عمل القلب - الفريضة الغائبة - [25] نبذة في أسباب صلاح القلب - الجزء الثاني

منذ 2015-11-11

وأما مفسدات القلب فقد ذكر ابن القيم أنها خمسة: كثرة الخلطة، والتمني، والتعلق بغير الله من مال أو جاه أو صورة، والشبع المفرط، وكثرة النوم، ويزيد بعضهم فضول النظر، وفضول الكلام.

(4) طلب العلم الشرعي، وحضور مجالس العلماء وحلقهم، فإن العبد كلما ازداد علمًا ازداد خشية لله وتعظيمًا له: { إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وتأمل المقابلة بين أصحاب القلوب المريضة والقاسية، والذين أوتوا العلم المخبتين في قول ربنا تبارك وتعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ . وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج:53-54].

يقول ابن القيم: "وأما العلماء بالله وأمره فهم حياة الوجود وروحه، لا يستغنى عنهم طرفة عين، فالعلم للقلب مثل الماء للسمك، إذا فقده مات. فنسبة العلم إلى القلب كنسبة ضوء العين إليها، وكنسبة سمع الأذن وكنسبة كلام اللسان إليه، فإذا عدمه كان كالعين العمياء، والأذن الصماء، واللسان الأخرس؛ ولهذا يصف الله أهل الجهل بالعمي والصم والبكم، وذلك صفة قلوبهم حيث فقدت العلم النافع فبقيت على عماها وصممها وبكمها {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء:72] والمراد عمى القلب في الدنيا" (مفتاح دار السعادة).

وطالب العلم متى خلصت نيته، كان ذلك طريقه إلى الربانية {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79]، يقول ابن تيمية: "كثير من طلبة العلم ليس مقصودهم به إلا تحصيل رئاسة أو مال، ولكل امرئ ما نوى، وأما أهل العلم والدين الذين هم أهله، فهو مقصود عندهم لمفنعته لهم وحاجتهم إليه في الدنيا والآخرة، ولهذا تجد أهل الانتفاع به يزكون به نفوسهم، ويقصدون فيه اتباع الحق لا اتباع الهوى، ويسلكون فيه سبيل أهل العدل والإنصاف، ويحبونه، ويتلذذون به، ويحبون كثرته وكثرة أهله، وتنبعث هممهم على العمل به، وبموجبه ومقتضاه" (منهاج السنة النبوية).

ومن صفة العالم فيما بينه وبين الله عز وجل: أن يكون لله شاكرًا وله ذاكرًا، دائم الذكر بحلاوة حب المذكور، منعم قلبه بمناجاة الرحمن، يعد نفسه مع شدة اجتهاده خاطئًا مذنبًا، ومع الدؤوب على حسن العمل مقصرًا، لجأ إلى الله عز وجل فقوي ظهره، ووثق بالله فلم يخف غيره، مستغن بالله عن كل شيء، ومفتقر إلى الله في كل شيء، أنسه بالله وحده، ووحشته ممن يشغله عن ربه، إن ازداد علمًا خاف توكيد الحجة، مشفق على ما مضى من صالح عمله أن لا يقبل منه، همه في تلاوة كلام الله، الفهم عن مولاه، وفي سنن الرسول صلى الله عليه وسلم الفقه؛ لئلا يضيع ما أمر به، متأدب بالقرآن والسنة، لا ينافس أهل الدنيا في عزها، ولا يجزع من ذلها، يمشي على الأرض هونًا بالسكينة والوقار، ومشتغل قلبه بالفهم والاعتبار، إن فرغ قلبه عن ذكر الله فمصيبة عنده عظيمة، وإن أطاع الله عز وجل بغير حضور فهم فخسران عنده مبين، قال الله عز وجل: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا . وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا . وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:107-109] (كتاب أخلاق العلماء للآجري).

وليحذر طالب صلاح قلبه من الوقيعة في العلماء واستنقاصهم، وتتبع عوراتهم، فإن هذا باب هلكة، وسبيل ضلال، وقد قيل: إن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أعراض منتقصيهم معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب.

ومن أراد الانتفاع بمجالس أهل العلم ومواعظهم، فلا يشتغل بعيوبهم، فيحرم نفسه خيرهم، فإنه: إنما ينتفع بالعظة بعد حصول ثلاثة أشياء: شدة الافتقار إليها، والعمى عن عيب الواعظ، فإنه إذا اشتغل به حرم الانتفاع بموعظته، وتذكر الوعد والوعيد (انظر: للأشياء الثلاثة تهذيب مدارج السالكين).

(5) مطالعة القلب لأسماء الله جل وعلا وصفاته، ومعرفتها، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته، فلابد أن يحبه ويخشاه ويرجوه ويتوكل عليه وينيب إليه ويخلص دينه له، قال تعالى: {وَلِلهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180]، ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة» (صحيح البخاري[2736])، وإحصاؤها يكون بمعرفة ألفاظها ومعانيها والتعبد لله بمقتضاها، فمطالعة أسماء الجمال تورث العبد المحبة والشوق، ومطالعة أسماء الجلال تورثه الخشية والإخبات لربه.

ومن أعمال القلوب التوكل والإحسان والمراقبة فتأمل قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ . الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ . وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ . إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء:217-220]، يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: "والتوكل هو اعتماد القلب على الله تعالى في جلب المنافع ودفع المضار، مع ثقته به وحسن ظنه بحصول مطلوبه، فإنه عزيز رحيم، بعزته يقدر على إيصال الخير ودفع الشر عن عبده وبرحمته يفعل ذلك، ثم نبهه على الاستعانة باستحضار قرب الله والنزول في منزل الإحسان، فقال: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} أي: يراك في هذه العبادة العظيمة التي هي الصلاة وقت قيامك وتقلبك راكعًا وساجدًا. وخصها بالذكر لفضلها وشرفها، ولأن من استحضر فيها قرب ربه خشع وذلك وأكملها، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فاستحضار العبد رؤية الله له في جميع أحواله وسمعه لكل ما ينطق به وعلمه بما ينطوي عليه قلبه من الهم والعزم والنيات مما يعينه على منزلة الإحسان" (تيسير الكريم الرحمن).

ومن مغزى اقتران هذين الاسمين: {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أن من تفكر فيهما أوجب له ذلك حسن التوكل على الله؛ إذ الاعتماد لا يصلح إلا على قوي قادر لا يغلب، ومع ذلك رحيم بعباده، هو حسب من توكل عليه.

(6) مطالعة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه صلى الله عليه وسلم الأسوة: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، والعيش مع السيرة النبوية ومواقفها العظيمة، لا سيما المواقف التي نزل فيها قرآن يتلى، مع تدبر الآيات له أثر عظيم في إحياء القلب وتقوية الإيمان، وقصص الأنبياء عمومًا فيها عبرة لأصحاب البصائر، ولذا قص الله في القرآن مواقف إيمانية لعدد من أنبيائه وقال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111].

وخير من ينتفع بسيرته بعد الانبياء، صحابة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم الجيل الفريد، الذي رباه النبي صلى الله عليه وسلم على عينه، ثم سير الصالحين والعلماء الربانيين الذين ساروا على نهج السلف في العلم والعمل، ففي أخبار أولئك القوم نماذج تحتذي، في التعلم والتعبد، والزهد والورع، والإخلاص والخشية، والتوكل والإنابة، والاستقامة والاتباع، والجهاد وبذل المهج والأموال في سبيل الله.

وتلك الأخبار تشحذ الهمم الكليلة، وتقوي العزائم الفاترة، وتعلو بمطالعتها القدوة وتنقشع عن القلب الغمة، فيبصر ميدان السباق وقد سار فيه الانبياء والصديقون والشهداء والصالحون، فتزول وحشة التفرد عن أبناء الزمان، ما دام الرفقة أولئك، وحسن أولئك رفيقًا، {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69].

(7) اجتناب المعاصي ومفسدات القلب، وقد أفاض ابن القيم في ذكر الآثار السيئة للمعاصي وذكر "أن الذنوب والمعاصي تضر، ولا شك أن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان" (الجواب الكافي)، ثم فصل رحمه الله أضرار المعاصي بالقلب والبدن، فكان مما ذكره من ضررها بالقلب ما يأتي:

(أ) أنها تحرم القلب العلم؛ لأن العلم نور تطفئه المعاصي.

(ب) أنها إذا تكاثرت، طبع على قلب صاحبها، فكان من الغافلين، كما قال الحسن البصري في قوله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب، وأصل هذا أن القلب يصدأ من المعصية، فإذا زادت غلب الصدأ حتى يصير رانًا، ثم يغلب حتى يصير طبعًا وقفلاً وختمًا، فيصير القلب في غشاوة وغلاف، فلا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه.

(ج) أنها تطفئ من القلب نار الغيرة، التي هي لحياته كالحرارة لحياة البدن، فإن الغيرة حرارة القلب التي تخرج ما فيه من الخبث والصفات المذمومة كما يخرج الكير خبث الذهب.

(د) أنها تذهب الحياء الذي هو مادة الحياة للقلب وأصل كل خير.

(هـ) أنها تضعف في القلب تعظيم الرب جل جلاله.

(و) أنها تضعف سير القلب إلى الله والدار الآخرة وتعوقه وتوقفه إن لم ترده إلى الوراء، والقلب إنما يسير إلى الله بقوته، فإذا مرض القلب، ضعف سيره وانقطع في طريقه (انظر: الجواب الكافي).

وأما مفسدات القلب فقد ذكر ابن القيم أنها خمسة: كثرة الخلطة، والتمني، والتعلق بغير الله من مال أو جاه أو صورة، والشبع المفرط، وكثرة النوم، ويزيد بعضهم فضول النظر، وفضول الكلام، ثم قال رحمه الله: "فهذه الخمسة من أكبر مفسدات القلب؛ ذلك أن القلب يسير إلى الله عز وجل والدار الآخرة، ويشكف عن طريق الحق ونهجه، وآفات النفس والعمل، وقطاع الطرق، بنوره وحياته وقوته وصحته وعزمه، وسلامة سمعه وصحته وبصره وغيبة الشواغل والقواطع عنه

وهذه الخمسة تطفئ نوره، وتعور عين بصيرته، وتثقل سمعه -إن لم تصمه وتبكمه- وتضعف قواه كلها، وتوهن صحته، وتفتر عزيمته، وتوقف همته، وتنكسه إلى ورائه، ومن لا شعور له بهذا فميت القلب، وما لجرح بميت إيلام، فهي عائقة له عن نبل كماله، قاطعة له عن الوصول إلى ما خلق له، وجعل نعيمه وسعادته وابتهاجه ولذته في الوصول إليه (تهذيب مدارج السالكين).

خالد أبو شادي

طبيبٌ صيدليّ ، و صاحبُ صوتٍ شجيٍّ نديّ. و هو صاحب كُتيّباتٍ دعويّةٍ مُتميّزة

  • 2
  • 0
  • 14,403
المقال السابق
[24] نبذة في أسباب صلاح القلب - الجزء الأول
المقال التالي
[26] وجوب لزوم السنة في طريق إصلاح القلب

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً