خطوات في التربية - (37) العلم قبل الطريق (6)

منذ 2015-07-04

فمن التزم شريعة الله فلا يلتزمها مع زهادة فيها، بل يعلم أنها طوق نجاته ومحل رضا الرب تعالى وبيان محبوباته فمن أحبه تبعها

التحذير من الخروج عن شريعة الله بدعوى الحقيقة

مما يُحذر كذلك ما يعتقده بعض الضُلّال من جواز التحلل من شريعة الله تعالى والخروج عنها، والظن أن الشريعة تلزم عموم الناس أما خواصهم وأهل الولاية منهم فيسوغ لهم الخروج عنها.

وهذا اعتقاد ضال مكفر، فإن شريعة الله تعالى لازمة للخلق كهم، خواصهم وعوامهم، ولظاهر العبد وباطنه، لأفعاله الظاهرة ولاعتقادات القلوب ومقامات العبودية، منفردًا مع نفسه أو فيما اجتمع فيه مع الخلق.

وما يحتج به هؤلاء الضُلّال من مخالفة الخضر لشريعة موسى فإن موسى مرسل لبني اسرائيل، وكان جائزًا تعدد الأنبياء وشرائعهم وتعاصُرهم في وقت واحد، أما بعد محمد صلى الله عليه وسلم فلا يجوز الخروج عن شرعه إذ أنه أرسل للجن والإنس كافة، ونسخ الله تعالى به سائر الشرائع قبله.

يقول الشاطبي رحمه الله: "المسألة الثانية عشرة: أن الشريعة كما أنها عامة في جميع المكلفين وجارية على مختلفات أحوالهم، فهي عامة أيضًا بالنسبة إلى عالم الغيب وعالم الشهادة من جهة كل مكلَف فإليها نرد كل ما جاءنا من جهة الباطن كما نرد إليها كل ما في الظاهر، والدليل على ذلك أشياء:

منها ما تقدم، من ترك اعتبار الخوارق إلا مع موافقة ظاهر الشريعة.

والثاني أن الشريعة حاكمة لا محكوم عليها، فلو كان ما يقع من الخوارق والأمور الغيبية حاكمًا عليها بتخصيص عموم أو تقييد إطلاق أو تأويل ظاهر أو ما أشبه ذلك لكان غيرها حاكمًا عليهما وصارت هي محكومًا عليها بغيرها، وذلك باطل باتفاق فكذلك ما يلزم عنه .

والثالث أن مخالفة الخوارق للشريعة دليل على بطلانها في نفسها.

وذلك أنها قد تكون في ظواهرها كالكرامات وليست كذلك بل أعمالًا من أعمال الشيطان، كما حكى عياض عن الفقيه أبي ميسرة المالكي أنه كان ليلة بمحرابه يصلي ويدعو ويتضرع، وقد وجد رقة فإذا المحراب قد انشق وخرج منه نور عظيم، ثم بدا له وجه كالقمر وقال له تملأ من وجهي يا أبا ميسرة فأنا ربك الأعلى، فبصق فيه، وقال له: "اذهب يا لعين عليك لعنة الله".

وكما يحكى عن عبد القادر الكيلاني أنه عطش عطشًا شديدًا فإذا سحابة قد أقبلت وأمطرت عليه شبه الرذاذ حتى شرب ثم نودي من سحابة يا فلان أنا ربك وقد أحللت لك المحرمات، فقال له: "اذهب يا لعين"، فاضمحلت السحابة، وقيل له: "بم عرفت أنه إبليس؟" قال: "بقوله: قد أحللت لك المحرمات"، هذا وأشباهه لو لم يكن الشرع حكمًا فيها لما عرف أنها شيطانية (1).

وقد نزعَت إلى هذا المنزع في ابتداء الوحي إلى رسول الله خديجة بنت خويلد زوجه رضي الله عنها فإنها قالت له: "أي ابن عم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟" قال: «نعم»، قالت: "فإذا جاءك فأخبرني به"، فلما جاء أخبرها، فقالت: "قم يا ابن عم فاجلس على فخدي اليسرى"، فجلس ثم قالت: هل تراه؟ قال: «نعم»، ثم حولته إلى فخدها اليمنى ثم إلى حجرها وفى كل ذلك تقول: "هل تراه؟" فيقول: «نعم»، قال الرواي: فتحسرت وألقت خمارها والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها، ثم قالت: "هل تراه؟" قال: «لا»، وفى رواية أنها أدخلته بينها وبين درعها فذهب عند ذلك، فقالت: "يا ابن عم اثبت وأبشر فوالله إنه لملك ما هذا بشيطان".

ويقول: "ومن هنا يعلم أن كل خارقة حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة فلا يصح ردها ولا قبولها إلا بعد عرضها على أحكام الشريعة؛ فإن ساغت هناك فهي صحيحة مقبولة في موضعها وإلا لم تقبل إلا الخوارق الصادرة على أيدي الأنبياء عليهم السلام، فإنه لا نظر فيها لأحد لأنها واقعة على الصحة قطعًا فلا يمكن فيها غير ذلك، ولأجل هذا حكم إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده بمقتضى رؤياه وقال له ابنه: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:102]، وإنما النظر فيما انخرق من العادات على يد غير المعصوم(2)"(3). انتهى كلام الإمام الشاطبي.

كما استدل الضُلال على اعتقادهم الفاسد بقوله تعالى {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، وظنوا اليقين هو استيقان العبد بالغيب وهو لم يزل حيًا، فجعلوا اليقين مبررًا لترك الشرع، بينما جعل تعالى علامة اليقين هو الجهاد وأخذ الدين بصدق {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون} [الحجرات:15].

وفسر النبي صلى الله عليه وسلم اليقين بالموت فقال عندما مات عثمان بن مظعون: "أما عثمان فقد جاءه اليقين من ربه"، فعُلم أن معنى الآية -بتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم- واعبد ربك حتى الممات.

فليس دون لقاء الله تعالى لحظة يجوز للعبد فيها ترك ما شرع الله تعالى ما دام مكلَفًا عاقلًا.

فمن التزم شريعة الله فلا يلتزمها مع زهادة فيها، بل يعلم أنها طوق نجاته ومحل رضا الرب تعالى وبيان محبوباته فمن أحبه تبعها {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران:31]، ثم قال فيمن سوّغ الخروج عن شريعته ولو تمسكًا بشريعة منسوخة {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32]، فعُلم أن التولي عن شريعته سواء خروجًا إلى شريعة منسوخة أو إلى شريعة مبدلة هو كفر برب العالمين وبما أنزل.

عافانا الله وإياكم.

يتبع إن شاء الله تعالى.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

مدحت القصراوي

كاتب إسلامي

  • 0
  • 0
  • 877
المقال السابق
(36) العلم قبل الطريق (5)
المقال التالي
(38) العلم قبل الطريق (7)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً