الهجرة.. بين بناء الفرد، وإقامة الدولة
إننا إذا أردنا أن نعيد للأمة تمكينها، وعزها وفخرها وقوتها ونصرها، لابد أن نعيد صياغة الإنسان أولا؛ لأن بناء الإنسان قبل بناء الأوطان..
لم تكن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة إلى المدينة، مجرد انتقال بالدعوة من بلد إلى بلد، أو فرار بالدين من عند قوم رفضوه وحاربوه وأذاقوا أتباعه أشد أنواع التنكيل وويلات التعذيب وألوان الاضطهاد في مكة، إلى قوم ءامنوا به وقبلوه في المدينة. وإنما كانت الهجرة شيئا أكبر من هذا بكثير..
. لقد كانت الهجرة حدثا هائلا مهد لتغيير شكل الأرض ووجه البسيطة.
. لقد كانت الهجرة أمرا عظيما اختلف ما بعده تماما عما قبله.
. لقد كانت الهجرة هي التأريخ الصحيح لبداية عهد بناء الدولة الناشئة، والأمة القادمة الواعدة.
ما قبل الهجرة وما بعدها:
لقد قسمت الهجرة تاريخ الدعوة المحمدية إلى قسمين أو إلى مرحلتين مختلفتين لكنهما متكاملتين:
أولا: مرحلة ما قبل الهجرة.
ثانيا: ومرحلة ما بعد الهجرة.
أما مرحلة ما قبل الهجرة:
فكانت هي مرحلة بناء الإنسان المسلم الصحيح، وقد استوعبت المرحلةَ المكية كلها، والتي كان شعارها {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}} [النساء:77]، فلا معارك ولا مناوشات ولا مهاترات؛ ليتهيأ الجوُّ للتربية والتزكية، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يعيد صياغةَ الإنسان الذي قبل دعوته وءامن برسالته، فينقله من عقائد الشرك والكفر والوثنية، ومن أفكار وأعراف وعادات الجاهلية التي ترعرع عليها وتشرب بها، إلى عقيدة التوحيد والإيمان، وإلى أفكار وأعراف الإسلام ومنهج القرآن. وهذه مرحلة لعمري غاية في الخطورة وغاية في الصعوبة.
فأصعب شيء في الوجود ـ فيما أعلم ـ هو تغيير المعتقدات والقناعات والعادات إلى قناعات ومعتقدات وعادات جديدة أخرى، خصوصا إذا كنت ستستبدلها بما يخالفها ويعاكسها ويضادها ويباينها تماما، وهذا تماما ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد كان ينقل المؤمنين من عقائد إلى عقائد تضادها تماما، ومن عادات وأفكار إلى أفكار أخرى تضادها تماما، ومن تصورات وقناعات إلى أخرى تخالفها تماما.
فالإيمان يضاد الكفر، والتوحيد يضاد الشرك، والعبودية لله والتسليم له تضاد الهوى وملذات النفوس، ومنهج القرآن والإسلام على النقيض تماما من منهج الجاهلية.
وهذه النقلة ضرورية بل لابد منها، وهي ـ وإن كانت من الصعوبة بمكان ـ إلا أنها أيضا من الخطورة بمكان؛ ذلك أن الإنسان لا يصح إسلامه ولا يتم إيمانه حتى يؤمن بهذه ويكفر بتلك، كما قال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256].
وكذلك لأن الإنسان إذا بقيت فيه رواسبُ الجاهلية ولم يتخل عنها، يبقى فيه من الجاهلية بحسب ذلك، فتراه يلبس ثوب الإسلام في الظاهر ولكن قلبه وعقله وفكره جاهلي، حتى إن بعض المسلمين يكون في ظاهره مسلما يحسب على المؤمنين، ولكنه في باطنه جاهلي محض. ومثل هذا لا يصلح لحمل رسالة، ولا نصرة دين، ولا نشر دعوة، ولا إقامة أمة..
ولهذا كانت مرحلة ما قبل الهجرة هي مرحلة بناء الفرد الذي يصلح أن يحمل الدعوة وتقوم على أكتافه أمة الإسلام.
مرحلة ما بعد الهجرة:
ـ وأما مرحلة ما بعد الهجرة: فهي مرحلة بناء الدولة ووضع دعائمها؛ إذ كل عقيدة لابد لها من دولة تحميها، وتدافع عنها، وتنشرها وتدعو إليها وتدافع عن أصحابها، وتصونها من هجوم أعدائها، وإلا اضمحلت وبادت وباد أهلها.
ولقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بناء هذه الدولة ووضع دعائمها وقواعدها منذ أن وطئت قدماه أرض المدينة، وتمثلت هذه البداية في وضع ثلاثة معالم أساسية يعلمها كل الناس، وهي:
ـ بناء المسجد.
ـ المؤاخاة بين المسلمين والمهاجرين والأنصار.
ـ كتابة الوثيقة بين أهل المدينة.
فأما بناء المسجد:
فكان بمثابة إعلانٍ وبيان عن هوية الدولة الجديدة الناشئة، وأنها دولة دينيةٌ عقدية، أساسُها توحيد الله وعبوديتُه، وتستمد تشريعاتِها وقوانينَها من أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ووحي السماء "كتابا وسنة"، وعلى أساس هذ الوحي سيكون تعامل أبنائها مع بعضهم، وستكون علاقاتها مع دول الجوار وغير الجوار.
هي في الحقيقة دولة دينية لكنها ليست دولة تؤَلِّه الحاكمَ وترفعه فوق مصاف الناس أو تعطيه حق العصمة وترفعه عن المساءلة، وإنما الحاكم والمحكوم فيها كلهم عبيد لله وأتباع لدينه، ودور الحاكم هو تحكيم شرع الله فيهم، وإقامة دين الله بينهم..
وليست هي بالتأكيد دولة مدنية بمعنى أنها علمانية أو ليبرالية أو شيوعية أو أي مسمى آخر للدولة يُنَحَّى فيه حكمُ الله تعالى وشرعه ويحل محله قوانين الأرض ودساتير الناس.
وأما الوثيقة:
فكانت عبارة عن بيان للدستور الذي ستتعامل به الدولة مع مواطنيها والقاطنين على أرضها، وكيف ستتعامل الدولة المسلمة الجديدة مع من يعيشون تحت حكمها من أهل العقائد المخالفة والديانات والأفكار المختلفة من اليهود خاصة والعرب المشركين عامة.
وقد بين النبي صلوات الله وسلامه عليه ـ في أول دستور عرفته الأرض ـ أن هذه المعاملة ستقوم على حفظ حرية العقيدة للجميع، وعلى إقامة الحق والعدل بين أبناء الوطن جميعا ـ مهما كانت مللهم ودياناتهم، وأنها أول وثيقة تبين حق المواطنة، ومعنى التعايش، وكيف أن كل سكان المدينة مطالبون بالدفاع المشترك عنها ضد أي اعتداء خارجي... وأن الدولة المسلمة ملتزمة لهم بهذا الحق، مالم يخونوا عهدا أو ينقضوا ميثاقا.
لقد أقرت الوثيقة إقامة الدولة الجديدة والتي سيكون حاكمها الفعلي ورئيسها الحقيقي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن مَردَّ التنازعِ في أي أمر اختلف فيه الناس إليه صلى الله عليه وسلم يحكم فيه بأمر الله سبحانه وعز وجل.
أما المؤاخاة بين المسلمين:
بين المهاجرين والأنصار، وبين المهاجرين بعضهم وبعض، فكانت هي الأساس والقاعدة التي سيقوم عليها البناء، فكانت المؤاخاة بيانًا على أن وحدة الصف وجمع الكلمة مطلب ضروري لا غنى عنه لأي أمة تريد الفلاح.
فصفة لازمة للأمة التي تريد التمكين في الأرض، والعزة في المعيشة، والنصر على أعدائها، أن تحقق الوحدة والائتلاف، وتنبذ الفرقة والاختلاف، فالأولى: سبب القوة والنصر، والثانية: سبب الهزيمة والضعف والفشل وذهاب الريح؛ كما قال سبحانه جل في علاه: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال:46]. {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105]. {وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ} [آل عمران:103].
ولا شك أن هذه الأسس والأعمدة لم تكن هي كل أسس بناء الدولة، وإنما كانت بداية لإقامة بنيان هذه الدولة ودعامات أساسية من دعائمها، ولقد رعاها النبي صلى الله عليه وسلم، وما زال يُقَعِّد لها ويُثَِّت قواعدها حتى استقرت ووضحت معالمُها والتي سار عليها بعد ذلك الخلفاء الراشدون.
إننا إذا أردنا أن نعيد للأمة تمكينها، وعزها وفخرها وقوتها ونصرها، لابد أن نعيد صياغة الإنسان أولا؛ لأن بناء الإنسان قبل بناء الأوطان..
ثم بعد ذلك لابد من العودة إلى العقيدة الصحيحة والمنهج الإسلامي العظيم، وترك مناهج الجاهلية وتصوراتها..
ثم بعد ذلك لابد من عودة الأخوة بين المسلمين جميعا، وترسيخ ذلك بين المؤمنين، وأن يكون المسلم أخا للمسلم «لا يَظْلِمُهُ، ولا يَخْذُلُهُ، ولا يَحْقِرُهُ»(رواه مسلم). وأن يعود «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كالْبُنْيانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»(رواه مسلم)، وأن ترجع إلى المسلمين روح الجسد الواحد، وأن «تَرَى المُؤْمِنِينَ في تَراحُمِهِمْ وتَوادِّهِمْ وتَعاطُفِهِمْ، كَمَثَلِ الجَسَدِ، إذا اشْتَكَى عُضْوًا تَداعَى له سائِرُ جَسَدِهِ بالسَّهَرِ والحُمَّى»(متفق عليه).
اللهم اجمع كلمة المسلمين، ووحد صفهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم.
- التصنيف: