وما أنا من المتكلفين

منذ 2016-02-23

ومما جرى مدحُه عند العرب -بل عموم العقلاء- مدح العَفْوية، وذمّ التكلّف والخروج عن السجيّة، ما لم يكن ذلك في باب مجاهدة النفس على ترك خُلق قبيح، وسلوك سيء!

خلَقَ اللهُ بني آدم مختلفي الطبائع، متنوعي المشارب والأخلاق، كمعادن الأرض تماماً، فيهم الذهب وفيهم الخزَف، وفيهم ما بين ذلك.
ومما جرى مدحُه عند العرب -بل عموم العقلاء- مدح العَفْوية، وذمّ التكلّف والخروج عن السجيّة، ما لم يكن ذلك في باب مجاهدة النفس على ترك خُلق قبيح، وسلوك سيء! فجاء القرآن، وسيرةُ النبي صلى الله عليه وسلم يؤكدان على هذا المعنى، وهو ما لخّصه عليه الصلاة والسلام مخاطبا قومه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ . إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِين} [ص:86، 87] فوجده الناس -مسلمهم وكافرهم- كذلك.. في لباسه.. في منطقه.. بل في حياته كلها! وصار الفقير والجاهل لا يستوحش في مجلسه، ولا يتهيّب سؤاله، حتى إن الغريب ليدخل المسجد فيسأل: أيكم محمد؟
وفي صورةٍ من صور البُعْدِ عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وهديه القويم؛ طرأت على الناس في حياتهم الاجتماعية والعلمية رسومٌ وطقوس لبسوا معها ثياب التكلّف، وتحمّلوا معها أموراً مادية ومعنوية، وطغت هذه المظاهرُ على العفوية والبساطة، فأوجدت بينهم حواجزَ وهمية، جعلت العلاقة بين بعض الناس على صفيح ساخن!
ولئن هذا كان مذموماً فيمن ليس معدوداً من أهل العلم ممن له نوع ولاية أو وجاهة؛ فكيف بمن وَرِثَ شيئاً من تَرِكَةِ محمد صلى الله عليه وسلم؟! فصار لا يمكن التواصل معه إلا بطقوس متكلَّفة، وألوان من التعامل مصطنعة! فحجبت عنه الابتسامة، وغارت معه روح التبسط التي تقرّب الجاهل، وتحفّز السائل، وصار قريبَ البدن، بعيدَ القلب والروح!

ومن شؤم هذا التكلف الذي يتدثر به بعضُ المنتسبين للعلم: أن تتسرب بعضُ صور التكلّف إلى بعض طلابهم، وهم بعدُ في بواكير الطلب! وحين يتقدم السنّ بهذا الطالب، تظهر عليه ألوانٌ أخرى من التكلف، فتراه مقلداً لشيخه الذي أحبّه حبّا خالط لحمَه وعظمَه! يظهر ذلك في نبرة صوته، ومحاكاة خطّه ومشيتِه! وقد يصل هذا التقليد المتكلف إلى ما هو أبعد من ذلك، في ذوبانٍ مَقيتٍ لشخصيته في شخصية شيخه، جعلت منه تابعاً، ونسخة طبق الأصل!

وقد لحظ ابنُ مسعود رضي الله عنه بعضَ صور هذا التكلف في عصره، فنبّه عليها، وحذّر منها، فقال: "يا أيها الناس! مَن علم شيئًا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: الله أعلم، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}" [1].

وفي الواقع الاجتماعي، تثور أتربةُ هذا التكلف؛ لتُعمي العيونَ عن لذة الصفاء، وروعة العفوية، ترى ذلك في مناسبات الأعراس، أو لقاءات الأصدقاء، وتجمّعات النساء! ولا ريب أن هذا مما يقلّص مساحة الفرح والسرور بها.

وأشدّ صور هذا التكلّف بؤساً وجفافاً، حين يظهر بين الأب وأولاده، أو بين الأم وأولادها! بحجة بقاء ستار الهيبة!! وقد كان سيد المرسلين يتطامن ببدنه الشريف ليرتحله أحفادُه ويركبوا ظهره! ويحمل بنتَ ابنته في الصلاة، ويُقبّل صبيانه.

وحين تنتقل هذه العدوى ليصيبَ فيروسُها الحياةَ الزوجية؛ فقد خرجت المودةُ والرحمةُ من الباب الآخر! ودخل عليها الشقاءُ والجفافُ الذي يجعل السعادة هشيماً تذروه الرياح!

ألا يعلم هؤلاء أن أعظم الناس جاهًا في الناس، وأعلاهم قدراً عند ربّ الناس -فيما نعلم- رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، كان وافر الهيبة، عظيمَ الحشمة، رفيعَ الجناب، ومع هذا يَخدم أهلَه، ويخصِف نَعلَه، ويرقع ثوبَه، وكانت زوجاته يضاحكْنَه، وربما غارت إحداهن، فلم يعنّفها، بل تعامل مع ذلك بكل حكمة ورحابة صدْر؟!
وحين تستعرض أسئلةَ بعض المفتين فإنك تجد من يتكلف ما لم يكلّفه الله، فيوقِع نفسَه في حرجٍ برّأ اللهُ الدينَ منه، ومن أوضح الشواهد على ذلك: قصة ابن عقيل مع الموسوس الذي قال له: إني أنغمس في الماء مراراً كثيرة وأشكّ هل صحّ لي الغسل أم لا؟! فقال له: اذهب فقد سقطت عنك الصّلاة! قال: وكيف؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رُفع القلم عن ثلاثة...» منهم: «المجنون حتّى يفيق»، ومن ينغمس في الماء مرارا ويشكّ هل أصابه الماء أم لا فهو مجنون" [2].

لقد خسرنا في حياتنا الاجتماعية والعلمية كثيراً من العلاقات أو كدنا؛ بسبب ركوب هذه المطية الرديئة -التكلف-، وربّما برّر أحدُنا لذلك بأمورٍ لو عرضها على السيرة النبوية لوجدها مجافيةً لها، والواقع أن حظوظ النفس تحضر حيناً، وقد تُبْرَزُ بثوب الصيانة للعلم، وحفظ الجاه العلمي والاجتماعي، فحجبنا بذلك عن أنفسنا نسائمَ تلك الهداية القرآنية، التي لا ألذّ منها حين تهب على القلوب، وتستنشق عبيرها الأرواح، فتدركها بلا عناء: {قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]!

----------------------------

[1] رواه البخاري ح(4809).
[2]  إغاثة اللهفان (1/ 134).

عمر بن عبد الله المقبل

الأستاذ المشارك في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة القصيم.

  • 0
  • 0
  • 3,760

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً