار لزامًا علينا أنْ نُغيِّر نظرتنا للطبخِ، فالطبخُ ليس مجرَّد خُضروات علَى نارٍ هادئة، بل هو عبادةٌ يُتقرَّب بها إلى اللّه، فلولا جودة الطعام لمرضت الأجسام، وبمرضِ الأجسام تعجز الجوارح عن الطاعة.
قال أحدُ العلماء: «إن الله جمع الطبَّ كلّه في نصف آية عندما قال تعالى: {وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}».
فالأكلُ صحّة، والشرب صحّة، والاقتصادُ صحَّة، والشريعةُ جاءت لجلبِ المصلحة ودرءِ المفسدة.
واهتمامنا بالطبخِ كثقافة ليسَ عيبًا، العيبُ أن لا يكونَ لنا غايةٌ نسعى لتحقيقها بعد الأكل.
ولعلَّه من حقِّي أنْ أتزوّج امرأة تُجيد الطبخ، لذلكَ كنتُ أرفضُ منذُ بدأتُ أحتلم أنْ أتزوَّج امرأةً لا تُجيدُه، لكن شاءَ اللّه أنْ ينبضَ القلبُ لامرأة بينها وبين الطبخِ برزخٌ لا يبغيان.
ولكَ أنْ تتصوّر حجم الألم كونكَ ستُكمل حياتكَ وأنتَ تأكل طعام المطاعم، إنّه لشيءٌ يدعو للخجل أن تكونَ زوجتكَ في البيتِ وأكلكَ من الخارج.
وإنّها لخيبة أملٍ أن تستفرغَ زوجتكَ طاقتها لإعداد طعامٍ تستلذهُ، ثمّ لا يكون في الطعام شيئًا يدعو للاستلذاذِ، وهذه ليست مُشكلة، بل جريمة ينبغي أنْ يُعاقب عليها القانون.
أنْ تُولدِي امرأة ولا تُجيدين الطبخَ، فأنتِ إمّا لستِ أُنثى وإمّا أنكِ أُنثى قد رُفعَ عنها القلم؛ لأن الطبخ والأنوثة صفحتان لورقةٍ واحدة، إذا مُزقت إحدى الصفحتين مُزِّقت الأخرى بالضرورة.
لكن هنا استدراك لطيف ينبغي التنبيه لهُ:
ــ الطبخُ علمٌ قابلٌ للتلقين، فإذا وُلدتِ لا تُجيدين الطبخِ فكلّ الطرق تؤدّي إلى كسبِ مهاراتهِ؛ لأن الطبخُ ليسَ أصعب من الطبِّ والهندسة والفيزياء...
اشتريتُ من كتبِ الطبخِ ما يكفي لجعل زوجتي أمهر طبَّاخة، لكن ما من جدوى، فرغم تنوّع الكتب إلاّ أنّ سوء طبخها نفسهُ.
باتَ فرضَ عَينٍ عليّ أنْ أقتنع أنّ سُلطة القلب تعلو سُلطة المعدّة، وأنْ أعترفَ بالفم المليء أنّ «في قلبي أنثى لا تُجيد الطبخ».
ولا يُمكن للمعدّة أنْ تُسكتَ نبضة قلبي تُجاهها، فالنبضُ فوق الشهيَّة، والحب فوق الجميع، بما في ذلك الطعام، وسأظلُّ أحبُّها إلى أن تُجيد الطبخ، أو أموتَ وأنا أحمل في قلبي أمنيةً لن تموت.
أمنية أنّ الرجال يقعون في الحب عن طريق المعدّة، كما أنّ هناكَ رجال لا يُمكن أن ينفصلوا عن محبوباتهم بسبب سوء طبخهنّ.
فالميولات العاطفية لها نفوذها بصرف النظر عن سوء الطبخ.
وأنهُ دائمًا يوجدُ في القلبِ ما لا يُوجدُ في المعدّة.

من كتابي: (في قلبي أنثى أكبر مني سنا)
...المزيد

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً