سلطة الانبهار
{فخرجَ على قومه في زينته، قالَ الذينَ يريدونَ الحياةَ الدنيا ياليتَ لنا مثلَ ما أوتيَ قارون إنه لذو حظٍّ عظيم} .
{فخرجَ على قومه في زينته، قالَ الذينَ يريدونَ الحياةَ الدنيا ياليتَ لنا مثلَ ما أوتيَ قارون إنه لذو حظٍّ عظيم} .
إنَّ قطيعَ المنبهرينَ بما أوتيَ قارون، وُصفوا في النصِّ القرآني؛ بإرادتهم للـ( حياةِ الدنيا*)،وهنا.. ثمة فرقٌ ظاهرٌ بينَ إرادةِ (الدنيا) كـأمرٍ إلهي لتعميرها، وإصلاحها، وبنائها، وغرسِ فسائلِ النهضة والحياة فيها، وبينَ إرادة حياةٍ بعينها؛ بنمطٍ معين؛ كما تمنىٰ القوم المندهشينَ بـبريقِ المال، وزهو الغني المختال، وشهرته التي لا حدَّ لها! أو حياةٍ عامة، أيُّ حياةٍ كانت.. المهم، حبُّ البقاءِ والخلود، والنفور من فكرةِ الرحيلِ والانتقالِ إلى الدارِ الآخرة.. كما وُصِفَ اليهودُ بذلك {ولتجدنَّهم أحرصَ الناسِ على حياة} .
ثمَّٰ أوضحَ الله قِصَرَ النظرِ لديهم، لقد تصوروا بدافعِ الدهشة والانبهار، أنَّ قارون صاحبُ (حظٍ عظيم) بسببِ الأموالِ الطائلةِ التي يملكها! وهي نظرة أحادية، لا ترى إلا ضخامةُ المادةِ وأربابها.
وفي الآية التي تليها، ذكرَ الله تصور فريقٍ آخر، ونظرة مغايرة للنظرةِ الأولى، {وقالَ الذينَ أتوا العلمَ والإيمانَ ويلكم ثوابُ الله خيرٌ لمن آمنَ وعملَ صالحاً ولا يُلقاها إلا الصابرون} .
وهذه نظرة تخلَّصت من سطوةِ الانبهارِ الغالب.. ولهذا، لم يندهش أصحابها، ولم يتمنوا ما عندَ قارون، لزواله، وطلبوا النعيمَ الباقي والمتاعَ الخالد..
ولم تتشكَّل لديهم هذه القناعات، وهذا المنظور العميق للحياة؛ إلا بسببِ ( العلم ) الذي أسهمَ في تعميقِ النظرِ لحقائقِ الأشياء، و استشرافِ الواقع، وتمحيصِ الظواهر، والابتعاد عن ثقافةِ القطيع، وكبحِ جماح النفس في الانسياقِ وراءَ التمنيات القاصرة.. ومن أجل ذلك، ذكَّروا قومهم الغارقينَ في فتنة الغنى القاروني؛ بـ ثوابِ الله العظيم الذي لا حدَّ له، والإيمان بـ المُعطي الذي بيده ملكوت كلِّ شيء، و عمل الصالحاتِ التي تُقربُ العبدَ إلى الحقيقةِ العظمى في الوجود.. والتحلي بالصبرِ على فتنةِ المالِ والمنصبِ والغنى والغرور!
{فخسفنا به وبداره الأرض} تلاشىٰ الطغيان، وتلاشت النظرات التي تمنَّت أن تكونَ في مقامِ المخسوفِ به، وتحولت الدهشة، و استحالَ الانبهار إلى رماد، ورأوا عينَ اليقين نهاية الانحراف، والتنكُّر للإله: {قال إنما أوتيتُه على علم عندي} .. لقد أدركوا - مؤخراً - قيمة (العلم) الذي يعصمُ صاحبه من الشططِ والزلل والغلو والانبهار، والابتعادِ عن الحقائق.. وكلُّ علمٍ لا يورثُ صاحبَه ذلك؛ فهو ناقص!
ثمَّٰ أكَّدَ الله حقيقةَ المآل الآخروي بقوله {تلكَ الدارُ الآخرةُ نجعلها للذينَ لا يريدونَ عُلواً في الأرضِ ولا فساداً} للذينَ لا يريدونَ حياة؛ الغرضُ منها البقاء.. دونَ النظر إلى طبيعتها.. ولو كانت فساداً وطغياناً أوعلواً في الأرض.. وبمفهومِ المخالفة؛ فـ الدارُ الآخرة نجعلها لمن يريدونَ الدنيا لإصلاحها وإعمارها ونهضتها، وإقامةِ دعائمِ العدلِ والحق فيها، والارتفاع عن الفساد بشتىٰ صوره، والنظر إلى الدنيا بمنظور من يسير لـ يصل، لا من همُّه أن يسير دونَ رؤيةٍ واضحةٍ للوصول..!
#خالد_بريه
- التصنيف: