مع حبيبي صلى الله عليه وسلم - حبُّ الصحابة له صلى الله عليه وسلّم
إن مشاهد محبة الصحابة وارتباطهم بالنبي صلى الله عليه وسلم لا تحصيها سطور ولا يحويها مقال.
- من هذا؟ وكأني أعرفه.. انظروا جيدًا!
أَوَ ليس هو ذاك الغلام الذي فقده بنو قضاعة منذ أعوام؟
هكذا صاح ذلك الحاج إلى البيت حين لمح ذلك الشاب اليافع..
- كأنه هو!
هكذا رد رفاقه..
نعم إنه هو ولد حارثة بن شراحيل..
إن أباه يكاد يهلك منذ فقده صغيرًا في تلك الرحلة التي اعتدى عليها النخاسون وأسروا ولده ومنذ ذلك الحين والوالد المسكين لا ينفك عن البحث عنه.
يا لبركات البيت الحرام..
هلِمُّوا إليه نُكلِّمه..
أسرع الرهط إلى الغلام وما أن رآهم حتى عرفهم..
- أإنك لأنت زيد؟
ويحك يا فتى!
أما تدري ما فعل أبوك وقد أتعبه فراقك وأنهكه بعدك طوال هذه السنين؟!
والله ما انفك ينشد منذ ارتحلت:
بكيت على زيد ولم أدر ما فعل *** أحي يرجى أم أتى دونه الأجل
فوالله ما أدري وإن كنت سائل *** أغالك سهل الأرض أم غالك الجبل
فيا ليت شعري هل لك الدهر رجعة *** فحسبي من الدنيا رجوعك لي بجل
- نعم هو أنا..
هوِّنوا على أنفسكم فإني والله بأحسن حال.
أحن إلى قومي وإن كنت نائي *** فإني قعيد البيت عند المشاعر
فكفوا من الوجد الذي قد شجاكم *** ولا تعملوا في الأرض نص الأباعر
فإني بحمد الله في خير أسرة *** كرام معد كابرًا بعد كابر
- أَوَ يعقل هذا يا زيد؟!
أو لَا تتلهف لإبلاغنا أبيك ليسارع إليك ويفتديك؟!
والله لنسارعن إليه بالخبر السعيد ولا نظنه إلا مسابقًا إليك وبنفيس المال مفتديك.
انطلق الركب بعد أن أتموا حجهم وهرعوا إلى صاحبهم مبشرين..
- ابني ورب الكعبة؟!
أَوَ حقًا ما تقولون؟!
أصدقًا ما تزعمون؟!
هل سأرى ولدي قبل أن أموت؟!
واشوقاه.. وافرحاه..
إليَّ بالمال وبالنفيس من الجواهر والهدايا..
لأفتدين زيدًا بالغالي والثمين..
تذكرنيه الشمس عند طلوعه *** وتعرض ذكراه إذا قارب الطفل
وإن هبت الأرواح هيجن ذكره *** فيا طول ما حزني عليه ويا وجل
سأعمل نص العيس في الأرض جاهد *** ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل
- يا بن عبد المطلب يا ابن هاشم!
يا ابن سيد قومه!
أنتم أهل حرم الله وجيرانه تفكون العاني وتطعمون الأسير جئناك في ابننا عندك وحَمَلْنا إليك من المال ما يفي به، فامْنُنْ علينا وفاده لنا بما تشاء وأحسن إلينا فدائه.
هكذا قال الوالد المشتاق لولده وإلى جواره أخوه عم الغلام..
- «ومن هو؟!»
سألهما الحبيب مستفهما..
- زيد بن حارثة..
زيد!
غلام خديجة بنت خويلد الذي أهداه إياها حكيم بن حزام ولد أختها والذي أهدته إلى الحبيب..
ذلك الغلام النجيب الذي ما فارق الحيبب منذ أهدته إليه زوجه وما عامله منذ أعتقه إلا كولده..
هل تحين مفارقته بعد تلك الأعوام ؟!
- «فهل لكما فيما هو خيرٌ من الفِداء؟»
- وما هو؟ سألا بدهشة مستريبة!
- «أدْعوه لكم فَخَيِّروهُ بيني وبينكم فإنْ اخْتاركم فَهُو لكم بِغَيْر فدية ولا مال وإن اخْتارني فما أنا بالذي يرغب عمن اخْتاره».
- والله قد أنْصَفْت وبالغتَ في الإنصاف..
بامتنان رد الرجلان..
- «يا زيد! أتعرف من هذان؟».
رد زيد: هذا أبي حارثة ابن شُرَحْبيل، وهذا عمِّي كَعْب..
فقال الحبيب: «يا زيد. فأنا من قد علمت ورأيت صحبتي لك، وقد خَيَّرْتك فإنْ شِئتَ مَضَيْتَ معهما، وإن شِئتَ أقَمْتَ معي».
هنا كانت المفاجأة..
حاسمة سريعة في حزمها مبهرة..
لقد أجاب زيدٌ في غير تَرَدُّدٍ ولا إبْطاء: بل أُقيمُ معك، ثم زاد زيد من نثر كلماته المدهشة: ما أنا بالذي أخْتار عليك أحدًا..
أنت مني مكان الأب والعم..
وأنعم به من أب وعمّ هو بأبي هو وأمي..
- وَيْحَكَ يا زيد، أَتخْتارُ العُبودِيَّة على أبيك وأمِّك؟
هكذا سأل الوالد المذهول!
لكن عن أي عبودية يتحدثون؟!
عبودية في جوار الحبيب؟!
أُسِرَ في صحبة من كان أول عهده به العتق والإكرام..
هنا أكمل زيد مفاجأته: "إني رأيْتُ من هذا الرجل شيئًا أنْساني كُلَّ إنْسان، ما أنا بالذي يُفارقُه أبدًا وما أنا بالذي أختار عليه أحدًا أبدًا"..
فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى ذلك الحب والحرص إلى أن خرج بزيدٍ إلى الحجر وصاح مُشهِدًا أهل مكة: «يا من حضر. اشهدوا أن زيدًا ابني يرثني وأرثه».
فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت نفوسهما فانصرفا وقد علما أن ذلك الرابط الوثيق والمحبة الخالصة لم تكن لتنفصم عراها قط..
ولا أي محبة نشأت وترعرت في قلب رأى رسول الله ونعم بقربه وحظي بصحبته..
لم يكن إيثار زيد لجوار الحبيب ضربًا من المحبة نادرًا أو خياليًا..
نعم هو حب رسول الله وهو من حمل اسمه حتى جاء الإسلام مُحرِّمًا التبني..
وهو الذي كان يقيه بنفسه أحجار السفهاء في رحلة الطائف..
ولكنه لم يكن وحده..
كل من عايشوا الحبيب ما كانوا يعدلوا بقربه شيئًا وما كانوا يؤثرون أحدًا عليه..
فهذا خُبيبٌ بن عدي رضي الله عنه يُقدَّم ليقتلَ ويصلب، فيقول له قاتلوه مِن مشركي قريش آنذاك: أيسُرُّك أنَّك في بيتك معافًى، وأن محمدًا مقامك، فيلقي إليهم رضي الله عنه بمفاجأته ومكنون مشاعره تجاه الحبيب: "لا والله، ما يسرني ذلك ولا أن يشاكَّ محمد صلَّى الله عليه وسلَّم بشوكة".
الأمر ليس هاهنا تفضيل موته على موت النبي وحسب ولكنه لله دره يفضل أن يلقى ما يلقاه على أن يؤذى النبي صلوات الله وسلامه عليه مجرد أذى..
ومن ذلك قصة زيد بن الدثنة، عندما ابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، فبعثه مع مولى له يقال له نسطاس إلى التنعيم، وأخرجه من الحرم ليقتله، واجتمع رهطًا من قريش، فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل: "أنشدك بالله يا زيد أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه، وإنك في أهلك؟"، قال: "والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي"، فقال أبو سفيان: "ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمدٍ محمدًا ثم قتله نسطاس".
ولمَّا كان يومُ أُحُدٍ حاص المسلمون حَيْصةً، فقالوا: قُتِل محمَّدٌ، حتَّى كثُرت الصَّوارِخُ ناحيةً من المدينةِ، فخرجت امرأةٌ من الأنصارِ متحزِّبةً فاستقبلتْ بأبيها وابنِها وأخيها وزوجِها.. أي جاءها خبر استشهادهم..
تأمَّل..
أقرب الناس إليها ذهبوا ولن تلقاهم بعد اليوم..
لا وهي لا تنفك بصدد كل خبر تسأل سؤالًا واحدًا: ما فعل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟
حتى قالوا: أمامَكِ..
فلما تأكدت أنه حي يرزق قالت: بأبي أنت وأمِّي يا رسولَ اللهِ!
لا أُبالي إذ سلِمْتَ من عطَب..
كل مصيبة بعدك جلل.. أي: صغيرة.
أي تفضيل هذا وأي رابطة وثيقة تلك..
رابطة تتجاوز الروابط البشرية المألوفة وتعلو على الصلات الاجتماعية المعتادة..
رابطة جعلت أبا طلحة رضي الله عنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: "يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، لا تشرف، لا يصبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك"..
تأمَّل المعنى الجليل..
عنقي دون عنقك وروحي فدا روحك ونفسي تزهق دفاعًا عنك عن طيب خاطر..
وهل كان تترس أبي دجانة رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، حتى صار ظهره كالقنفذ من السهام، وتقدم الكوكبة من الصحابة الكرام رضي الله عنهم في القتال دونه يوم أحد وذلك حينما حاصر المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، وخلال هذا الموقف العصيب سارع المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقاموا حوله سياجًا بأجسادهم وسلاحهم، وبالغوا في الدفاع عنه، حتى قُتِلوا جميعًا.. هل كان كل ذلك إلا شواهد واضحة لتلك الرابطة والحب غير العادي..
وبينما يقف عبد الرحمن بن عوف في الصف يوم بدر، إذ نظر عن يمينه وشماله، فإذا هو بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، فغمزه أحدهما فقال: "يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قال: نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟"..
قال: "أُخبِرْت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده، حتى يموت الأعجل منا، قال: ثم غمزه الآخر فقال مثلها".
غلامان يريدان مواجهة فرعون الأمة العتل الزنيم فقط لأنه اعتدى على حبيبهما..
اعتدى على رسول الله صلى الله عليه وسلم..
حتى لو أدى ذلك لقتلهما وهما غلامان يافعان لا يقاربا حجم ذلك العتل الزنيم..
لكنها المحبة..
وإذا ذكرت المحبة الخالصة والإيثار المطلق ذكر الصديق أبو بكر لا محالة..
فأكرم به ليلة الهجرة حين انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار، فكان يمشي بين يديه ساعة، ومن خلفه ساعة، فسأله عن ذلك فقال: "أذكر الطلب -ما يأتي من الخلف- فأمشي خلفك، وأذكر الرصد -المترصد في الطريق- فأمشي أمامك"، فقال صلى الله عليه وسلم: «لو كان شيء أحْبَبْتَ أن تُقتل دوني؟»، قال: أي والذي بعثك بالحق"..
فلما انتهيا إلى الغار قال: "مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار، فاستبرأه".
كيف لا وهو الذي لم يسمح من قبل أن يؤذى حبيبه وفي جسده عرق ينبض..
وهل ينسى أحد يوم أن قام النبي يصلي بصحن الكعبة فإذا بعقبة بن أبي معيط يتجه والشر يتطاير من عينيه صوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي؛ فأخذ أبو بكر يترقبه فإذا هو يخلع ثوبه ويضعه حول عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخنقه، فما أن رأى الصديق ذلك حتى انطلق كالسهم تجاه هذا الكافر، ثم أخذ بمنكبه ودفعه دفعة شديدة، ونجا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كيده، ثم أخذ يردد الآية الكريمة: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر من الآية:28].
لقد لقي الصديق في مقابل ذلك ضربًا كاد يودي بحياته لكنه أيضًا ما كان منشغلًا في خضم إعيائه وضرائه إلا بأمرٍ واحد..
ما فعل رسول الله؟
ما فعل حبيبي؟
هل نجا؟
هل هو بخير؟
هذا ما يعنيه وذاك ما يشغله..
وتلك هي الرابطة..
رابطة جعلته يوم الهجرة يقول كلمة ما جمع المحبون مثلها..
كلمة لخَّصت ذلك الرابط المذهل بين الصاحبين..
وذلك حين سقى الحبيب يوم الهجرة فقال واصفًا المشهد: فشرب رسول الله حتى رضيت..
شرب حتى رضي..
سقي حتى ارتوى..
ارتوى القلب بسقيا الحبيب فشبعت الجوارح بعد أن رضيت الروح..
تلك الروح التي ظلت مرتبطة بصاحبها حتى بعد أن فرقهما الموت ومرت الأيام وصعد الصديق على منبر خليله محدثًا عنه ومذكرًا بهديه فما أن نطق باسمه وتلفظ بوصفه حتى اختنق صوته بالبكاء..
بكاء شوق ومحبة..
بكاء كذلك الذي بكاه والرسول لم يمت بعد ولكن نعى نفسه فلم يلتقط الجمع طرف الحديث ولم يدركوا أن أجل النبي قد حان وأدركها الصديق ففهم.. وبكى..
أَوَ كذلك الذي بكاه معاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فخرج معه يوصيه ومعاذ راكب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته فلما فرغ قال: «يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري»..
فبكى معاذ جزعًا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم..
كانوا لا يتصورون فراقه حيًا فكيف يتصورونه ميتًا..
ها هو ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغيَّر لونه يعرف الحزن في وجهه، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما غيَّر لونك؟»، فقال: يا رسول الله، ما بي مرض ولا وجع، غير أنّي إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة فأخاف أني لا أراك، لأنك تُرفَع مع النبيين، وإني إن دخلت الجنة في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدًا، فنزلت هذه الآية {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]..
ولقد رفض ربيعة بن كعب الأسلمي عروض الزواج التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه مخيرًا إياه لا لشيء إلا ليبقى إلى جواره يخدمه حتى إذا أصر النبي قَبِلَ ربيعة مضطرًا..
وحين قال له رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «يا ربيعة، سلني»، فقال: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: «أَوَ غَيْر ذلك؟»، قال: هو ذاك، قال: «يا ربيعة، أعِنِّي على نفسِك بكثرة السجود»..
إنه يفكر في المستقبل ومصير ذلك الرباط بينهما..
إنه لا يريد أن يفارق الحبيب حتى في دار الخلد..
فما خير الحياة إن كانت بدونه..
هكذا قالها عمر واضحة صريحة وذلك حين حدثت بينه وبين الصديق أبي بكر مشادة فجاء عمر إلى رسول الله فجلس بقربه فأعرض النبي عليه الصلاة والسلام عنه، فذهب إلى الجانب الآخر, فأعرض النبي عليه الصلاة والسلام عنه، فجلس بين يديه فأعرض النبي عليه الصلاة والسلام عنه..
فقال سيدنا عمر: "يا رسول الله! ما أرى إعراضك إلا لشيء بلغك عني، فما خير حياتي وأنت معرض عني؟" أي خير أحصله في هذه الحياة إذا أعرضت عني؟
يا رسول الله!
والله ما أبالي ألا أعيش في الدنيا ساعةً وأنت معرض عني..
إن مشاهد محبة الصحابة وارتباطهم بالنبي صلى الله عليه وسلم لا تحصيها سطور ولا يحويها مقال، وما أردت إلا ذكر نماذج يسيرة منها لأسأل السؤال الأهم والذي تدور السلسلة القادمة حول إجابته إن يسر الله..
السؤال هو:
لماذا محمد؟!
لماذا كان هذا الارتباط وترسخت تلك الصلة وتغلغلت في النفوس تلك المشاعر تجاهه؟!
ما الشيء الذي رآه زيد وجعله يختار محمدًا على أبيه وأهله؟!
ما الذي جعل الصديق يفتديه بنفسه وخبيب لا يقبل أن يشاك حبيبه بشوكة وهو آمن في بيته؟!
ما الذي دفع المرأة أن تقدم السؤال عنه على سؤالها عن ولدها وأبيها وأخيها وزوجها؟!
ما الذي رآه هؤلاء وأولئك وغيرهم؟!
ما الذي جمعهم حوله بهذه الصورة البديعة والارتباط الراسخ؟!
يجيبك المولى جل وعلا ويبين لك السر الذي أدى لهذا الاجتماع المذهل والارتباط الوثيق..
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران من الآية:159].
تأمَّل مرةً أخرى..
أربع صفات أخلاقية سلوكية حوتهم هذه الآية..
صفتان منهما ليس النبي من أهلهما وصفتان بعث بهما..
لقد بعث بالرحمة وأرسل باللين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
ولقد تنزَّه عن الفظاظة والغلظة..
ولو اتصف بتلكما الصفتين الأخيرتين فبنص الآية المحكمة الواضحة - لانفض الناس من حوله..
لنقض هذا الاجتماع الوثيق..
لانهار ذلك الرباط القوي المتين..
ولتفرَّق الناس وانفضوا من حوله..
لقد عاشوا معه ورأوا من صفاته وسلوكه ومكارم أخلاق بعث ليتممها ما غرس محبته في قلوبهم ومكَّن لتوقيره في نفوسهم..
إنها حياة كاملة معه..
مع حبيبي صلى الله عليه وسلم..
من هنا نبدأ..
ومن هنا نتعلم..
ومن هنا نقتدي ونتأسى ونمتثل..
لن يكون عرضًا تقليديا للسيرة بترتيبها ولكنه سيكون عرضًا سلوكيًا وأخلاقيًا وعمليًا لها..
سنبذل وسعنا لنحيا مع مودته ولنذوب في حنانه وننبهر بشجاعته وقوته في الحق ولنتعلم من حكمته ونتأسى بصبره ونقتدي بزهده ونتمثل صدقه ووفاءه ونستحيي لحيائه ونعتز بعِزَّته..
سنغضب معه لله ونغار على حرماته وسنعفو معه ونترك حظ النفس ونتعلم من تواضعه ونرتقي بعلو همته..
سنرجو مع رجائه ونستبشر ببشره وبشرياته ونبكي لبكائه وخشيته ونستلهم العبر من دعوته وجهاده جنبًا إلى جنب مع نصحه الخالص وحسن دعوته..
باختصار سنحاول إن شاء الله أن نحيا..
أن نحيا معه..
مع حبيبي صلى الله عليه وسلم..