صيود الأوراد (غنائم الأوراد) - صيد الأوراد (6): قصص الأمم الضالة
لأجل ذلك كان اليهود أحق باسم الغضب، والنصارى أحق باسم الضلال، وأما هذه الأمة فمن تشبَّه بأمة أخذ حُكمها، فمن علم فترك العمل بالعلم فقد حق عليه الغضب، كما قال تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}[الصف:3]، والمقت الغضب، ومن ترك العلم وضرب في التِّيه فقد حق عليه الضلال.
نواصل مع الفاتحة صيودَنا، وها نحن نجد في أم القرآن فرعًا آخر، ألا وهو الإشارة إلى قصص الأمم الغابرة والضالة، من المغضوب عليهم والضالين، أما المَرضيون المهتدون من تلك الأمم فقد ذكرهم ضمن الذين أنعم الله عليهم مِن النبيين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين؛ فالصالحون مِن جميع الأمم بلا فرق مِن المنعم عليهم، وليس خاصًّا بأمة واحدة، بدليل ذكر أنبياء تلك الأمم كلها؛ فكذلك أتباعهم. أما الطَّالحون من الأمم كلِّها فمن الضالين المغضوب عليهم.
فبعد أن ذكرت الفاتحة أهل الصلاح وأتباع الهدى في قوله تعالى:{صراط الذين أنعمتَ عليهم}، فها هي تذكر أهل الضلال وأتباع الهوى في قوله تعالى: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين}.
واتفق المفسرون على أن المغضوب عليهم هم اليهود، والضالون النصارى، وقد ورد فيه حديث عن النبي صلى الله عيه سلم أنه قال: «المغضوب عليهم: اليهود، والنصارى هم الضالون»[رواه الترمذي وحسنه ابن حجر وغيره]؛ لأن اليهود علموا الحق ولم يعملوا به، فاشتد مَقْتُ الله وغضبه عليهم، فهم الموصوفون بترك العمل بالحق كما قال الله عنهم: {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }[الجاثية:17]، وغيرها كثير، لأجل ذلك ورد الغضب في حقهم مرارًا في القرآن فبعد قصصهم ورد: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}[البقرة: 61، وآل عمران:112]، وفيهم: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ}[البقرة:90].
أما الضَّالون فهم النصارى؛ لأنهم عبدوا الله على جهل وضلال، وهم الذين ابتدعوا دينًا مِن عندهم: {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها}[الحديد:27]، لم يفرضها اللهُ عليهم، ولكن أحدثوها في الدين ليبتغوا بها وجهَ الله، ولم يرعَوْا ما جاءهم به الأنبياء ولا ما فرضوا على أنفسهم، فضلُّوا وأضلُّوا. {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}[المائدة:77].
لأجل ذلك كان اليهود أحق باسم الغضب، والنصارى أحق باسم الضلال، وأما هذه الأمة فمن تشبَّه بأمة أخذ حُكمها، فمن علم فترك العمل بالعلم فقد حق عليه الغضب، كما قال تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}[الصف:3]، والمقت الغضب، ومن ترك العلم وضرب في التِّيه فقد حق عليه الضلال.
والواقع أن كلًّا من الفريقين ضالٌّ ومغضوب عليه.
قال سفيان بن عيينة رحمه الله: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، وكل من فسد من عبّادنا ففيه شبه من النصارى.
فبعد أن رغَّبنا اللهُ سبحانه في صراط الذين أنعم عليهم، ورغَّبنا في صفاتهم الحميدة وفِعالهم المرضية؛ فهنا- في أول العلم وفاتحته- تحذيرٌ من الله تعالى وتنفيرٌ مِن سلوكات هؤلاء الأقوام؛ خصوم الذين أنعم الله عليهم؛ أنْ يا أيها الذين آمنوا: تعلَّموا العلم الوارد في هذا الكتاب، ولا تكونوا من الضالين الذين يعبدون الله على جهل كالنصارى، وأنِ اعْمَلوا بما تعلَّمتموه مِن علم في هذا الكتاب أوَّلًا بأول، ولا تكونوا من المغضوب عليهم؛ كاليهود الذين يعلمون الحقَّ ولا يعملون به.
بعض المسلمين يَنْفُر ويُنفِّر من التشبه باليهود والنصارى بوضع الساعة في اليسار، لكنه يتشبَّه بهم في ترك الحق الأبلج، وفي الاختلاف في الدين، وفي تقديس الأشخاص والغلوِّ فيهم والتعصب لهم كالأحبار والرهبان؛ وما فيهم عُشر مِعشار صلاح عيسى ولا حوارييه!
هل انحصر الضَّلال والضُّلَّال؟!
وأخيرًا نجد الدعاء يتضمن تحذيرًا مِن اليهود والنصارى، بأبرز صفتيهم: الغضب والضلال، فهل ينحصر الشرّ في هاتين الأمتين، أو ينحصر في هاتين الصفتين: الغضب والضلال؟!
الحقيقة أن هذه الجملة: {غير المغضوب عليهم ولا الضَّالين} جملة قرآنية معجزة؛ فإن ما ينافي صراط الله المستقيم المشتمل على العلم النافع والعمل الصالح، ما ينافيه هو ترك أحد هذين؛ إما العلم النافع وإما العمل الصالح، وهما تلكما الصفتين: صفة المغضوب عليهم الذين تركوا العمل بالعلم، وصفة الضالين الذين تركوا تعلم العلم؛ فعملوا على جهل، فاشتمل هذا على ضلال بني آدم كلِّه، فسبحان الله العظيم العليم الحكيم.
فإذا أردنا أن نكون أمة أنعم الله عليها، فعلينا بصراط الذين أنعم الله عليهم، وعلينا باجتناب سُبل المغضوب عليهم والضالين، غير أن الواقع-إلا من رحم ربك- قد اتبعنا سنن الذي غضب الله عليهم والضالين، فاللهم اهدنا صراطك المستقيم.
10/ 09/ 2015
يُتبع إن شاء الله تعالى
وقد سبقه
والله أعلم
أبو محمد بن عبد الله
باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.
- التصنيف:
- المصدر: