كيف يكون الجدال بالتي هي أحسن؟
ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
قال ابن كثير في تفسيره :
قوله : ( {وجادلهم بالتي هي أحسن } ) أي : من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال ، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب ، كما قال : ( {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم } ) [ العنكبوت : 46 ] فأمره تعالى بلين الجانب ، كما أمر موسى وهارون - عليهما السلام - حين بعثهما إلى فرعون فقال : ( {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} ) [ طه : 44 ] .
قال ابن عاشور في تفسيره:
والمجادلة : الاحتجاج لتصويب رأي وإبطال ما يخالفه أو عمل كذلك . ولما كان ما لقيه النبي من أذى المشركين قد يبعثه على الغلظة عليهم في المجادلة أمره الله بأن يجادلهم بالتي هي أحسن . وتقدمت قريباً عند قوله : { { تجادل عن نفسها} } [ سورة النحل : 111 ]. وتقدمت من قبل عند قوله : { {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} أ} في سورة النساء ( 107 ). والمعنى : إذا ألجأتك الدعوة إلى محاجّة المشركين فحاججهم بالتي هي أحسن .
والمفضل عليه المحاجّة الصادرة منهم ، فإن المجادلة تقتضي صدور الفعل من الجانبين ، فعلم أن المأمور به أن تكون المحاجّة الصادرة منه أشدّ حسناً من المحاجّة الصادرة منهم ، كقوله تعالى : { { ادفع بالتي هن أحسن} } [ سورة المؤمنون : 96 ].
ولما كانت المجادلة لا تكون إلا مع المعارضين صرّح في المجادلة بضمير جمع الغائبين المراد منه المشركون ، فإن المشركين متفاوتون في كيفيات محاجتهم ، فمنهم من يحاجّ بلين ، مثل ما في الحديث : أن النبي قرأ القرآن على الوليد بن المغيرة ثم قال له : هل ترى بما أقول بأساً قال : لا والدماء .
وقرأ النبي القرآن على عبد الله بن أُبيّ ابن سَلول في مجلس قومه ، فقال عبد الله بن أبي : أيها المرء إن كان ما تقول حقاً فاجلس في بيتك فمن جاءك فحدّثه إيّاه ومن لم يأتك فلا تغتّه ولا تأته في مجلسه بما يكره منه .
وتصدّي المشركين لمجادلة النبي تكرّر غير مرّة . ومن ذلك ما روي عن ابن عباس : أنه لما نزل قوله تعالى : { {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} } [ سورة الأنبياء : 98 ] الآية ، قال عبد الله الزِّبَعْرَى : لأخصُمَنّ محمداً ، فجاءه فقال : يا محمد قد عُبد عيسى ، وعُبدتتِ الملائكة فهل هم حصب لجهنّم؟ فقال النبي : اقرأ ما بعدُ { { إن الذين سبقت لهم منّا الحسنى أولئك عنها مبعدون} } [ سورة الأنبياء : 101 ]. أخرجه ابن المنذر وابن مردويه والطبراني ، وأبو داود في كتاب الناسخ والمنسوخ .
وقُيدت الموعظة بالحسنة ولم تقيد الحكمة بمثل ذلك لأن الموعظة لما كان المقصود منها غالباً ردع نفس الموعوظ عن أعماله السيئة أو عن توقّع ذلك منه ، كانت مظّنة لصدور غلظة من الواعظ ولحصول انكسار في نفس الموعوظ ، أرشد الله رسوله أن يتوخّى في الموعظة أن تكون حسنة ، أي بِإلانَة القول وترغيب الموعوظ في الخير ، قال تعالى خطاباً لموسى وهارون : { {اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليّناً لعلّه يتذكّر أو يخشى} } [ سورة طه : 43 ] وفي حديث الترمذي عن العرباض بن سارية أنه قال : وعظَنا رسولُ الله موعظة وجِلَت منها القلوب وذَرَفَتْ منها العيون الحديث .
وأما الحكمة فهي تعليم لمتطلبي الكمال من معلّم يهتمّ بتعليم طلابه فلا تكون إلا في حالة حسنة فلا حاجة إلى التنبيه على أن تكون حسنة .
والمجادلة لما كانت محاجة في فعل أو رأي لقصد الإقناع بوجه الحقّ فيه فهي لا تعدو أن تكون من الحكمة أو من الموعظة ، ولكنها جعلت قسيماً لهما هنا بالنظر إلى الغرض الداعي إليها .
وإذ قد كانت مجادلة النبي لهم من ذيول الدعوة وُصفت بالتي هي أحسن كما وصفت الموعظة بالحسنة .
وقد كان المشركون يجادلون النبي قصداً لإفحامه ، وتمويهاً لتغليطه نبّه الله على أسلوب مجادلة النبي إيّاهم استكمالاً لآداب وسائل الدعوة كلها . فالضمير في وجادلهم } عائد إلى المشركين بقرينة المقام لظهور أن المسلمين لا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم ولكن يتلقّون منه تلقّي المستفيد والمسترشد . وهذا موجب تغيير الأسلوب بالنسبة إلى المجادلة إذ لم يقل : والمجادلةِ الحسنة ، بل قال : { {وجادلهم } } ، وقال تعالى أيضاً : { {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} }
[ سورة العنكبوت : 46 ].
والجدال المحمود هو الذي يكون الغرض منه تقرير الحقِّ، وإظهاره بإقامة الأدلة والبراهين على صدقه، وقد جاءت نصوص تأمر بهذا النوع من الجدال، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بهذا الجدال في قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. وقال جلَّ في علاه: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } [العنكبوت: 46].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((جاهدوا المشركين بأموالكم، وأنفسكم، وألسنتكم)) صححه الحاكم .
وقد حصل هذا النوع من الجدال بين عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وبين الخوارج زمن علي بن أبي طالب بأمر علي، فأقام عليهم الحجة وأفحمهم، فرجع عن هذه البدعة خلق كثير . وكذلك مجادلة أحمد بن حنبل للمعتزلة، ومجادلات ابن تيمية لأهل البدع. [الدرر السنية]
أبو الهيثم محمد درويش
دكتوراه المناهج وطرق التدريس في تخصص تكنولوجيا التعليم من كلية التربية بجامعة طنطا بمصر.
- التصنيف: