مقولات في الثبات ..!
قال ابن المبارك رحمه الله: ( من أعظم المصائب للرجل أن يعلم من نفسه تقصيرًا ثم لا يبالي، ولا يحزن عليه )
ليس أشق على المستقيم بعد استقامته من لزومه الطريق، وثباته على المنهج، وتباعده عن طرائق التبديل أو التذبذب والانفلات، قال تعالى: ( {وما بدلوا تبديلا } ) [سورة الأحزاب] .
واحتماله أيضا لحملات النقد والسخرية والاستهزاء، وساعات الغُربة والحيرة...! وفِي ظل أزمنة الفتن والأهواء وتسلط الدنيا وأصحابها يبيتُ المؤمن أحوج ما يكون إلى المحافظة، وتعاهده لنفسه بوسائل الثبات والالتزام، لأن التغير آفة، والانحراف شر ومصيبة، فوجب الصبر، وتعين الاحتمال ، والتفكير فيما عند الله تعالى ، قال عز وجل ( {فلما جاء سليمان قال أتُمدوننِ بمال فما آتني الله خير مما آتاكم} ) [سورة النمل] .
والثابت على الطريق لابد له من زاد قرآني، وقربات متجددة، وأوراد يُدمنها، وصحبة يأوي إليها، ومعالم يستضئ بها، وسنن يتشبث بها، ويأنس بها أيام التحزن والإحباط والحيرة، ومن ضمن ذلك كلمات وسير تهديه وتعينه على لأواء الطريق، وتشعبات المسير، ويعاين فيها الحكمة المضيئة، والقول المسدد المهدي، وهي مبثوثة في نصوص القرآن، وفصوص السنة، وتجاريب المصلحين الصابرين، وقد التقطنا منها لُمَعاً ودرراً تشع بلا وقود، وتوقد بلا حطب، علها أن تختصر المسافات، وتبسط المطولات، وتغني عن تضاعيف الكتب والمجلدات ، والتي قد تشق على السالك، وتوهن الثابت، ويتراجع لأجلها الراغب والطامح، ومنها تلكم المختارات الناصعة، على سبيل التمثيل والإيجاز، معنونةً بلا تعقيد ولا إلغاز...:
١/ توفيق إلهي : ( {وربطنا على قلوبهم إذ قاموا} )سورة الكهف: هنا معنى يربي على حسن التدين وتعميق الإيمان بالله تعالى، وعدم الركون إلى النفس وزكاتها، أو القلب وثباته، أو العلم وسطوعه، أو العبادة وحضورها..! فكلنا معلّقون بالله وحسن توفيقه وتثبيته، كما قال في الفتية الكهفيين الصلحاء( وربطنا ) أي ثبتناهم على الحق، وصبرناهم على المنهج، وقوينا قلوبهم، فآنسنا وحشتهم، وأسعدنا غربتَهم، وأمّنا روعتَهم، فكان ما كان من ظهور الحجة، والثبات الشامخ، والذكر الحسن، والربط القلبي، والنجاة العجيبة( {فأووا الى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته، ويُهئ لكم من أمركم مِرفقا} ) .
٢/ دعاء نبوي :( «اللهم يا مقلِّب القلوب ثبت قلبي» ) وتلك وسيلة ناجعة، وعدّة لازمة، وابتهال خالص، واستعانة دائمة، فالله هو المثبّت والمعين، كما هو الإلهام السابق لفتية الكهف، وأن الدعاء من وسائل الثبات، فلا تعجب بصلاحك، ولا تطمئن لطاعاتك . وقد صح الأمر بتجديد الإيمان، وبابته الدعاء الصادق، قال صلى الله عليه وسلم -: ( إن الإيمان ليخلَق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فسلوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم ) رواه الطبراني والحاكم وهو صحيح .
٣/ درء الوحشة : قال علي والفُضيل رضي الله عنهما : ( لا تستوحش طرق الهدى لقلة السالكين، ولا تغتر بطرق الباطل لكثرة الهالكين ). وهو شكل من التألم والتوجع الذي ينتاب الأخيار من جراء القلة والضعف وتسلط الظلمة، واستهزاء المنافقين، واعتقاد أنهم على حق، وأن التدين تبعة، والاستقامة شاقة، والله المستعان، قال تعالى ( {فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون} ) [سورة الروم] .
٤/ الشعار السلفي: ( تعال بِنَا نؤمن ساعة ). فلا تعتمد على نفسك فقط، وكون علاقة متينة، ومحضنا إيمانيا، وحصنا منيعا يقويك ويثبتك، ويسليك على الدوام ، فلا عون بعد الله كالإخوة الطيبين، والصفوة النيّرين، الذين تنتفع بمجالسهم، وتحيا بفوائدهم، وتصحو بتنبيهاتهم...!
٥/ روَغان المتدين: قال الفاروق عمر ( استقاموا لله على طاعته، ولَم يروغوا روغان الثعالب ). إياك والروغان أو البحث عن الترخص، أو استسهال الشرائع،والفرار وقت التكليف، وعدم القيام بحق الله فيها، فذاك شكل من التراجع، ونوع من الانهزام...! وغالبا ما يكون ذاك من جراء نفائس الدنيا والفتنة بها والخلود لحلوائها، وقلة الاستعداد للآخرة والتفكير القلبي والعملي فيها، وهذه فكرة لابد للثابت أن يتجاوزها سريعا، وإلا تضعضع المسلك، وفتر القلب، وكما قال الشاعر الطُغرائي:
ترجو البقاء بدار لا ثبات لها...فهل سمعتَ بظل غير منتقل..؟!
٦/ التجدد القلبي: قال ابن مسعود رضي الله عنه ( ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين{ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم} [رواه مسلم في الصحيح] .
وفي هذا المعنى استدامة التجديد الإيماني، ومحاذرة الغفلة المورثة للجفوة والقسوة، فلا انشغال أو معاذير عن زاد معروف، وطريقة متبعة...!
٧/ يقظة المقصّر : قال ابن المبارك رحمه الله: ( من أعظم المصائب للرجل أن يعلم من نفسه تقصيرًا ثم لا يبالي، ولا يحزن عليه ) . لأن المؤمن الثابت يكره التقصير، ويبالي به، ويفكر في الدواء والمعالجة، ولا زالت نفسه تعاتبه، وضميره يؤنبه، لا سيما عند مقارعة الذنوب، واشتداد الغفلات، فتلقاه في جهاد معها ومناكفة، خلافا لمن قسا قلبه، وطالت شقوته، فإن قد لا يستيقظ مبكرا، ويحتاج إلى سياط موقظة، ومواعظ ملهبة، ترده للصواب، وتحذره مصارع الغافلين .
٨/ سر الثبات: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( فأهل اليقين إذا ابتُلوا ثبتوا ؛ بخلاف غيرهم ) وهو أعظم عدة، وأشرف زاد، والقاعدة المتينة النضاخة للثبات ، وقال رحمه الله: ( يحصل اليقين بثلاثة أشياء : أحدها : تدبر القرآن ، والثاني : تدبر الآيات التي يحدثها الله في الأنفس والآفاق التي تبين أنه حق ، والثالث : العمل بموجب العلم، قال تعالى : { {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} } [سورة فصلت] .
٩/ التعزز الإيماني : قال الحسن وابن حنبل رحمهما الله: ( أعِزَّ أمرَ الله حيثما كنت، يُعزك الله ). أي كن عزيزا بالله وبدينه، مظهرا لشعائره، مفتخرا بسننه، مستمسكاً بمبادئه ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين )سورة آل عمران .
١٠/ الوجَل الدائم : قال سفيان الثوري رحمه الله : ( إني أخاف أن أُسلب الإيمان قبل أن أموت ) ( السير ٢٥٨/٧). لأن قلبه حي، ونفسه خائفة، وجوارحه لاهثة، فهو يخشى الزلل، ويخاف العثرات، وسوء الخاتمة .
حيث لا اغترار بالحسنات، ولا اعتماد على القربات، كما قال الله: ( وقلوبهم وجِلة ) سورة المؤمنون. .
١١/ السفينة الصالحة: قال الإمام مالك رحمه الله :( مثلُ السنة مثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غَرق ). فاركب السفينة قبل الهلاك، وسارع قبل الغرق، وتعلق بسنن راسخة، وأحاديث باهرة، بارك الله فيها ، وجعل من استعصم بها في عز وفِي نضرة وفِي قرار مكين..!
١٢/ المكابدة المنتصِرة: قال الإمام محمد بن المنكدر رحمه الله : ( كابدتُ نفسي أربعين سنة حتى استقامت ). لأنه عرضة للابتلاء والتمحيص، وتخالطه الفتن، وتراوده النفس، وتفتح له من وساوسها وإيحاءاتها ، والنَاس يتفاوتون في ذاك ، فمن حريص على عليائها، وآخر مهتم باعتدالها، وثالث يخاف زللها، قال تعالى ( {قد أفلح من زكاها} ) [سورة الشمس] .
١٣/ استسهال الذنوب: قال العلامة ابن القيم رحمه الله :( الذنوب جراحات، وربَّ جُرح وقع في مَقتَل ). فالشواف للثبات لا يليق به استسهال المعصية، أو التلذذ بالذنب، أو مراكمة الصغائر ، فإن لها من الله طالبا..! وفِي القرآن: ( {فأهلكناهم بذنوبهم} ) سورة الأنعام . ومنها ما هو فتاك، وقتال، وصيال، تنتهي بصاحبها لأتعس حال، وشر إقامة..!
١٤ / الموعظة العملية: قال حكيم : ( الثبات ) لا يكون بكثرة الاستماع للمواعظ، إنما يكون بفعل هذه المواعظ ) ومصداقه في القرآن ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتاً وإذاً لآتيناهم من لدنا أجراً عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما ) سورة النساء .
فالنتائج هنا خيرية وثبات، وأجر وهداية، وما أحلاها على قلب المؤمن الموحد..!
١٥/ الحق أبلج ثابت: ولو قلّ حاملوه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: ( الجماعة ما وافق الحق؛ ولو كنت وحدك ) .
ما دمت اعتقدته بدليله البيّن، وبرهانه الساطع، فلا تبال بالمخالف، ولا المجادل ولا المعترض، فكلهم لا قيمة لهم عند جلاء الحق، وظهور البينات...! قال تعالى :
( {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا} ) سورة الأنعام . وفِي أزمنة الفتن واخضرار الدنيا بأهلها يقل الاتباع وتكثر التأويلات والتسويغات، ويتعامى كثيرون.،! ولكن الحق لا يعمى عند أهله الطالبين ( {قل لا يستوي الخبيث والطيب} ) [سورة المائدة] . فستنتقد وتتهم، وتلفق لك الأقاويل ، ولكنها لا تعدو ان تكون إنشائيات وجهالات، ( وشنشنة عرفناها من أخزم..)...! فلا تُصغ لها، وأمِتها بالإعراض، ودِيمة العلم والاستعصام..،!
١٦/ الأثر الباقي : قال الإمام الأوزاعي رحمه الله: ( عليك بآثار من سلف وإن رفضَك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه بالقول، فإن الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم ).
سيأتي زمان الآثار فيه مهجورة، والطرائق مردودة ومتهكم بها، وينشغل الآخرون بدنياهم وفنونهم الجديدة من آراء مستحدثة، وعادات مستوردة، يطال ذلك الأحاديث الصحاح، والآثار السلفية المِلاح، فلا يفت ذلك في العضد، أو يورثك الكمد، بل اثبُت ما كنت للحق متبعا، وبأنواره مستضيئا، فإن الآراء لا تدفع النصوص والآثار ....!( {فاصبر إن وعد الله حق ولا يَستخِفنّك الذين لا يوقنون} ) [سورة الروم ] .
والله الموفق والهادي إلى سواء الصراط ...
- التصنيف: