ولاية المُـتغلب - ولاية المتغلب (11): ومِن التشبُّه بالكفار!

منذ 2015-03-12

كتبت هذا البحث -بما فيه هذا المقال- بعد الانقلاب مباشرة، أردتُ أن أرد لبعض الناس عقولهم وأحاكمهم إلى حجورهم، وحينها كان السيسي يدَّعي أنه استجاب لثورة الشعب، وأنه لا يريد الكرسي ولا الرئاسة، بينما كان (أصحابنا) يُلَوِّحون له بأنه الحاكم المتغلب الذي تجب طاعته.. فهم قد بيَّتوا طاعته حتى قبل أن (يتبنَّى) الحكم صراحة.. وليعلم أمثال هؤلاء أن التشبُّه بالكفار في تسريحة الشعر ليس أخطر من التشبه بهم في العقيدة والخُلُق والسلوك!

أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ؟!

قال الله تعالى {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ، إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ}[القلم:35- 38]. فيــا قوم! ما لكم؟.. كيف تحكمون؟! مــا لكم تَنَاقَضون؟!

يعتقد ثم يستدل

لا ينقضي عجبي لإسلاميين صاروا كالصوفية المخرفين الذين يعتقدون ثم يستدلون... وكالنصارى في قولهم في العقيدة بأن الثلاثة واحد (3=1)!! رغم إنها في الحساب الرياضي عندهم لا تساويها؟! ورغم إن هؤلاء الإسلاميين يتعلقون بشرفِ ثُريَّا الانتساب؛ السلف الصالح  رحمهم الله ورضي عنهم وحشرنا معهم .

لقد انهدم دين أوروبا لمَّا كان (رجال الدين) يُبَرِّرُون طغيانَ الملوك، وقام التحالف المشبوه بين القساوسة والملوك.. فكفرت أوروبا بالقساوسة والملوك جميعًا، وقالوا: اشنقوا آخِرَ ملك بأمعاء آخِرِ قِسّيس.. فمتى تقول الجماهير: اشنقوا آخر ملك ووليِ أَمْرٍ لا يحكم بما أنزل الله؛ بأمعاء آخر مفتٍ وخطيب يدور في ركابهم.. يشوه الإسلام ويحاربه باسمه.. ويحامي عن الطغيان لقاء رضاء أو دراهم، هي معدودة مهما كانت ممدودة؟! : {وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا}[الأحزاب:16]

وكما يقول توماس جفرسن: "إن القسيس في كل بلد وفي كل عصر من أعداء الحرية، وهو دائماً حليف الحاكم المستبد؛ يُعينه على سيئاته في نظير حمايته لسيئاته هو الآخر" [انظر: كرين برنتن، أفكار ورجال، قصة الفكر الغربي، 502]، لذلكم قلت في مطلع البحث: (... تفويض قـِسّ الأزهر وشيخ الكنيسة...) ولأن رجل الأزهر صار قِسًّا في تطويع الأمة لقيصر، والدفاع عن ملك قيصر، وكأنه ليس في دين الإسلام شريعة تُطبَّق كما في النصرانية المحرفة... بينما صار رجل الكنيسة إمامًا يفتي في مسائل الحلال والحرام، ويبين ما يجوز وما لا يجوز في شريعة الإسلام، ويبين ما هو من الإسلام وما ليس من الإسلام، بل يفتي حتى في عزل أئمة المسلمين، وكأنما هو من أهل الحل والعقد!!!

قـِسّ الأزهر وشيخ الكنيسة

فبعض علماء الفتنة ودعاة التدجيل والتدجين تشبَّه بالقساوسة فأنزل نصوصَ طاعةِ وُلاَّةِ الأمر الذين يحكمون بشريعة الله، ويعدلون في حكمهم، على الذين يتركونها ويستبدلونها بقوانين وضعية مخالفة لشريعة الله –سبحانه  قلباً وقالباً؛ فأجلبوا بخيلهم ورَجْلِهم وطفقوا يبحثون في التاريخ ليحرفوه، وفي النصوص ليلْوُوا أعناقها، أو يبتروها لتوافق ما ذهبوا إليه. فويلٌ للمصلين، لكن هذه المرة لمصلين لم تنههم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر، وهم يراءون الحكام.

 فهم تكريسًا لطاعة الحكام يأتون بحديث طاعة الحبشي: «اسمعوا وأطيعوا وإن أُمِّر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة» (البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الأذان (10)، باب إمامة العبد والمولى (54)، حديث (693)، 1، 230.)، ولا يذكرون حديث العبد الآخر: «إن أُمِّر عليكم عبدٌ مجدَّع   حسبتها قالت أسود  يقودكم بكتاب الله تعالى فاسمعوا له وأطيعوا» (مسلم، صحيح مسلم، كتاب الإمارة (33)، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (8)، حديث (1838)، 2، 892.).

والفرْقُ أن النص الثاني يشترط في الطاعة أن يكون الحكم بما أنزل الله، والقيادة بكتاب الله، بينما النص الأول يعفيهم من ذلك كله، وبذلك هم وقعوا فيما وقعت فيه الكنيسة، من الحكم باسم الدين لا بالدين نفسه! وطوَّعوا المظلومين للظلمة باسم الدين، وحققوا مقولة: "الدين أفيون الشعوب"! وقد صدق من نطق بها فيما يتعلق بذلك الدين المحَرَّف في أوروبا، لأنه يخدر الشعوب، وصدق فيما يتعلق بالأفهام المغلوطة والمنحرفة للدين الإسلامي الصحيح المحفوظ، التي صدرت وتَصْدُر من علماء بلاط أو مصالح شخصية وضيقة مِن أناس ابتاعوا دينهم بدنيا غيرهم، واشتروا بآيات الله ثمنا قليلاً، لأنها أفهام منحرفة خدّرت الشعوب أيضاً، وعبَّدتها للملوك باسمها، وهي تظنها الدين!.

يتشبهون بيهود

بل هؤلاء يتشبهون ببني إسرائيل لما أخفَوا حكم الزنا في كتابهم، حيث وضع أحدُهم يده على الكلمة وقرأ ما قبلها وما بعدها، فعن عبد الله بن عمر : أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «"ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟» فقالوا: نفضحهم ويُجْلَدون. قال عبد الله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم. فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك. فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فقالوا صدق يا محمد، فيها آية الرجم! «فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما فرأيت الرجل يَحْني على المرأة يقيها الحجارة» (متفق عليه). ألا يكون متشبها بهم من يضع يده على جملة من آية قرآنية، أو من حديث نبوي فيجحدها عن الناس، مثل «يقودكم بكتاب الله»، وفيها فصل الخطاب؟!

ما الهدف الذي من أجله يترك (بعض علماء) عبارات: «يقودكم بكتاب الله» و«ما أقاموا الدين» ولا يذكرونها للناس في دروسهم وخطبهم ومؤلفاتهم.. ويتركون ما يفيد تحميم الحق بالشبهات، والدس والتدليس فما لا يُدرى ما هو؟! وما لهم يحنون على أوليائهم من الطغاة يحمونهم بالفتاوى كما يحنو ذلكم الزاني على مزنيته؟!

فإن كانوا لا يدرون فتلك مصيبة      * * *   وإن كانوا يدرون فالمصيبة أعظم

فهل ترون أن أي حاكم في بلاد المسلمين بالانقلاب أو تزوير الانتخاب يقودوننا بكتاب الله ويقيمون فينا الدين حتى تكون لهم ولاية أصلا بالاختيار والرضى فضلا عن التغلب واللظى؟!

هل ترونه تولى أو تغلب بعد فراغ المنصب من إمام، فملأه بغلبة، أو أنه انقلب على منقلب قبله، فلو أنه كان انقلب السيسي على حسني مبارك قبله، لربما كان للسكوت عنه وجه! أولا: لأن حسني المخلوع لم يكن حاكما شرعيًّا أصلا، لأنه منقلب ولأنه لا يحكم بما أنزل الله. وثانيا: لأنهما صنوان، وكما يقال في المثل عندنا: الذي تختاره من جِرى الكلبة جرو، أو وما أفضلُ بَعْرِ البعير إلاَّ بعرة!.. فلا تجد خير الجِرى أسدًا، ولا أفضل بعرة تكون نَواة ذهب!

ومِن ذا وهذا وذاك وذلك.. يتبين أن الحاكم ليس له بيعة ولا طاعة لا في معروف ولا في معصية حتى يكون منطلقه تطبيق الشريعة ومبتغاه تحكيمها وسلوكه اتِّباعها، إضافة إلى الشروط التي ذكرناها.. وإلا فلا سمع ولا طاعة.. بل الطاعة ركون وولاء للظلمة، ومن وراءها مسيس النار، والله تعالى يقول: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}[هود، 113] ويقول: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}[الفرقان،52].

ومن هنا أيضًا يجب البيان بأن ما يحدث في مصر ولا في غير مصر من تحكم طواغيت في الأمة بالحديد والنار وينفذون فيهم قوانين الجنكزخان ليس له علاقة بما يسمى الحاكم المتغلب، فضلا عن ولي الأمر المطاع.. بل حكمهم في الشرع أنه إذا بويع لخليفة وقد حدث لمحمد مرسي بأكثرية الشعب، وجاء الانقلابيون ببيعتهم لأنفسهم ومن صنعوهم من حفنة التمرد.. فحتى لو كان السيسي خليفة ثانٍ ببيعة التمرد القلة لوجب معاملة بمقتضى النص؛ لأجل بيعة الأول.. فما بالك بأنه في حقيقته خليفة الغرب في بلاد المسلمين؟!

إنهم مسرفون

لا يشك أحد في أن هؤلاء الحكام مسرفون، وأنهم يفسدون ولا يصلحون، فقد أفسدوا دين الناس وأخلاقهم  ومعاشاتهم، ولم يصلحوا في شيء منها، وهؤلاء لا ينبغي أن يدان لهم بطاعة، لأن ذلك ينافي التقوى ويناقض طاعة الله، كما قال نبي الله صالح صلى الله عليه وسلم: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [الشعراء:150-152].

واجب المصريين

ومقتضاه أن يقوم المصريون جميعًا، فضلا عمن يُسَمَّون بالأحزاب الإسلامية.. فضلا عن الأحزاب (السلفية!!) فضلا عن (ولي أمر المسلمين) في بلد (يزعم أمراؤها) أنها هي راعية أهل السنة في العالم! عليهم جميعا أن يتناصروا ضد السيسي الخارج عن الدستور.. الناقض لعهده.. الناكث لأيمانه الغادر برئيسه.. وأن يُعتبر خارجا عن الدستور.. والشريعة والشرعية .. وخارجا على الأمة وعلى ولي أمرها الشرعي، حاملا عليها السلاح.. لا أن يُعتبر حاكما متغلبا تجب طاعته كما يفتي به الدراويش من علماء السلطة في أيَّ قُطر.. الذين طالما صدَّعوا رؤوس الأمة وفَتُّوا عضد الشباب وشرعنوا حرب الطواغيت لدعاة الشريعة بفتاوى طاعة ولي الأمر.. ورمَوْا دعاة الإسلام بالخارجية!

ولا أقول بأن السيسي وأشياعه من الخوارج الذين خرجوا على ولي الأمر المسلم، كلا ! بل هو شر وأقبح وأظلم وأبعد عن الإسلام من الخوارج.. فالخوارج لا بارك الله فيهم ولا أقام لهم دولة ولا رفع لهم راية ولا جمع لهم جماعة ينصرون الإسلام بطريقة بدعية ضالة خاطئة مرفوضة.. فهم ضلوا من حيث أرادوا الهدى.. أما هؤلاء، ومنهم السيسي  فهم يحاربون الإسلام والمسلمين نيابة عن اليهود والنصارى.. فهم وإن لم يُطعن في دينهم بكونهم يحكمون بغير ما أنزل الله.. فإنه يُطعن فيه بولائهم لليهود والنصارى وحربهم للإسلام وأهله... والله أعلم.

وفي المقالات السابقة من هذه السلسلة قد شرحتُ ماهية حكم المتغلب، وذكرت شرائطها، وأظهرت أدلَّتها ما استطعت إلى ذلك سبيلاً ، ونقلتُ كلام العلماء من مختلف المذاهب شارحة ومبيِّنة، ومشترِطة.. 

اللهم هل بلَّغت... اللهم فاشهد

ويمكن مراجعة المقالات السابقة من هذه السلسلة: 

                                                 ولاية المتغلب (1) من هو المتغلب؟ وما ولايته؟

                                                ولاية المتغلب (2): من هو الحاكم المطاع؟

                                             ولاية المتغلب (3): الدليل الثاني: يقودكم بكتاب الله ويقيم فيكم الدين

                                             ولاية المتغلب (4) استتبابُ الأمن وسكونُ الدهماء

                                              ولاية المتغلب (5): الخليفة الثاني والطالب الحريص

                                              ولاية المتغلب(6): المتغلب على حي والمتغلب في فراغ

                                              ولاية المتغلب (7): حملوا السلاح علينا. فليسوا مِنَّا

                                                ولاية المتغلب (8): شرط الإسلام في الولاية

                                ولاية المتغلب (9): ملخص شروط وموانع الصبر على المتغلب

تاريخ النشر: 21 جمادى الأولى 1436 (12‏/3‏/2015)

أبو محمد بن عبد الله

باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.

  • 0
  • 2
  • 16,186
المقال السابق
ولاية المتغلب (9): ملخص شروط وموانع طاعة المتغلب
المقال التالي
ولاية المتغلب (10): على هامش ولاية المتغلب

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً