*"اليوم العالمي لهلاك الطغاة"* في يومِ عاشُوراء .. كانَت الأرضُ على موعدٍ مع حفلٍ بهيجٍ.. ذاك ...

*"اليوم العالمي لهلاك الطغاة"*

في يومِ عاشُوراء ..
كانَت الأرضُ على موعدٍ مع حفلٍ بهيجٍ..
ذاك الحفلُ سيعيدُ رسم الخارطة من جديدٍ ..
كان موسى يصارعُ أسئلةَ بني إسرائيل المتكررة ويَقطعُها بقوةِ الثقة وعمقِ الطمأنينة لأنه على موعدٍ معَ الله ..
كان خروجهم من مصر بحدّ ذاتهِ يُمثّل ثورةَ الانعتاق من عبودية الطغيانِ، والتخلصِ من كهنوتِ الظلمِ والاستبدادِ ..

*خرجوا ليلا وبسريةٍ وخفاءِ لئلا يشعر بهم فرعون وحتى لا تجهض الثورة قبل اكتمالها فيضيع الجهد وتحصل الفوضى وتخترق صفوفهم المخابرات الفرعونية..*

قامَ فرعون في الصباحِ فأدرك الأمر وعرف المخطط فأزبد وأرعد، وهدد وتوعد..
كيف لهم أن يخرجوا من تحت عباءتي ؟
من سمح لهم بذلك؟
وكيف تجَرّؤا على مفارقتي؟
يا فرعون: العبيد سيصبحوا أحرارا، اليوم ليس كالأمس، ومن عرفتهم اليوم سيتغيروا في الغد، ومن المحال دوام الحال..لكن كان فرعون يعيش بتلك العقلية القديمة المتخلفة وأن هؤلاء العبيد سيستمرون في عبوديتهم إلى أبد الآباد..وهذا هو تفكير الطغاة دائما ..
إنه سرابُ الملك، وخمرةُ العرش، ونشوةُ الحكم..
إنه درسٌ بليغ لكل طاغية أن كأس الحكم علقم وإن مُزجت بالعسل، وأنّ كرسي الملك هلاك وإن زُخرف بالحياة..
تَنحني الدُّروب الطويلة لمُوسى عَليهِ السَّلام وهو يقودُ بَني إسرائيل، وتُرحب به الوهاد والنّجاد لأنه أكرم من مشى عليها يومئذٍ ..

كان موسى يترقب النّهاية ويفوّض أمره في كل صغيرة وكبيرة للملك الجليل ..
خُطوات موسى أثناء تلك الرحلة كانت تحمل الأعباء فيتصبر لأنهم كانوا يعتبروها مغامرة نحو المجهول وهو يُعلّمهم من هو الله ..
.. { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } !
هو الذي أمرنا بعبادته، وهو الذي أمرنا بالخروج، وهو خالقنا وخالق هذه الدروب والصحاري والقفار والأنهار والبحار..
كان جدبُ الثّقة قد حاصرهم، والهلع قد أحاط بهم من كل جانب، كان موسى على موعد أن يسمع منهم:
{ إنّا لَمُدْرَكُون } !
وكان موسى يموجُ في داخلهِ صوتٌ خفي يَطغى على كل شيء حوله فهو يتذّكر قولَ ربه :
{ قَدْ أُجيبَت دَعوَتكُما } !
هو ربي ولن يضيعني..
لن يخذل الله قلبا تعلق به ..
يجيبُ دعاء المضطر وإن كان لا يعبده فكيف بالمتصل به آناء الليل وأطراف النهار فضلا عن أن يكون الداعي كليمه...
ما أعظمها من منزلة!!
أي قلب كان يحمل موسى وهو ينتظر الخلاص..

سجّل القرآن هذه المشاهد أولا بأول فما أبلغ تصوير القرآن:
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ }

حالُ فرعون: لا بد من القضاء على هذه العصابة المارقة، لن نسمح لهم بالفرار إلى الشام، هيّا أيها الجنود ..
*وتعملُ الآلة الإعلامية لفرعون جهدها في الضخّ الكبير لحشد الدعم للقضاء على موسى ومن معه،* وجيش فرعون كما يذكر ابن كثير في البداية والنهاية ألف ألف وستمائة ألف ..
" مليون وستمائة ألف" جندي يظن فرعون أنه سيسحق بهم بني إسرائيل ويصيرهم في خبر كان ..

يا لله ..
أي طغيانٍ هذا !!
أينتصر من يحارب الله ولو ملَك ما بين الخافقين؟
أيفوز من يبارز الله ولو بكل عتاد الأرض.؟
حليمٌ أنت يا الله ..لا أحد أحلم منك، صبور على عبادك..تمهل كثيرا لكنك لا تهمل..
كم أمهلت وجعلت هناك متسعا من الوقت وفرصة من الزمن لمراجعة الحسابات لكن ما أكفر هذا الإنسان وأشد طغيانه !!
*كان فرعون في أوج مراحل طغيانه، وأشد حالات عتوه، وأعنف خطوات بطشه، كان يود أن يسحقهم..*
إنه لن يدع ولن يذر..
سيفتك بالمتمردين..
ويقترب الموعد ..
ويلحقهم فرعون ..
أشرقت الشمس ولم يشرق معها النور إلى قلوبهم بل تسلل مع شعاعها اليأس والرعب إلى نفوسهم.

{فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ }
لحقهم فرعون وجنوده وحصروهم في مضيق لا مفر منه .
.
{فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ}
رأى كل فريق الآخر رأي العيان وتلاقت الحدق بالحدق والأبصار بالأبصار...


{فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}
سيدركنا القوم لا محالة والأمر مؤكد ب{ إنّا} .

لحقهم فرعون بجيشه العرمرم اللجب فأدركهم عند طلوع الشمس، وتراءى الجيشان ، ولم يبق ثَم ريب عندها ، وعاين كل من الفريقين صاحبه وتحققه عن قرب ورآه، فعندها قال أصحاب موسى وهم خائفون تملكهم الرعب وسيطر عليهم الفزع: إنا لمدركون، وذلك لأنهم اضطروا فى طريقهم إلى البحر، فليس لهم مسلك ولا محيد ولا مهرب إلا خوضه وكيف لهم أن يخوضوا البحر فموسى وراءهم والبحر أمامهم..

{فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}
قالوها والخوف قد ركبهم..
*لكن موسى قطع توكيدهم الموهوم بحرف الردع والزجر{ كلاّ}*
{ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِى رَبِّى سَيَهْدِينِ }
معي ..
*فقد كان وحده يصلي في محراب الثقة..*
وحده جمعيةُ قلبهِ في عكوفٍ مع الله ..
وحده يحارب جيوش اليأس بسيوف الأمل، ويصارع أمواج الخوف بجنود الأذكار..
وحدهُ متصلٌ أمّا البقية فالخوف هو سيّد الموقف..

{ إِنَّ مَعِى رَبِّى }
والله لو فقد موسى كل الدنيا ومعيّة الله معه فما فقد شيئا ..
*هذه أعظم كلمة يمكن أن تقال عند احتدام الخطر واشتداد البأس..*
معيّة الله أعظم كنز يمكن أن تعثر عليه فإنه إن كان معك سيحميك وأنت في عين العاصفة..وإن لم يكن معك هلكت وأنت على شاطئ النجاة..

{ سَيَهْدِينِ }
هو الذي يهديني الطريق ..
وهو الذي هدى التابوت يوم أن كنتُ رضيعا إلى قصر الطاغية ..
" اقترب من الخوف تأمن" ..
*ولقد كنتُ تائها ذات مساء في صحراء مظلمة لا أعرفه فدلّني وهداني إليه...*
والآن حاشاه أن يتركني في منتصف الطريق.

اشتدّ الكرب، وتفاقم الأمر، واقترب الخطر، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، عندها أوحى الكبير المتعال، صاحب الملك والجلال إلى موسى الكليم:
{ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ}

فلما ضربه انفلق بإذن الله، { فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} .
فجأة وبمجرد ضربة العصا في هذا البحر العرمرم الذي لا يبلغ مداه الطرف ينفلق..
لقد انفلق إلى اثنتى عشرة طريقًا، لكل سبط طريق يسيرون فيه..
يا لِله ..
كيف لماء البحر يصبح قائمًا مثل الجبال..!!؟
*نعم لقد أصبح مكفوفًا بالقدرة العظيمة الجبّارة الصادرة من ملك الملوك الذي يقول للشيء: كن فيكون.*

وجاءت الرياح في الحال فضربت حال البحر، فأذهبته حتى صار يابسًا لا يعلق فى سنابك الخيول والدواب. قال الله : { فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِى الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى}.

ضربهُ موسى فانفلق فشاهدوا من الأمر العظيم ما يحير الناظرين، ويهدي قلوب المؤمنين، ويبعث الطمأنينة في قلوب الخائفين..

سلكوا طريقا آمنة ..
وخرجوا بأمان..
يا الله ما أوسعَ الطرق إن كنت أنت الدليل !!
*وما أضيقَ الطريق على من لم تكن دليله..!*
بعد خروج آخر واحد من بني إسرائيل يأمر الملك أمره:
{ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا } أي: ساكنًا على هيئته، لا تغيره عن صفته التي هو عليها فهو مخلوق مثلك يأتمر بأمري..

عصاكَ يا موسى لا تقدم ولا تؤخر هي أيضا مخلوقة مثلك ومثل البحر..
{ إنّهم جندٌ مُغرقون}
قضي الأمر، وحق القول..

{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ } .
وهكذا مصيرُ كلّ طاغية وظالم مرّ من على هذا الكوكب مصيره البؤس والخزي والهوان وسوء الأحدوثة ..

كان يوم عاشوراء حَدثا عظيما صامَهُ موسى عليه السلام شكرا لربه على هذا النصر المبجّل وصامه نبينا صلى الله عليه وسلم إحياء لذكرى ذلك النصر..
*ويا للعجب من أناسٍ يزعمونَ محبةَ موسى وكره فرعون وهُم في الواقعِ ضدّ كلّ موسى ومع كلِّ فرعون..*
وفي النهاية..
لا غالب إلا الله ..
ومصير كلِّ محاربٍ لربه مبارز له الخسران والهلاك..
وكل معركة تقام ضد الله معركة خاسرة ..
{ فاليومَ ننجيّكَ ببدنكَ لتكونَ لمن خلفكَ آيةً}
هذه نهاية كبير المتمردين على الله ..
وأنت يا كل ظالم إن لم تتعظ صرت موعظة، وإن لم تعتبر صرت مُعتبرا، فهذه نهاية أكبر طاغية ماثلةّ أمامك منذ آلاف السنين..


أيها الناس: *ابتهجوا بعاشوراء وصوموه شكرا واجعلوه اليوم العالمي لهلاكِ الطّغاة..*
فلا طاغية كفرعون، ولا عاقبة كعاقبته، وهو اليوم الوحيد الذي أُمِرنا بصيامه شكرا ..
عامر الخميسي
...المزيد

*"اليوم العالمي لهلاك الطغاة"* في يومِ عاشُوراء .. كانَت الأرضُ على موعدٍ مع حفلٍ بهيجٍ.. ذاك ...

*"اليوم العالمي لهلاك الطغاة"*

في يومِ عاشُوراء ..
كانَت الأرضُ على موعدٍ مع حفلٍ بهيجٍ..
ذاك الحفلُ سيعيدُ رسم الخارطة من جديدٍ ..
كان موسى يصارعُ أسئلةَ بني إسرائيل المتكررة ويَقطعُها بقوةِ الثقة وعمقِ الطمأنينة لأنه على موعدٍ معَ الله ..
كان خروجهم من مصر بحدّ ذاتهِ يُمثّل ثورةَ الانعتاق من عبودية الطغيانِ، والتخلصِ من كهنوتِ الظلمِ والاستبدادِ ..

*خرجوا ليلا وبسريةٍ وخفاءِ لئلا يشعر بهم فرعون وحتى لا تجهض الثورة قبل اكتمالها فيضيع الجهد وتحصل الفوضى وتخترق صفوفهم المخابرات الفرعونية..*

قامَ فرعون في الصباحِ فأدرك الأمر وعرف المخطط فأزبد وأرعد، وهدد وتوعد..
كيف لهم أن يخرجوا من تحت عباءتي ؟
من سمح لهم بذلك؟
وكيف تجَرّؤا على مفارقتي؟
يا فرعون: العبيد سيصبحوا أحرارا، اليوم ليس كالأمس، ومن عرفتهم اليوم سيتغيروا في الغد، ومن المحال دوام الحال..لكن كان فرعون يعيش بتلك العقلية القديمة المتخلفة وأن هؤلاء العبيد سيستمرون في عبوديتهم إلى أبد الآباد..وهذا هو تفكير الطغاة دائما ..
إنه سرابُ الملك، وخمرةُ العرش، ونشوةُ الحكم..
إنه درسٌ بليغ لكل طاغية أن كأس الحكم علقم وإن مُزجت بالعسل، وأنّ كرسي الملك هلاك وإن زُخرف بالحياة..
تَنحني الدُّروب الطويلة لمُوسى عَليهِ السَّلام وهو يقودُ بَني إسرائيل، وتُرحب به الوهاد والنّجاد لأنه أكرم من مشى عليها يومئذٍ ..

كان موسى يترقب النّهاية ويفوّض أمره في كل صغيرة وكبيرة للملك الجليل ..
خُطوات موسى أثناء تلك الرحلة كانت تحمل الأعباء فيتصبر لأنهم كانوا يعتبروها مغامرة نحو المجهول وهو يُعلّمهم من هو الله ..
.. { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } !
هو الذي أمرنا بعبادته، وهو الذي أمرنا بالخروج، وهو خالقنا وخالق هذه الدروب والصحاري والقفار والأنهار والبحار..
كان جدبُ الثّقة قد حاصرهم، والهلع قد أحاط بهم من كل جانب، كان موسى على موعد أن يسمع منهم:
{ إنّا لَمُدْرَكُون } !
وكان موسى يموجُ في داخلهِ صوتٌ خفي يَطغى على كل شيء حوله فهو يتذّكر قولَ ربه :
{ قَدْ أُجيبَت دَعوَتكُما } !
هو ربي ولن يضيعني..
لن يخذل الله قلبا تعلق به ..
يجيبُ دعاء المضطر وإن كان لا يعبده فكيف بالمتصل به آناء الليل وأطراف النهار فضلا عن أن يكون الداعي كليمه...
ما أعظمها من منزلة!!
أي قلب كان يحمل موسى وهو ينتظر الخلاص..

سجّل القرآن هذه المشاهد أولا بأول فما أبلغ تصوير القرآن:
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ }

حالُ فرعون: لا بد من القضاء على هذه العصابة المارقة، لن نسمح لهم بالفرار إلى الشام، هيّا أيها الجنود ..
*وتعملُ الآلة الإعلامية لفرعون جهدها في الضخّ الكبير لحشد الدعم للقضاء على موسى ومن معه،* وجيش فرعون كما يذكر ابن كثير في البداية والنهاية ألف ألف وستمائة ألف ..
" مليون وستمائة ألف" جندي يظن فرعون أنه سيسحق بهم بني إسرائيل ويصيرهم في خبر كان ..

يا لله ..
أي طغيانٍ هذا !!
أينتصر من يحارب الله ولو ملَك ما بين الخافقين؟
أيفوز من يبارز الله ولو بكل عتاد الأرض.؟
حليمٌ أنت يا الله ..لا أحد أحلم منك، صبور على عبادك..تمهل كثيرا لكنك لا تهمل..
كم أمهلت وجعلت هناك متسعا من الوقت وفرصة من الزمن لمراجعة الحسابات لكن ما أكفر هذا الإنسان وأشد طغيانه !!
*كان فرعون في أوج مراحل طغيانه، وأشد حالات عتوه، وأعنف خطوات بطشه، كان يود أن يسحقهم..*
إنه لن يدع ولن يذر..
سيفتك بالمتمردين..
ويقترب الموعد ..
ويلحقهم فرعون ..
أشرقت الشمس ولم يشرق معها النور إلى قلوبهم بل تسلل مع شعاعها اليأس والرعب إلى نفوسهم.

{فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ }
لحقهم فرعون وجنوده وحصروهم في مضيق لا مفر منه .
.
{فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ}
رأى كل فريق الآخر رأي العيان وتلاقت الحدق بالحدق والأبصار بالأبصار...


{فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}
سيدركنا القوم لا محالة والأمر مؤكد ب{ إنّا} .

لحقهم فرعون بجيشه العرمرم اللجب فأدركهم عند طلوع الشمس، وتراءى الجيشان ، ولم يبق ثَم ريب عندها ، وعاين كل من الفريقين صاحبه وتحققه عن قرب ورآه، فعندها قال أصحاب موسى وهم خائفون تملكهم الرعب وسيطر عليهم الفزع: إنا لمدركون، وذلك لأنهم اضطروا فى طريقهم إلى البحر، فليس لهم مسلك ولا محيد ولا مهرب إلا خوضه وكيف لهم أن يخوضوا البحر فموسى وراءهم والبحر أمامهم..

{فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}
قالوها والخوف قد ركبهم..
*لكن موسى قطع توكيدهم الموهوم بحرف الردع والزجر{ كلاّ}*
{ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِى رَبِّى سَيَهْدِينِ }
معي ..
*فقد كان وحده يصلي في محراب الثقة..*
وحده جمعيةُ قلبهِ في عكوفٍ مع الله ..
وحده يحارب جيوش اليأس بسيوف الأمل، ويصارع أمواج الخوف بجنود الأذكار..
وحدهُ متصلٌ أمّا البقية فالخوف هو سيّد الموقف..

{ إِنَّ مَعِى رَبِّى }
والله لو فقد موسى كل الدنيا ومعيّة الله معه فما فقد شيئا ..
*هذه أعظم كلمة يمكن أن تقال عند احتدام الخطر واشتداد البأس..*
معيّة الله أعظم كنز يمكن أن تعثر عليه فإنه إن كان معك سيحميك وأنت في عين العاصفة..وإن لم يكن معك هلكت وأنت على شاطئ النجاة..

{ سَيَهْدِينِ }
هو الذي يهديني الطريق ..
وهو الذي هدى التابوت يوم أن كنتُ رضيعا إلى قصر الطاغية ..
" اقترب من الخوف تأمن" ..
*ولقد كنتُ تائها ذات مساء في صحراء مظلمة لا أعرفه فدلّني وهداني إليه...*
والآن حاشاه أن يتركني في منتصف الطريق.

اشتدّ الكرب، وتفاقم الأمر، واقترب الخطر، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، عندها أوحى الكبير المتعال، صاحب الملك والجلال إلى موسى الكليم:
{ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ}

فلما ضربه انفلق بإذن الله، { فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} .
فجأة وبمجرد ضربة العصا في هذا البحر العرمرم الذي لا يبلغ مداه الطرف ينفلق..
لقد انفلق إلى اثنتى عشرة طريقًا، لكل سبط طريق يسيرون فيه..
يا لِله ..
كيف لماء البحر يصبح قائمًا مثل الجبال..!!؟
*نعم لقد أصبح مكفوفًا بالقدرة العظيمة الجبّارة الصادرة من ملك الملوك الذي يقول للشيء: كن فيكون.*

وجاءت الرياح في الحال فضربت حال البحر، فأذهبته حتى صار يابسًا لا يعلق فى سنابك الخيول والدواب. قال الله : { فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِى الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى}.

ضربهُ موسى فانفلق فشاهدوا من الأمر العظيم ما يحير الناظرين، ويهدي قلوب المؤمنين، ويبعث الطمأنينة في قلوب الخائفين..

سلكوا طريقا آمنة ..
وخرجوا بأمان..
يا الله ما أوسعَ الطرق إن كنت أنت الدليل !!
*وما أضيقَ الطريق على من لم تكن دليله..!*
بعد خروج آخر واحد من بني إسرائيل يأمر الملك أمره:
{ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا } أي: ساكنًا على هيئته، لا تغيره عن صفته التي هو عليها فهو مخلوق مثلك يأتمر بأمري..

عصاكَ يا موسى لا تقدم ولا تؤخر هي أيضا مخلوقة مثلك ومثل البحر..
{ إنّهم جندٌ مُغرقون}
قضي الأمر، وحق القول..

{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ } .
وهكذا مصيرُ كلّ طاغية وظالم مرّ من على هذا الكوكب مصيره البؤس والخزي والهوان وسوء الأحدوثة ..

كان يوم عاشوراء حَدثا عظيما صامَهُ موسى عليه السلام شكرا لربه على هذا النصر المبجّل وصامه نبينا صلى الله عليه وسلم إحياء لذكرى ذلك النصر..
*ويا للعجب من أناسٍ يزعمونَ محبةَ موسى وكره فرعون وهُم في الواقعِ ضدّ كلّ موسى ومع كلِّ فرعون..*
وفي النهاية..
لا غالب إلا الله ..
ومصير كلِّ محاربٍ لربه مبارز له الخسران والهلاك..
وكل معركة تقام ضد الله معركة خاسرة ..
{ فاليومَ ننجيّكَ ببدنكَ لتكونَ لمن خلفكَ آيةً}
هذه نهاية كبير المتمردين على الله ..
وأنت يا كل ظالم إن لم تتعظ صرت موعظة، وإن لم تعتبر صرت مُعتبرا، فهذه نهاية أكبر طاغية ماثلةّ أمامك منذ آلاف السنين..


أيها الناس: *ابتهجوا بعاشوراء وصوموه شكرا واجعلوه اليوم العالمي لهلاكِ الطّغاة..*
فلا طاغية كفرعون، ولا عاقبة كعاقبته، وهو اليوم الوحيد الذي أُمِرنا بصيامه شكرا ..
عامر الخميسي
...المزيد

إليك نابغة الخطباء.. " تنزيه الأنظار بذكريات عصام العطار" كانت خطبة ملهبة للمشاعر يوم أن ...

إليك نابغة الخطباء..

" تنزيه الأنظار بذكريات عصام العطار"


كانت خطبة ملهبة للمشاعر يوم أن وقفتَ أمام الحشود وأنت لم تجازو العشرين فسماك حينها الطنطاوي "نابغة الخطباء " لقد كان لقبا مفصلا عليك ودخلت بتلك الخطبة الجماهيرية بوابة التاريخ..
كل موقف في حياتك يستحق أن يسطر بمداد من ذهب لتعيه الأجيال ويبقى كما هو ساطعا أمد الدهر..
حقا أنت أمة لوحدك..
صنعت في طريق الظلام مصباحا للسالكين سيبقى يضيء ما أشرقت شمس وتلألأ قمر..

في عام 1955م عقد مؤتمر في دمشق ضم كل شيوخ سورية الكبار وكل السياسيين السوريين الإسلاميين وكل الجمعيات الثقافية الإسلامية والهيئات والملتقيات وكان من أضخم المؤتمرات التي عرفتها دمشق، وفي هذا المؤتمر اختير عصام العطار بالإجماع أمينا عاما لهيئة المؤتمر الإسلامي وتسامع به الناس ولمع ذكره في الأقطار وأصبح من هو عصام العطار..

كان العطار خطيبا لمسجد جامعة دمشق، المسجد الذي يؤمه الآلاف يتشوقون كل جمعة لنابغة الخطباء الذي كان يدوي بخطبه أرجاء العالم الإسلامي وما كان حينها خطيب في دمشق يهز أعواد المنابر كما يفعل العطار فهو من نوادر الزمن حتى أن الطنطاوي زوّجه ابنته بنان بعد إلقائه إحدى الخطب إعجابا ببلاغته وقوة كلماته وحسن أسلوبه وبراعة بيانه..

كان العطار يحرك مدينة دمشق كلها بخطبه فإذا احتاج أهل دمشق لشيء أخبروه وكان يحف به الآلاف من العلماء وطلبة العلم ورجال الدولة والكبار ويتواضع بين يديه رجال العلم والفكر وحسبك أن يحف به مصطفى السباعي ومصطفى الزرقاء والطنطاوي والمبارك وأغلب علماء دمشق..وعرضت عليه بعد ذلك المناصب والوزارات فرفضها ليبقى في سلك واحد وهو سلك الدعوة إلى الله واحتل لقب خطيب دمشق الأوحد لعقود..


لقد كنتَ عصاميا كوالدك العالم الفقيه الجهبذ الذي كان رئيساً لمحكمة الجنايات في يوم من الأيام، وكان من مناصري خليفة المسلمين السلطان عبد الحميد، وكان محبا للفروسية عاشقا لها كما عشتَ أنت عاشقا لصهوات المنابر، وقد شابهتَه في كثير من محطات حياتك "ومن شابه أباه فما ظلم " لقد ثرتَ ضد الظلم كما ثار هو وحاولوا اغتيالك مرات كثيرة كما حُكِم عليه هو بالإعدام، وهاجرت من البطش والتنكيل إلى ديار الغرب كما هاجر هو إلى الاستانة، وعاش سنوات بين القبائل العربية في جبل الدروز كما عشتَ أنتَ في مدينة آخن..

لحظات صعبة وذكريات مؤلمة عندما نُفي والدك أخيراً إلى استانبول أثناء الحرب العالمية الأولى، لقد كان يحفظ سيرة ابن هشام عن ظهر قلب كما تحفظ انت ألفية ابن مالك والزبد، وكان قوي الذاكرة وحلو الحديث، وشاعراً وكذلك كنت أنت.
وأمه_ جدتك_ كانت سيدة صالحة على قدر كبير من الفهم والتدين، توفيت وهي تقول :
ونفس عصام سوّدت عصاما
وعلّمته الكرّ و الإقداما

ذكريات تستحق القراءة والتأمل أيها العصامي المجيد وقد وقفتُ مرارا وأنا أسبر أغوار حياتك المليئة بالعبر فاحترت ماذا أكتب وبماذا سيأتي ابن الثلاثين إذا تحدث عن حياة وعطاء وبذل دام تسعين سنة ..

لا زلتَ تحمل الشوق الذي برّح بقلبك وحفر ندوبا من الألم..
الشوق للشام جنة الدنيا وبستان الدهر وزهرة التاريخ..
لازلت تشتاق لدمشق الجمال التي كانت تحكم العالم، وتسوس الأرض، ولازال يصب في قلبك ماء الحياة من"بَرَدى" وتشم الهواء العليل من سفح " قاسيون" وتقطف من زهر" الغوطة" لا زلت وفيا لأطلال الديار ومعاهد الأتراب..
ألستَ أنت القائل:
يـا شـامُ يـا شامُ يا أرضَ المحبّينا هـانَ الـوفاءُ وما هانَ الوفا فـينا
نحـيا على الـبعد أشـواقاً مـؤرقـة
لا الوصلُ يدنو ولا الأيام تسلـينا
إنّا حملناك في الأضـلاع عـاطـفـة
وصُـورةً مِـنْ فتون الحسن تسبينا

كنتَ ولا زلت تتألم من الواقع المزري الذي أنهك بلاد الشام وصيّرها جرحا نازفا، لقد كانت كلماتك مؤلمة وأنت تتأوه:
يا شـامُ جـرحُكِ في قـلبي أكابـده
دمـاً سخيـاً وآلامـاً أفـانيـنـا
فلله ما فعل الشوق بقلبك وما رسم الحنين بفؤادك وما صنعت الذكريات بخاطرك الملهوف ومشاعرك المرهفة؟

أصيب العطار بالشلل في منفاه في بروكسل فكتبت إليه زوجته في رسالة طويلة :".. لا تحزن يا عصام، إنك إن عَجَزتَ عن السَّير سِرتَ بأقدامنا، وإن عَجَزتَ عن الكتابة كتبتَ بأيدينا"..
وكانت نعم الزوجة والخل الوفي ولحقته إلى ألمانيا..

ذات مساء قبل إحدى عشرة سنة كانت مذكرات علي الطنطاوي بين يدي أطالعها وأحتسي فناجين القهوة فتسمّرت عيني وبردت القهوة بين يدي وتعكر مزاجي والتاع خاطري وبقيت مدهوشا فلم يقطع عليّ دهشتي إلا أذان الصبح..
كان أديب الفقهاء يحكي قصة تُبكي الصخور المتحجرة قبل القلوب المرهفة ويستنطق الجماد الصلب قبل المتحرك الرطب..
يا لله ..

لقد كان يقص نبأ مقتله بمقتل ابنته بنان، ويحكي خبر مصرعه بمصرعها!
كان يذكرها والدّمع يملأ عينه, والخفقان يعصف بقلبه, كان يذكرها أول مرة و ما غابت عن ذهنه لحظة،
أخبر أنه كان يجد مأتمها في كل مأتم وخبر وقاتها في كل خبر وفاة..
كتبَ عنها في الذكريات وقد مرَّ على استشهادها أربع سنوات ونصف، وكان لا يصدِّق بعقله الباطن أنها ماتت!

كان يغفل أحيانا فيظن إنْ رنَّ جرس الهاتف، أنها ستُخبره على عادتها بأنها بخير؛ ليطمئن عليها، تكلِّمُه مستعجلة، تُرصِّفُ ألفاظها رصْفاً، كأنها تحس أن الرَّدَى لن يُبْطئ عنها !
لقد كان دائما يتذكر عندما اقتحم عليها المجرم البيت! ثم أطلق عليها خمس رصاصات ! تلقَّتْها في صدرها وفي وجهها !كأن فيها بقية من أعراق أجدادها الذين كانوا يقولون :
ولَسْنا على الأَعقابِ تَدْمَى كُلُومُنا ** ولكن على أَعقابنا يَقْطُرُ الدَّمُ
ثم داس بقدميه النجِستين عليها وهي تتخبط في دمائها ليتوثَّق من موتها !

لقد كلَّمها قبل الحادث بساعة واحد !
سألها :أين عصام ؟
قالت :« خَبَّرُوه – يعني السلطات الألمانية - بأن المجرمين يريدون اغتياله، وأبعدوه عن البيت ، قال: وكيف تبقين وحدكِ ؟ قالت : بابا لا تشغل بالك بي، أنا بخير
ثِقْ والله يا بابا أنني بخير ، إن الباب لا يُفْتَح إلا إنْ فتحتُه أنا ، ولا أفتح إلا إنْ عرفتُ من الطارق وسمعتُ صوته ، إنْ هنا تجهيزات كهربائية تضمن لي السلامة ، والمسلِّم هو الله .
ما خطر على بالها أن هذا الوحش سيُهدِّد جارتها بمسدسه حتى تكلمها هي ، فتطمئن ، فتفتح لها الباب.

ومرّت الساعة ... فقرع جرس الهاتف ... وسمِع الطنطاوي من يقول : كَلِّمْ وزارة الخارجية..

فكلَّمه رجل أحس أنه يتلعثم ويتردَّد ، كأنه كُلِّف بما تعجز عن الإدْلاء به بُلَغاء الرجال ، بأن يخبره.. كيف يخبره؟
ثم قال : ما عندك أحدٌ أكلِّمه ؟ وكان عنده أخوه . فكلّمه ، وسمع ما يقول ورآه قد ارتاع مما سمع ، وحار ماذا يقول لوالدها المسن العجوز الذي عركته الأيام برحاها ؟
وأحس أن المكالمة من ألمانيا ، فسأل : هل أصيب عصام بشيء؟ قال أخوه : لا ، ولكن .... قال : ولكن ماذا ؟؟ قال : بَنَان ، قال : مالها ؟؟ قال أخوه ، وبسط يديه بسط اليائس الذي لم يبق في يده شيء!....
وفهم الطنطاوي وأحس كأنَّ سكيناً قد غُرِس في قلبه ،ولكنه تجلَّد ، والنار تضطرم في صدره : حدِّثْني بالتفصيل بكل ما سمعتَ. فحدَّثَه ...
وشعر كأن المصيبة عَقَلَتْ لسانه, وهدَّتْ أركانه، و أضاعت عليّه سبيل الفكر!
لقد أغلق بابه وجعل يعتذر للزائرين فترة من الزمن ثم فتح بابه ولكن لم يستطع أن يتحدث في الموضوع أبدا..
كان يتكلم في كل موضوع إلا الموضوع الذي يأتي الناس من أجله!
لقد كان يتصور حياتها كلها مرحلة مرحلة, و يوما يوما، تمر أمامه
متعاقبة كأنها شريط يمر أمام عينيه.


أما عصام ففي ذلك اليوم الدامي رفع الهاتف ليطمئن على زوجته فرد عليه رجل البوليس، فأغلق السماعة ثم ضرب الأرقام بعناية مرة أخرى فرد عليه الرجل ذاته وسمع كلام رجل مضطرب فشعر بأمر خطير في البيت فطلب منه أن يكلم زوجته، فقال له رجل البوليس والحشرجة تقطع عباراته: كن شجاعا كما يجدر بقائد كبير مثلك يا أستاذ عطار فأنت بحاجة إلى أقصى درجات إيمانك وشجاعتك لتتحمل هذا النبأ !!
إنك لن تستطيع أن تكلم زوجتك الآن ولا بعد الآن ..لقد قتلها أعداء الإنسانية .."

ولك أن تتخيل موقفه حينها..
موقف الغريب المشرد المريض الذي يُلاحق فتقتل زوجته ولو أراد أن يعيش مترفا لكن له ذلك كيف لا وهو الذي استقبله الملوك وخاطبه الرؤساء وخطب ودّه القادة لكنه أبى إلا أن يعيش للإسلام ولأجل رفع راية الإسلام بعيدا عن الجاه والمناصب والأوسمة..

توطدت بين أديب الفقهاء ونابغة الخطباء حبال وصل إلى الأبد: جراحٌ بجراح، ودموعٌ بدموع،وذكريات بذكريات، ودعواتٌ بدعوات.
ولم تندمل قطّ جراح علي الطنطاوي لفقد بنان، ولم تندمل جراح نابغة الخطباء ولم يرقأ دمعه، وبقي علي الطنطاوي يتأوه لتلك التذكريات حتى لحق بربه وقد كان حزنه يتجدد حتى في الأعياد وقد كتب في أحد الأعياد:

« أنا أكتب هذه الحلقة يوم العيد. ما على ألسنة الناس إلا التهنئات فيها الأمل الحلو، وما في قلبي إلا ذكرياتٌ فيها الألم الـمُرّ.. فأنَّىَ لي الآن، وهذا يومُ عيد، أنْ أقوم بهذا الذي كنتُ أراه واجباً عليّ ؟
....

كيف أصل إلى القبر الثاوي في مدينة (آخن) في ألمانيا، في مقبرة لا أعرف اسمها ولا مكانها ؟
ما كان يخطر في بالي يوماً أن يكون في قائمة مَنْ أزور أجداثَهم: بِنْتي!!
ويا ليتني استطعتُ أن أفديَها بنفسي، وأن أكون أنا المقتولَ دونها؟
وهل في الدّنيا أبٌ لا يفتدي بنفسه بِنْتَه ؟ إذن لـمُتُّ مرّة واحدة ثم لم أذُق بعدها الموت أبداً !
بينما أنا أموت الآن كل يوم مرّة أو مرّتين، أموت كلّما خطرَتْ ذكراها على قلبي! »


يا لجراح الأب المكلوم الذي هدته الأوجاع وحاصرته الأسقام وأمضته نوبات الفقد وقد كان في أيّامه الأخيرة، وهو في غرفة العناية المركّزة يذهب بمخيلته بعيدا بين الحضور والغياب، كان يُحِسّ بكل ألم مَن يحفُّون بسريره من بناته وأصهاره وخُلَّصِ إخوانه، ويجول بعينيه الضعيفتين بينهم وكأنه يفتقد بينهم شخصًا حبيبا لا يراه ..
وكان ذاك الأديب المصقع الذي أنصتت له الدنيا ردحا من الزمن يُرمز إلى عواده رمزًا واضحاً إلى بنان، ولا يُسعِفُه اللسان، وارتفعت يدُه لتعانق حفيده «أيمن» ابن بِنْتَه الشهيدة وقد كان بجانب رأسه- وقد حضر إليه من ألمانيا زائرا مواسيا..

ثمّ سقطت اليد الواهنة الضعيفة النحيفة على السرير، وافْترَّتْ شفتاه عن ابتسامة ممزوجة بالحزن والسرور وكانت لحظة وداع أليمة عبر عنها العطار تعبيرا بليغا وهو يبث حزنه بين السطور يكاد ينهد لها الجبل الراسي والصخر القاسي..

عاش العطار شريدا غريبا عن دياره ووطنه وأهله وعشيرته يقول مخاطبا زوجته يرثيها:

عِشْنا شريدَيْن عن أهلٍ وعن وطنٍ ملاحماً من صراع النور والقِيَمِ
الكيد يرصدنا في كل مُنْعطَفٍ والموت يرقبنا في كل مُقْتحمِ

ما أصعب أن تعيش مرتقبا الموت منتظرا الرصد، حولك العيون والجواسيس تنتظر اليوم أو غدا هجومهم عليك..
لقد عاش عصام العطار يعاني من التضييق والحصار وقد عرف غياهب السجون والمعتقلات وحر القيود والسلاسل ولم يثنه ذلك طرفة عين عن مواصلة الطريق..
وتنقّل بين دول عربية باحثا عن ملجأ بعد أن ضاقت به سوريا فكانت ألمانيا هي مستقره وفيها أصيب بالشلل فاحتالت زوجته للحاق به ولم تدر المسكينة أن الموت يترصدها هناك ولكن صنعت بصمة قبل رحيلها بتأسيسها المركز الإسلامي النسائي في " آخن" ومؤلفاتها التي بقيت خالدة بعدها..


أذكرُ والدي عندما كنت صغيرا ما جاوزت حينها السابعة وهو يردد في المجالس عبارات لخطيب الدنيا المصقع عبدالحميد كشك في تلك السنة التي توفي فيها كشك وقد كان والدي يُعرّف الناس به ويتحدث عن سيرته في المجالس ومما كان ينقله عن كشك" يا حافظ الأسد يا حاكم سوريا يا حافظ الأسد..
لا أنت حافظ..ولا أبوك أسد ..
امرأة مسلمة تقتلها المخابرات...."
وقد كان كشك يصدع من منبره بقصة اغتيال بنان الطنطاوي تلك القصة الأليمة التي هزت ضمير الإنسانية حينها..
فكان يروق لوالدي أن يذكر تلك القصة مرددا ما يقوله كشك ومقلدا له في نبرته..
كنتُ حينها صغيرا لكن أعي ما يقول الناس وأحفظ ما يرددون وتمر الأيام وأدخل الجامعة ويشاء ربي أن أتصفح "الذكريات" وإذا بتلك المقتولة هي ابنة علي الطنطاوي_ الذي عشقتُ كتبه من الصغر وكان كتابه "تعريف عام بدين الإسلام" هو أبرز كتب مكتبة والدي_ وزوجة الداعية عصام العطار نابغة الخطباء وسليل أرباب العلم وخزانة الأدب وسحبان المنابر وسيف الحق المصلت، الرجل الذي عاش عظيما في مبادئه، وزوجا وفيا، وأبا حانيا زكيا، ومجاهدا صنديدا..وجسورا مناضلا عنيدا ..

قتلوها ليقتلوا زوجها معنويا فيموت ببطء ..وقد قال حينها مَلِكٌ عربيٌّ لمسؤولٍ كبيرٍ جدًا في سوريا: نحنُ نفهم أن تقتلوا عصام العطار، أما أن تقتلوا زوجته...! قال المسؤول الكبير في ذلك الحين:

نحن لم نقتل عصام العطار كما أردنا، ولكننا أصَبْناهُ في مقتل.. لقد قَطَعْنا بقتل زوجته بنان يده ورجله، ولن يستطيع بعدها أن يتحرك كما يتحرك، وأن يعمل كما يعمل".

لكن هيهات لنابغة الخطباء أن يتوقف فقد كان منارة أدب وعلم في بلاد الغرب تشع في الطريق ما كان لها أن تخمد أو تنطفئ..


فارقتَ الشام وقلبك يتقطع أسفا على فراقها وما كنت تتخيل يوما ما أنك ستحن إلى مراتع صباك..ومغاني طفولتك..

سقى الله أرض الغوطتين وأهلها
فلي بجنوب الغوطتين شجونُ
وماذقت طعم الماء إلا استخفّني
إلى بَرَدى والنيربين حنينُ

إيه لتلك الذكريات الغضة لقد حن حمام الأيك شوقا لمسامرتك وبكاك "بَرَدى" لفقدك فهذه دموعه تسفح سفحا، وذبل زهر الغوطتين وياسمينها حزنا على بعدك..
لقد حركت المشاعر وألهبت العواطف وأنت تردد في مسمع الدهر:

هَلْ حَنَّتِ الوُرْقُ شَوْقاً عِنْدَ غَيْبَتِنا...كَما حَنَنَّا وَهَلْ هَاجَتْ شَجِيِّينا

وَهَلْ بَكَى «بَرَدَى» أَمْ جَفَّ مَدْمَعُهُ...لِمَا بَكَى مِنْ تَبارِيحِ المَشُوقِينا

وَهَلْ رَأَتْ في دُروبِ الخُلْدِ «غُوطَتُنَا»...وفي خَمائِلِهِ في الأَهْلِ سَالِينا


أين منكَ دمشق التي تغنيت بجمالها الفاتن، وهمت في ياسمينها الفواح، وشربت من مياهها العذبة، واستنشقت نسيمها العليل، وعشت في أحيائها الوادعة وترددت على مساجدها العامرة، وخلّدتَ ذكراك في جامعتها العتيقة..؟
بوجهِ دمشقَ يكتملُ الجمالُ
ويسمو في مراتبهِ الجمالُ

دمشق التي كانت يوما ما تاج العواصم وياسمين الشام وزهرة فاتنة مياسة تحوي من الدنيا كل فن ..
دمشق التي ما شيء في الجنة إلا وفي دمشق مثله ..
يكفيك اليوم أن تردد أيها النابغة ما قاله نزار:
فرشتُ فوق ثراكِ الطاهر الهدبا
فيا دمشق لماذا نبدأ العتبا؟
حبيبتي أنتِ فاستلقي كأغنيةٍ
على ذراعي ولا تستوضحي السببا
يا شامُ إن جراحي لا ضفاف لها
فمسّحي عن جبيني الحزن و التعبا

كم قطّعت الغربة قلبك فقلت في ذلك الأشعار وكتبت في ذلك الدواوين وكم كان يطرب الدكتور سلمان العودة وهو يسمعنا من قصائدك فقد حفظ سلمان أول ما حفظ من قصائدك وهو فتى بعد العاشرة بقليل وتعلق بكتاباتك وقصائدك وخطبك حتى لكأنك شاركت في صياغة شخصيته وقد داهمه شاب بخبر مفاجئ وهو فندق جراند بأسطنبول قائلا له: هل تدري من يسكن في الغرفة المجاورة لك ؟
إنه عصام العطار..
وقد كان جدار واحد بينكما فقام يركض للقائك ..
وقد شابَهَت بعضُ فصول حياته فصولا من حياتك فلقي الكثير من مآسي السجون والاغتراب وفقد الزوجة والولد والحبيب..

لقد كان لقاء العودة بك لقاء مفاجئا لكنه احتفل بك وخرج يعلن أنه سهر معك ليلة كاملة أسمعته فيها قصائد الشرقيين والغربيين من المتنبي إلى غوته..وأنه أنس بك بعد بحث عنك دام عقودا من الزمن ولكأنه يشعر بأنس اللقاء إلى الآن وما أشبه الليلة بالبارحة!!

من يستطيع من القراء أن يحبس دمعه وهو يردد معك:

جُرْحٌ مِنَ البُعْدِ يَا أُمَّاهُ قَرَّحَهُ ... مَرُّ السِّنِينَ وَلَمْ يَلْقَ المُدَاوِينا

جُرْحٌ حَمَلْنَا كِلانَا في جَوَانِحِنَا...يَكادُ في عَصَفَاتِ الشَّوْقِ يُرْدِينا

يا أُمِّ سَوْفَ يَعُودُ الشَّمْلُ مُجْتَمِعاً...لا خَيَّبَ اللهُ في اللُّقْيَا أَمَانِينَا

فَإِنْ قَضَى اللهُ أَلاَّ نَلتَقِي فَغَداً ... في ظِلِّ رَحْمَتِهِ يَحْلُو تَلاقِينا

سلام الله عليك يا نابغة الخطباء ما احتشدت المحافل وتحركت الجحافل، وما صدحت الحناجر بكلمة الحق على المنابر..

عامر الخميسي
١٣/ ٢/ ٢٠٢٠م
...المزيد

*ساعة قبل الوفاة* قبل شهر كنت في مطار الدوحة حيث وصلتني دعوة من مركز عربي للدراسات والبحوث ...

*ساعة قبل الوفاة*

قبل شهر كنت في مطار الدوحة حيث وصلتني دعوة من مركز عربي للدراسات والبحوث اقترب مني شاب يبدو أنه مستعجل ومرتبك وضع حقائبه بجانبي وطلب مني الانتباه لها ليعود بعد دقائق وقطرات الوضوء تتساقط من وجهه سأل هل صلينا المغرب قلتُ نعم..فافترش قطعة قماش أخرجها من حقيبته وقام يصلي...
بعد الصلاة كان الوقت قد أزف لموعد الإقلاع..
كنتُ أسمعه يتمتم: يارب قلب أمي..
لم أشأ أن أقطع عليه ما يفكر فيه..
من حسن الحظ كان مقعده بجوار مقعدي تبيّن لي من خلال كلامه أنه دكتور جراح في نيوزلندا ويزور أمه كل خمسة أشهر رغم بعد المسافات..
في الطائرة بطبيعة طول السفر وحال أكثر المسافرين سألني عن تخصصي وبلدي واسمي...الخ..
ثم قال كيف هي أمك؟
ألا زالت على قيد الحياة؟
متى آخر مرة سمعتها؟
هذا الطبيب الشاب لا بد أن يسمع أمه كل يوم..
كان الأول في ألمانيا على جامعته في تخصصه ورغم كل انشغالاته وأبحاثه لا ينسى أمه..وحتى أنه يرسل لها بما تريد وفوق ما تريد من مقر إقامته..

أخبرني أنه زارها منذ ثلاثة أشهر لكن لأنها مرضت فجأة بأزمة قلبية حجز تذكرة وهرع لإنقاذها...

نظر في الساعة إنها تقرب من العاشرة ليلا ..قال يا الله لقد تأخرت على أمي ..
قال لي:

في مطار كولاند دخلتُ مكتبا للسفريات فأخبروني أن لا مكان في الطائرة المتجهة إلى حيث أريد..

يا إلهي..
ماذا أنتظر؟

لا بد أن أبقى خمس ساعات في انتظار الرحلة القادمة..

أخذت رقم مكتب السفريات وأعدت الاتصال بهم لكنهم رفضوا...

خرجت إلى خارج أرضية المطار أقلب كفا بكف ..يارب قلب أمي..

لقد حققت أعلى نسبة نجاح في تخصصي بدعوات أمي..
لقد حصلت على وضيفة مرموقة بدعوات أمي..
لقد توفقت في حياتي الزوجية بمسلمة غربية في نفس تخصصي ورزقت منها بولدين بدعوات أمي..

كان يحدثني ونحن على بعد خمسة وثلاثين ألف قدم بين السماء والأرض عن قلب أمه الذي ما فتر يحتضنه بدعواته وابتهالاته..
يعيد تسجيلاتها ليسمع آخر كلماتها وكأن كلماتها قوة له في مواجهة الحياة لكنه كان ينهار وهو يرسم خريطة الساعة الأخيرة..

يقول حاولت مرارا في أن تعيش أمي معي لكنها آثرت أن تكون بجانب أخواتها وأهلها ورفيقات طفولتها وجيرتها..

تنهد ثم قال :
لقد شعرت منذ أسبوع أنها مريضة ولم تشأ أن تبوح لي بمرضها خوفا من قلقي..
وفي اتصالها بالأمس أخبرتني أنها تريد أن تراني قبل الوداع...

يالِله..ما أقسى كلمة الوداع على قلوب المحبين..
أخفيت دمعة نزلت من عيني وقلت له لا بأس عليك ستصل وترى أمك وعسى الله أن يمن عليها بالشفاء..
لكنْ في نفس الوقت تكسرت مجاديفي وأنا أتخيل مشاهد العقوق التي صدمتني ولا زالت تلاحقني رغم مضي ثلاث سنوات على مغادرتي صنعاء..

تخيلت تلك المرأة التي طرقت باب بيتنا وعندما فتحت لها الباب بادرتني بورقة وقالت هذا رقم ولدي إنه يمتلك عمارة وتخير لزوجاته وأولاده أرقى الشقق وأنزلني شقة لا تسكنها الحيوانات..

وتلك المرأة التي اتصلت بي قائلة إن ولدي صيدليا ولي سنة كاملة أعاني من أوجاعي لم يلتفت إلي أو يحضّر لي أدويتي..

وتلك المرأة التي اشتكت من ولدها الذي لا يرد على اتصالها ولأنه القانوني والمحامي الشهير لا يوجد لديه وقت لسماعها وحل مشاكلها..

كنت أقول لكل واحدة وماذا عساني أن أفعل يا أماه..هل لأني أرتقى منبرا ويقصد مسجدي أهل صنعاء وأصبحت معروفا أقدر في حل كل مشاكل العقوق...

عشرات الأمهات لو كتبت عن كل واحدة مضى زماني في الكتابة عن العقوق..

قطع تفكيري بقوله:
خمس ساعات لا أستطيع الانتظار في مطار كولاند..

الجو المتقلب في كولاند جعل جسمي يتجمد..

كنت أهيم على وجهي من مرفق إلى مرفق ويدي على قلبي..
قلت لأمي لماذا لم تخبريني قبل أسبوع...سأتأخر في هذا الوقت الحرج..
قالت: *لا بأس يكفيني منك ساعة قبل الرحيل..*
أنا بحاجتك لا تتأخر يا سندي..

جاءني اتصال مفاجئ رفعت التلفون وإذا بها موظفة مكتب السفريات تقول لي حظك جميل لقد اعتذر أحد المغادرين عن السفر وبقي مقعده شاغرا..
أسرع لا تتأخر..
أسرعتُ ويدي على قلبي ..ولساني يتمتم: قلب أمي...

قلتُ لعله أيضا دعاء والدتك ..
إنها في شوق للقياك..
أخبَرني عن ذكرياته معها وكيف أحسنَت تربيته بعد وفاة والده وكيف باعت بعض ما تملك ليسافر....

آه..
ما أجمل قلب الأم..
حنانها..
حبها..
خوفها..
فرحها..
كلها مشاعر لا توصف في كل محطة لولدها وصانع أحلامها..

هبطت الطائرة واختلط الركاب فلم أره بعدها..
أرسل لي بعدها: *إنها ساعة واحدة ..فقط..* ولو تأخرت خمس ساعات في مطار كولاند فاتني عمري..
وصلتُ إلى أمي ..
سلمتُ عليها
كانت تودع دنيانا..
قبّلتُها..
ناغتني بكلماتها العذبة..
الحمد لله أنك لم تتأخر يا ولدي..
*كنتُ أريدك لهذه الساعة..*
تمالكتُ نفسي وتشجّعت لأدخل عليها كلمات السرور والأمل والرجاء ..لكنها قالت..:
*لا أمل في الحياة بعد هذه الساعة..*
ضغَطَت على كفي بكفها ثم ابتسمت ابتسامة جميلة ما رأيت أجمل من تلك الابتسامة ثم تمتمت بدعاء قصير ولم تفتح عينها بعد ذلك..

حزنتُ لمصابه لكني عجبتُ من بره بها وعجبتُ من توقيتها لسفره..
إنه قلب الأم..💔 قلب الأم الذي إذا انكسر لا ينكسر إلا عليك...
بِرّ بها فما تدري متى تحينُ الساعة الأخيرة..
*عامر الخميسي*
...المزيد

💚أعيذك يا قلب..💚 أُعيذك بربِّ الناس والفلق والإخلاص من أن تمرَّ على الذكر الحكيم دون قلبٍ ...

💚أعيذك يا قلب..💚


أُعيذك بربِّ الناس والفلق والإخلاص من أن تمرَّ على الذكر الحكيم دون قلبٍ نابض وعقل واعٍ، وفكر حاضرٍ، وفؤاد متدبِّر.

أعيذك من أن يتمزَّق شغاف قلبك من ضربة قهرٍ وطول سفرٍ وقِصَر نظرٍ، وطول سهرٍ، وأنت تقرأ: ﴿ اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾ [الإخلاص: 2]، ثم لا تصمد إليه، ولا تنطرح بين يديه، ولا تتَّكل عليه، ولا ترفع حاجتك إليه، ولا تشكو وتتململ بين يديه، تستعد لتشكو حاجتك ساعاتٍ بأكملها لمخلوق مثلك، وتتباطأ من أن تُظهر له في لحظات السحر مسغبتك التي حطَّمت فِقار ظهرك، وأنينك المنطوي في خلجات صدرك، وما يَخفى مِن عظيمِ أمرك.

الصمد يا صاحبي هو مَن يقضي الحاجات ويجمع الشتات، ويمحو السيئات، ويرفع الدرجات، ويُبهج النفوس المطمئنات، ويشفي غليل النفوس العليلات، ويرسل غيث رحمته صيِّبًا نافعًا على المشاعر الراضيات، ويكحل بنعيم الشوق وبرد القرب العيونَ الساهرات.

أعيذك من أن تقرأ كتب التاريخ وتنسى: ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 4]، تَنبهر بالمعمار، وتثني على العظماء وتمدح الكبار، وتنسى سطرين تعادل ثلث القرآن.

تقرأ الكتب الكبار والمطولات، والجرائد والمجلات، والأسفار والمجلدات، وتسهر على النقاط بين ثنايا السطور، وتقرأ للقصاص، وتُعرض عن الدر المنثور في سورة الإخلاص.

تطالع عجائب الدنيا وتُهرَع إلى كلِّ خبر جديد، وتُعلق على كل حدث نزل، وبين يديك ما هو أغلى وأحلى وأجمل من صفائح الذهب المسبوك، وتيجان الدر المحبوك، ألا وهي صفات ملك الملوك.

كن وحيدَ دهرك، واصنَع من نفسك أمةً، ولا تركن إلى المخاليق، فكلهم إما حاسد لا يبوح بما في صدره، أو شامت حروفه نفاثات من شره، ولربما تجد أخًا صادقًا وخِلًّا وفيًّا، وهو أندر مما تتخيل.

أزحِ العُقَد التي تقف في طريقك، فإنها ستُعرقل مسيرك وتقف سدًّا منيعًا دون الوصول.

أُعيذك من أن تعيش حالة الهروب من روضة الأنس العامرة التي انفلق صباحها بالرضا والمسرة، وأن تطلب القرب من شرِّ الخلق، وتتدثر بالغاسق المظلم، فتهرب حينها من جحيم إلى جحيم.

أعيذك من أن تستعيذ: ﴿ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾ [الفلق: 5]، ثم يطول نظرك ويمرض قلبُك، وتشتعل نارُ الحسد في جوفك إن رأيتَ سيارة فارهة أو قصرًا جميلًا، أو تجارة نامية مباركة.

الحسد حسَكٌ مَن تعلَّق به هلك، ونار من لمسها أحرقتْه، يموت الحاسد في اليوم ألف مرة، لا يدري أن صاحب التجارة ربما حُرِم لذائذَ العيش بسبب أمراض القلب والكبد والكُلى والطحال، وأن صاحب القصر حرِم نعمة الأمن بظلمهِ للرجال، وأن صاحب السيارة حرِم نعمة الولد وضحكات الأطفال.

ربك حكيم يوزِّع الأرزاق، ومن الأرزاق ما تجده من السعادة الغامرة التي حُرِمها فئامٌ من البشر، ومنها ذِكرُك لربك وقُربك منه، ومناجاتك له في السحر، ومنها نعمة الدين والسكينة والطمأنينة، والرضا والأنس، وهي نعمٌ لا تُعادلها نعمُ الأموال والقصور والمراكب، حتى وإن أوصلتْهم لُججَ البحار وسطح القمر.

ملك الناس يا صاحبي هو الذي يملك المالكين وما ملَكوا، مَن هم أحياء ومن هلكوا، وهو الذي يصرِّف الحياة، ويقدِّر الأقدار، ويُسيِّر سفينة الكون، ويُحيطك برعايته وحفظه وكلئِه منذ أن كنتَ بين الأحشاء، وإلى أن صرتَ تدب بين الأحياء، مالك زمام أمرك المطلع على جهرك وسرِّك.

و﴿ مَلِكِ النَّاسِ ﴾ [الناس: 2]: هو مالك الملك وصاحب الملكوت الأعظم، ملكه لا يُحَدُّ وصفاته فوق العد، له ما في السموات وما في الأرض، وما بينهما، وما تحت الثرى من الفرش إلى العرش، ومن التراب إلى السحاب، ومن الحبة إلى القبة، ومن الذرَّة إلى المجرَّة، أفتبكي وتذرف الدمع الغزير على وسادتك، وتبخل أن تذرف دمعةً واحدة على سجادتك؛ إنك إذًا لبخيلٌ!

عليم بنبض قلبك وآمال درْبك وشوقك وحبِّك، بُثَّه شكواك وبكاك ونجواك؛ لأنه ربك وخالقك، وسيدك ومولاك.

أعيذك من أن تتعوذ: ﴿ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ﴾ [الناس: 4]، الذي يوسوس في الصدور، ثم تفتح له صدرك وتجري مع وساوسه، وتنسى أنك واقفٌ بين يدي ربِّك، تطلب اللجأ إلى رحابه هاربًا من الشيطان وحِرابه، مستعيذًا من شرِّه.

أعيذك من أن تقرأ: ﴿ مَلِكِ النَّاسِ ﴾، بقلب مكلوم وفؤاد موجوعٍ مِن طول غربةٍ ونكدٍ وشتات، وتنسى أن تطلبَ مِن فضله وهو ملك الملوك.

أعيذك من شر ﴿ الجِنَّةِ ﴾ الذين يجرون منك مَجرى الدم، ويتسلطون عليك لضَعفك وبُعدك عن خالقك، ومن أصدقاء السوء الذين يهجمون عليك وجهًا لوجه، فيُزينون لك الشر، فيجعلونه بحُسن وصفهم خيرًا، يهدونك السمَّ في العسل، يمدون لك شراعًا يُغرقك، وحبلًا يلتوي على رقبتك، كالحية ملمسُها ناعم وفي فمها السمُّ الزعاف، يصنعون لك فلكًا لتمخر به العباب، فإذا به مِن ورقٍ يُحرِّقه عودُ الثقاب!

فتِّش في قلبك المجروح، وقل له: كيف جُرِحتَ؟
داوِه بلُطف قبل أن يهترئ، وأمسِك عليه بكفيك، واتلُ عليه أوراد الحياة؛ ليُحلق عاليًا نحو العرش.
قلبك، قلبك، إن مَرِضَ، فعوِّذه قبل أن يتمزَّق.
*عامر الخميسي*
...المزيد

*افتح الباب يا قلب* وحينما تدرك أن العالم كله يعمل ضدك، والدنيا أغلقت أبوابها في وجهك اهرع إلى ...

*افتح الباب يا قلب*

وحينما تدرك أن العالم كله يعمل ضدك، والدنيا أغلقت أبوابها في وجهك اهرع إلى الباب..
لا تتردد..
لا تقل لست بذلك الطهر والنقاء والصدق الذي يمكنني من طرق الباب..لا تتباطأ عن المشي إلى مصراعي الباب..
يكفيك أن يردد قلبك:
وافيتُ ( بابك).. لا زادٌ يبلّغني..
ولستُ يا خالقي من جملة الصُلَحا

قم بهدوء وأفض حبيبات الماء على يديك وامسح بها وجهك ويديك ورأسك ورجليك ثم قف بين يديه..
إنك عندما تفتح الباب تفتح لك الدنيا أبوابها،وتلقى الأمن والسرور وتدلف إلى عالم الطمأنينة والأنس والانشراح..

حتى وإن لم تحفظ إلا بعدد الأصابع من سور القرآن اعلم أن الخير كله معك وعندك من الفتوح ما ليس له عد وليس له حصر..
كان صديقي الذي تعرفت عليه من جنوب أفريقيا قبل أيام يجهد نفسه في حفظ القرآن..
أردت ذات مساء أن أفتح الغشاء الرقيق عن قلبه لأعرف سر همته فقال: أخشى أن أموت قبل أن أكمل القرآن..
-وكم تحفظ؟
- قال ثلاثة.
نظرتُ إليه مطمئنا..أبشر معك الفاتحة سر الفتح وهي تعدل القرآن كله..
لم يصدق !!
قلت له إن كانت الإخلاص تعدل ثلث القرآن بنص الحديث فالفاتحة تعدل القرآن بنص القرآن ألم يقل الله" ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم"
فهي في كفة والقرآن في كفة.
رأيت الدموع تتحدر من عينيه فرحا.
كان يظن صديقي الذي جاء من أقاصي الدنيا أنه لن يدخل على ربه حق الدخول ولا يستطيع بلوغ مقام العارفين ولن يفتح له الباب إلا إذا حفظ القرآن كله..

وتشاء أنت من البشائرِ قطرة ..
ويشاء ربك أن يغيثك بالمطر

وتشاء أنت من الأماني نجمة ..
ويشاء ربك أن يناولك القمر

يمرض كثير من الناس ويصابون بأوجاع وآلام وأسقام فيهرعون سريعا للوقوف صفوفا أمام بوابات الأطباء وينسون الباب..
الفاتحة باب الشفاء الأمثل لكن لمن يملك مفتاحا جيدا..
ويشقى كثير من الناس ويصابون بالقهر الذي يفتت الأكباد ..ويمنعهم لذة الرقاد..
يعانون من مشقة الغربة في صحاري الحياة، وتعركهم الأوجاع عرك الرحى فيفكرون كل ليلة عند الإخلاد إلى النوم بمن يستعينون وينسون" وإياك نستعين".
واعلم أنك لو استعنت بكل معين سوى الله فلن تجد إلا الخذلان فاستكثر إن شئت أو دع..
والبعض من شدة كربه ييأس ويقنط وينهزم ولن تزيده الشدة إلا إعراضا وهو بعيد كل البعد عن الباب..

قل للذي ظن الحياة تعيسة ...
ومضى يُفتش عن (أمانٍ سانحة)
لن تستقيم حياةُ عبد معرضٍ ..
عن ربهِ (مالم يجي بالفاتحة)
الفاتحة هي خلاصة الكتب السماوية وهي بوابة الدخول على الملك..وهي زبدة ما نزل من وحي إلى الأرض منذ أول الخليقة..أفتنساها..؟.
خذ مثلا أضربه لك هب أن ملكا بنى أكثر من مائة قصر ثم أراد أن يبني قصرا يختم به كل القصور ويجعله زينة لها وآية عليها..فتخيل كيف سيكون هذا القصر...؟
ثم إن هذا الملك بنى لهذا القصر بابا فجمله وأحسنه فجعله تحفة للرائين وآية للناظرين وبهجة للعالمين..فالقصور هي الكتب السابقة والقصر هو القرآن والباب هو الفاتحة وهو معقد الجمال وخلاصة الكمال وهيبة الجلال فهيا لتفتح الباب.. فعلى مصراعيه تحف الدنيا.. وعلى جنباته كنوز الملكوت وهو معراج إلى ذي الجبروت..

الفاتحة إن عقلت أصل الحياة..وطريق الحياة..ومعين الحياة..لا يشقى من اهتدى بها..ولا يفتقر من استغنى بها..ولا يجهل من تعلم منها..ولا يذل من اعتز بها..ولا ينهزم من استنصر بها..ولا يضيع من استرشد بها..
هي الْحَيَاةُ فلا تسخَطْ ولا تلُمِ ..
وخلِّ عنك دواعي الهمِّ والندمِ
كل تعب وألم وهم وغم وكدر ونكد يزول بالفاتحة..بها تستنزل الغنى واللطف والرأفة والهبات والرحمات من" الرحمن الرحيم".
ومن خلالها تلتمس التوفيق والقوة والعون من " وإياك نستعين".
ومن خلالها تلتمس الإلهام والرشد والصواب والسداد من " اهدنا الصراط المستقيم" .
وهي مزيلة للبلايا والنكبات والأوجاع والضربات من خلال تألهك وانشراح صدرك لمعبودك
تَعــب الحيـاة أزيلــهُ بالفاتحة
فهي الشفاءُ، لكل صدر شارحة

في الفاتحة إعلان كبير لمن يريد العون ولا يوجد أحد من البشر إلا وهو ضعيف يحتاج لقوة، مهدود يريد سندا، فقير يتشوف لغنى، مستوحش ينقصه الأنس وأبواب البشر مغلقة دون القوة والسند والغنى والأنس فما من طريق دون الاستعانة به..

إنّ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
"عَهْدٌ مَهِيْبٌ تُعَاهِدُ بِهِ رَبَّكَ ﷻ فِي كُلِّ رَكعَةٍ أَنْ لَا تَعبُدَ سِوَاهُ وَلَا تَستَعِينُ بِغَيرِهِ ..
فَهَلْ يَلِيِقُ بِقَلبِكَ بَعدَهَا أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى غَيرِهِ".

ألا يكون شعارك:
مادام قلبي مشرقا بيقينه
فلسوف يبقى النور في أحداقي
من لطيف ما يُحْكَى عن البيضاوي بيض الله وجهه أنه لما ألّف تفسيره المشهور المسمّى بـ (أنوار التنزيل وأسرار التأويل) وفرغ منه، ذهب به إلى بغداد ليعرضه على السلطان، لعله ينال شيئا من عطاياه، يستعين به على نوائب الدهر .
فمرَّ في طريقه بقرية فيها أحد المشايخ ، فنزل عنده وأضافه ، ثم سأله :
أين قصدك ؟
قال: إلى بغداد .
قال : وما تريد بها ؟
قال : إني صنّفتُ تفسيرا بذلتُ الجهد في تنقيحه وتهذيبه، ولي بناتٌ قد أدرَكْنَ ، فاحتجت إلى تجهيزهنّ ولا مال لي ، فأردت أن أذهب إلى السلطان عسى أن يحلّ لي من عنده ما أستعين به في جَهازهنّ .
فقال له ذلك الشيخ : بم فسّرتَ قوله تعالى : {إياك نعبد وإياك نستعين} ؟.
قال : فسّرناه بأنّا لا نعبد إلا إياك ، ولا نستعين إلا بك .
فقال له : فكيف تستعين بغيره ؟!
فأثّر كلامه في قلب العلامة البيضاوي، وتنبّه ورجع قافلا من حيث جاء ، ولم يذهب إلى بغداد !
قالوا : فمن أجل ذلك وضع الله القبول على تفسيره ، فأقبل عليه العلماء من كلِّ جهةٍ في حياته وبعد مماته، وخدموه بالتعليقات والحواشي، وحصل به نفعٌ كبير.
..
لا تعتمد على غناك وقوتك وقدراتك ومواهبك وذكائك ووجاهتك ، فمن وُكل إلى نفسه خُذل ..!
اركن إلى مسبب الأسباب فالأمور كلها بيده، معقودة بقضائه وقدره وتصريفه، وحكمته وعدله..
وإن لم تستعن بالفتاح ستبقى الأبواب مغلقةً دونك ..!
فيارب…
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }.

القرب من الله جل وعلا مملكة الأُنس ومهوى القلوب ونعيم الدنيا ولذة الآخرة وكلما ازداد القلب لله حباً ازداد منه قربا..
"والقلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة وهي العلة الغائية ومن جهة الاستعانة والتوكل وهي العلة الفاعلية,فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا ينعم ولا يسر ولا يلتذ ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة. وهذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له، فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله ، فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة { إياك نعبد وإياك نستعين } ولو أعين على حصول كل ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده ولم يحصل له عبادة لله ، فلن يحصل إلا على الألم والحسرة والعذاب، ولن يخلص من آلام الدنيا ونكد عيشها إلا بإخلاص الحب لله بحيث يكون الله هو غاية مراده ونهاية مقصوده".
وأنت عندما تحمدالله في البوابة تذكر المصاب في هذه الليلة بالسرطان والموبوء بفيروس الكبد والمهدود بالكلى والمتعب من القلب..
تذكر الجرحى والمصابين وتخيل تلك الآهات التي يطلقها الجوعى والنازحين والمشردين والمنكوبين..
وأنت المنعم بين أطفالك تذكر طفلا يموت جوعا كل دقيقة على هذا الكوكب..
تذكر ثمانمائة ألف ماتوا هذه السنة انتحارا وما بهم الفقر إنما الاكتئاب..
تذكر ...وتذكر
وقل" الحمد لله رب العالمين"
قلها من قلبك ليطمئن..
كفاية أن تقولها فقط بلسانك وعلى مضض.
وإن ظُلمت على هذا الكوكب فتذكر " مالك يوم الدين" فهناك يجتمع الخصوم ويقتص للمظلوم..كل هذا *ليطمئن قلبك*.

هي الفاتحة سر الفتح وفتح السر فافتح الباب لباب الفتح..
كان لي صديق يداوم عليها صباح كل يوم ما فتح الله عليه فيكررها سبعا أو تسعا أو واحدا وعشرين مرة لما سألته عن سر تكرارها قال: لا أستطيع العيش بدونها ..مضت بنا الحياة وإذا به يعانق الجوزاء ويحصد المراكز الأولى في أرقى الجامعات العربية ولعلني أدركت جزءا من أسرار الفتح..
هي أساس ومنطلق النبوغ العلمي والإدراك الذهني والتوفيق الإلهي والفتح الرباني..
بدونها أنت لا شيء وليس من فراغ وجوب تكرارها سبعة عشر مرة كل يوم عند انتصابك على بوابة الملك..
تعلق بها كتعلق الطفل بثدي أمه..
وشد عليها كشد الغريق يده على الحبل..
انظر إليها متطلعا كنظرة السجين شعاع الشمس، وعش معها اليوم حيا كما لم تعش معها بالأمس..
هي أُسُّ العلوم ومفتاح الكنوز ودرة القلائد وبحار الفوائد.. حدثني مفسر أنه حاضر في مسجده ثمانية عشر محاضرة في تفسير الفاتحة ثم صرفته الحياة بمشاغلها فلما تقدم به العمر وطعن في الستين ندم أنه لم يكمل ما بدأ به وتحسر على ليالٍ كان يعيشها في ظل الفتح إذ تنهمر عليه الفتوح برعاية الفتاح
سقى اللهُ أرضاً لستُ أنسى عهودها
‏ويا طولَ شَوْقي نحوَها وَحَنيني
‏منازلُ كانتْ لي بهنّ منازلٌ
(‏وَالفتح كان مساندي وَقَريني)
الفاتحة فيها علوم الأولين والآخرين وقد ألف فيها الرازي مجلدا وذكر أن فيها عشرة آلاف مسألة..
وقد بلغ عدد المؤلفات في تفسير سورة الفاتحة قرابة المائتين وسبعة وعشرين كتابا وكلهم غرفوا من بحرها وما أنقصوا منه إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر..
الفاتحة بوابة للهداية فمن طلب بصدق" اهدنا" لن يعود صفر اليدين".
في البوابة تتذكر كم أناس مروا من على هذا الكوكب من المنعمين من رب العالمين ومن المغضوب عليهم والضالين..إنه تاريخ مختزل في سطر..وآية تشرح في قمطر..
لا تتردد كل الفتوح بين يديك فقم حالا إليها..
اجعل كل تنهيدة آية منها..
تلذذ بطعمها..
تذكر أن كل الخيرات ستنهمر عليك كالغيث فقط إن فتحت قلبك لها..
أتترك قلب يتمزق في كل واد ولا تلم شعثه بها..
أتتركه يستوحش ولا تؤنسه بها..
لن تتمالك نفسك من الفرح إن اطمئن قلبك بها..
أستودعك الله يا قلب💔
*عامر الخميسي*
...المزيد

معلومات

ماجستير في القواعد اللغوية وتأثيرها على الاجتهاد ويحضر الدكتوراه في الاجتهاد المقاصدي وأثره في النوازل المالية والمصرفية عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يحفظ القرآن بالقراءات السبع يحفظ المعلقات العشر له أكثر من عشرة مؤلفات يحفظ أكثر من عشرة آلاف بيت من الشعر خطيب ومحاضر وأديب

أكمل القراءة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً