مع القرآن - إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ
والقرآن قص علينا قصة يوسف كاملة وقدم لها بأنها من أحسن القصص إشارة إلى كمالها القصصي وشمولها على كل التفاصيل بأبلغ بيان وأقصر عبارة وأوضح لفظ وهذا هو الإعجاز بعينه
يوسف ويعقوب عليهما السلام ضربا مثالاً من أروع الأمثلة في الصبر ثم التمكين والفرج بعد الضيق. والقرآن قص علينا قصة يوسف كاملة وقدم لها بأنها من أحسن القصص إشارة إلى كمالها القصصي وشمولها على كل التفاصيل بأبلغ بيان وأقصر عبارة وأوضح لفظ وهذا هو الإعجاز بعينه.
ومحقرًا من شأن كل من يحاول النهل من ترع آسنة يستقي منها أحداث الرواية ويدخلها في سياق سيرة الصديق يوسف عليه السلام مما ورد في الإسرائيليات المحرفة أو ما أدخله أهل التحريف من الشيعة الرافضة أو غيرهم في سياق الأحداث وفي سياق الحوارات التي دارت بين يوسف وأبيه وأخوته، وخاصة ما عمت به بلوانا في زماننا الحالي من ذيوع ما أنتجته أيدي الشيعة من مسلسلات أو أفلام عن يوسف عليه السلام حرفوا فيها عقيدة يوسف ودسوا فيها سماً زعافاً يرفع من قدر الولي على النبي والرسول حتى يمهدوا لعقيدتهم وغلوهم في شأن علي وذريته عليهم السلام.
ومن دواهي هذا البلاء أن جسد أحد الشيعة الرافضة وتقمص شخصية يوسف عليه السلام لتنطبع هذه الصورة المشوهة في قلوب الناس ووعيهم عن يوسف عليه السلام؛ هذا النبي الكريم الذي أوتي شطر الحسن بما يحال معه تجسيد شخصه وكمال رسمه ونفسه لما ثبت في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم لما أسري به ووصل السماء الثالثة قال: «فإذا أنا بيوسف عليه الصلاة والسلام وإذا هو قد أعطي شطر الحسن» (مسلم:162).
قال تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ . قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ . وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف:4-6 ].
قال السعدي في تفسيره: قوله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأبِيهِ} يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم الصلاة والسلام: {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} فكانت هذه الرؤيا مقدمة لما وصل إليه يوسف عليه السلام من الارتفاع في الدنيا والآخرة.
وهكذا إذا أراد الله أمرًا من الأمور العظام قدم بين يديه مقدمة، توطئة له، وتسهيلا لأمره، واستعدادًا لما يرد على العبد من المشاق، لطفًا بعبده، وإحسانًا إليه، فأوَّلها يعقوب بأن الشمس: أمه، والقمر: أبوه، والكواكب: إخوته، وأنه ستنتقل به الأحوال إلى أن يصير إلى حال يخضعون له، ويسجدون له إكرامًا وإعظامًا، وأن ذلك لا يكون إلا بأسباب تتقدمه من اجتباء الله له، واصطفائه له، وإتمام نعمته عليه بالعلم والعمل، والتمكين في الأرض.
وأن هذه النعمة ستشمل آل يعقوب، الذين سجدوا له وصاروا تبعًا له فيها
{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} أي: يصطفيك ويختارك بما يمنُّ به عليك من الأوصاف الجليلة والمناقب الجميلة، {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ} أي: من تعبير الرؤيا، وبيان ما تئول إليه الأحاديث الصادقة، كالكتب السماوية ونحوها، {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} في الدنيا والآخرة، بأن يؤتيك في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} حيث أنعم الله عليهما، بنعم عظيمة واسعة، دينية، ودنيوية.
{إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي: علمه محيط بالأشياء، وبما احتوت عليه ضمائر العباد من البر وغيره، فيعطي كلا ما تقتضيه حكمته وحمده، فإنه حكيم يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها.
ولما بان تعبيرها ليوسف، قال له أبوه: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} أي: حسدًا من عند أنفسهم، أن تكون أنت الرئيس الشريف عليهم.
{إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} لا يفتر عنه ليلا ولا نهارًا، ولا سرًا ولا جهارًا، فالبعد عن الأسباب التي يتسلط بها على العبد أولى، فامتثل يوسف أمر أبيه، ولم يخبر إخوته بذلك، بل كتمها عنهم.
أبو الهيثم محمد درويش
دكتوراه المناهج وطرق التدريس في تخصص تكنولوجيا التعليم من كلية التربية بجامعة طنطا بمصر.
- التصنيف: