وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ
قالت اليهود العزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، وقال بعض مشركي العرب الملائكة بنات الله.
{بسم الله الرحمن الرحيم }
{وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)}
{{وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً}} قالت اليهود العزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، وقال بعض مشركي العرب الملائكة بنات الله.
{{سُبْحَانَهُ}} تنزه وتقدس عن كل نقص، ومنه أن يكون له ولد. لأنه الغني بذاته عن جميع مخلوقاته؛ وهو سبحانه وتعالى مالك لجميع المخلوقات.
وفيه إشارة إلى أن الولدية نقص بالنسبة إلى الله تعالى، وإن كانت كمالا في الشاهد، لأنها إنما كانت كمالا في الشاهد من حيث إنها تسد بعض نقائصه عند العجز والفقر وتسد مكانه عند الاضمحلال، والله منزه عن جميع ذلك، فلو كان له ولد لآذن بالحدوث وبالحاجة إليه.
ولما كانت هذه المقالة من أفسد الأشياء وأوضحها في الاستحالة، أتى باللفظ الذي يقتضي التنزيه والبراءة من الأشياء التي لا تجوز على الله تعالى، قبل أن يضرب عن مقالتهم ويستدل على بطلان دعواهم.
وكان ذكر التنزيه أسبق، لأن فيه ردعاً لمدعي ذلك، وأنهم ادعوا أمراً تنزه الله عنه وتقدس، ثم أخذ في إبطال تلك المقالة فقال:
{{بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}} جميع ذلك مملوك له، ومن جملتهم من ادعوا أنه ولد الله، والولادة تنافي الملكية، لأن الوالد لا يملك ولده.
{{كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ}} خاضعون مطيعون تجري عليهم أقداره وتنفذ فيهم أحكامه. وهذه عادة المملوك، واستدل بنتيجة الطواعية على ثبوت الملكية. ومن كان بهذه الصفة لم يجانس الوالد، إذ الولد يكون من جنس الوالد... وهذا من الاستدلال بالعقل على كذب دعوى هؤلاء أن له سبحانه وتعالى ولداً.
قال ابن عاشور: حجة على انتفاء الولد لأن الخضوع من شعار العبيد أما الولد فله إدلال على الوالد وإنما يبر به ولا يقنت، فكان إثبات القنوت كناية عن انتفاء الولدية بانتفاء لازمها.
وفي الآية أن كل من في السموات والأرض قانت لله؛ والمراد القنوت العام ــــ وهو الخضوع للأمر الكوني؛ والقنوت يطلق على معنيين؛ معنى عام وخاص؛ «المعنى الخاص» هو قنوت العبادة والطاعة، كما في قوله تعالى: {{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ}} [الزمر:9]، وكما في قوله تعالى: {{وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}} [التحريم:12]، وكما في قوله تعالى: {{يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}} [آل عمران:43]
و«المعنى العام» هو قنوت الذل العام؛ وهذا شامل لكل من في السموات، والأرض، كما في هذه الآية: {{كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ}} ؛ حتى الكفار بهذا المعنى قانتون لله سبحانه وتعالى؛ لا يخرجون عن حكمه الكوني.
{{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}} موجدها على غير مثال سابق، ولهذا رتب نفي الولد على كونه بديع السماوات والأرض في سورة الأنعام [10] بقوله: {{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ}} .
وفيه كشف لشبهة النصارى الذين توهموا أن مجيء المسيح من غير أب دليل على أنه ابن الله، فبين الله تعالى أن تكوين أحوال الموجودات من لا شيء أعجب من ذلك، وأن كل ذلك راجع إلى التكوين والتقدير سواء في ذلك ما وجد بواسطة تامة أو ناقصة أو بلا واسطة قال تعالى: {{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}} [آل عمران:59] فليس تخلق عيسى من أم دون أب بموجب كونه ابن الله تعالى.
{{وَإِذَا قَضَى}} أراد أو حكم بإيجاد {{أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}} لما ذكر ما دل على الاختراع، ذكر ما يدل على طواعية المخترع وسرعة تكوينه.
قال الطبري: أمره للشيء بكن لا يتقدّم الوجود ولا يتأخر عنه، فلا يكون الشيء مأموراً بالوجود إلا وهو موجود بالأمر، ولا موجوداً بالأمر إلا وهو مأمور بالوجود.
فلما ذكر تعالى قولهم {{اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً}} نزّه نفسه عن هذا القول الباطل والفرية الممقوتة، ثم ذكر الأدلة المنطقية العقلية على بطلان تلك الدعوى من ستة أوجه:
الوجه الأول: في قوله تعالى: {{سُبْحَانَهُ}} ؛ فإن تنزهه عن النقص يقتضي أن يكون منزهاً عن اتخاذ الولد؛ لأن اتخاذ الولد يقصد به الإعانة، ودفع الحاجة، أو بقاء العنصر؛ والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك؛ ومنزه أيضاً عن المماثلة؛ ولو كان له ولد لكان مثيلاً له.
الوجه الثاني: في قوله تعالى: {{بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} } وعموم ملكه يستلزم استغناءه عن الولد.
الوجه الثالث: في قوله تعالى: {{بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}} والمملوك لا يكون ولداً للمالك؛ حتى إنه شرعاً إذا ملك الإنسان ولده يعتق عليه؛ فالمملوك لا يمكن أن يكون ولداً للمالك؛ فالله خالق؛ وما سواه مخلوق؛ فكيف يكون المخلوق ولداً للخالق!
الوجه الرابع: في قوله تعالى: {{كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ}} ؛ ووجهه أن العباد كلهم خاضعون ذليلون؛ وهذا يقتضي أنهم مربوبون لله عابدون له؛ والعبد لا يكون ولداً لربه.
الوجه الخامس: في قوله تعالى: {{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}} ؛ ووجهه أنه سبحانه وتعالى مبدع السموات والأرض؛ فالقادر على خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق إنساناً بلا أب، كما قال تعالى: {{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}} [غافر:57] .
الوجه السادس: في قوله تعالى: {{وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}} ؛ ومن كان هذه قدرته فلا يستحيل عليه أن يوجد ولداً بدون أب.
فبطلت شبهتهم التي يحتجون بها على أن لله ولداً.
وفي الحديث القدسي الصحيح الذي رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «(قَالَ اللَّهُ كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفْئًا أَحَدٌ)»
{{وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}} إن كان الموصول الجهلة من العرب، فنفى عنهم العلم، لأنهم لم يكن لهم كتاب، ولا هم أتباع نبوّة، وإن كان الموصول اليهود والنصارى، فنفى عنهم العلم، لانتفاء ثمرته، وهو الاتباع له والعمل بمقتضاه.
فكأنه قيل: وقال الذين ليسوا ممن له سجية في العلم لفرط غباوته، فهي مقالة صدرت ممن لا يتصف بتمييز ولا إدراك.
{{لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ}} بتصديق الرسل {{أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} } كآيات موسى وعيسى فى العصى وإحياء الموتى.. أرادوا مطلق آية فالتنكير للنوعية وحينئذ فهو مكابرة وجحود لما جاءهم من الآيات وحسبك بأعظمها وهو القرآن، وهم يحسبون أن الآيات هي عجائب الحوادث أو المخلوقات وما دروا أن الآية العلمية العقلية أوضح المعجزات لعمومها ودوامها وقد تحداهم الرسول بالقرآن فعجزوا عن معارضته وكفاهم بذلك آية لو كانوا أهل إنصاف.
{{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم}} من الأمم {{مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}} تماثلت قلوبهم في العمى والجهل والتعنت.
ومن المراد بالذين من قبلهم اليهود والنصارى فقد قال اليهود لموسى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] وسأل النصارى عيسى: {{هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ}} [المائدة:112]
وفي هذا الكلام تسلية للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن ما لقيه من قومه مثل ما لاقاه الرسل قبله.
وفي الآية أن أقوال أهل الباطل تتشابه؛ كقوله تعالى: {{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}} [الذاريات: 52-53]؛ وأنت لو تأملت الدعاوى الباطلة التي رد بها المشركون رسالة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من زمنه إلى اليوم لوجدت أنها متشابهة، كما قال تعالى: {{وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ}} [المطففين:32]؛ واليوم يقولون للمتمسكين بالقرآن والسنة، هؤلاء رجعيون؛ هؤلاء دراويش لا يعرفون شيئاً.
وفيها أيضا أن الأقوال تابعة لما في القلوب {{تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}} ؛ فلتشابه القلوب تشابهت الأقوال.
{{قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}} الإيقان: وصف في العلم يبلغ به نهاية الوثاقة في العلم، أي العلم الذي لا يخالجه شك، والمعنى: من كان موقناً، فقد أوضحنا له الآيات، فآمن بها، ووضحت عنده، وقامت به الحجة على غيره.. وجيء بالفعل المضارع في {يوقنون} لدلالته على التجدد والاستمرار كناية عن كون الإيمان خلقا لهم.
والآية تعليلا للإعراض عن جوابهم بأنهم غير أهل للجواب لأن أهل الجواب هم القوم الذين يوقنون، وقد بينت لهم آيات القرآن بما اشتملت عليه من الدلائل، وأما هؤلاء فليسوا أهلا للجواب لأنهم ليسوا بقوم يوقنون بل ديدنهم المكابرة.
فما أنزل الله تعالى وَبَيَّنُهُ في كتابه من الآيات الدالة على الإِيمان به ووجوب عبادته وتوحيده فيها، وعلى صدق نبيه في رسالته ووجوب الإِيمان به واتباعه، كاف ومغنٍ عن أية آية مادية يريدونها، ولكن القوم لكفرهم وعنادهم لم يروا في آيات القرآن ما يهديهم وذلك لعدم إيقانهم، والآيات يراها وينتفع بها الموقنون لا الشاكون المكذبون.
وفي البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(مَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ [ [فما من رسول إلا وله آية، فالله تعالى لا يرسل الرسل ويتركهم بدون تأييد] ]، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)» .
وفي الآية أن أهل الباطل يجادلون بالباطل؛ لأن طلبهم الآيات التي يعينونها ما هو إلا تعنت واستكبار؛ ففي الآيات التي جاءت بها الرسل ما يؤمن على مثلها البشر؛ ثم إنهم لو جاءت الآيات على ما اقترحوا لم يؤمنوا إذا حقت عليهم كلمة ربهم؛ لقوله تعالى: { {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} } [يونس:96-97].
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: