التفقه.. رحلة لا تنقضي

منذ 8 ساعات

فإن من أعظم ما يورثه الاشتغال بالعلم أن يبقى المرء متواضعًا له، مستزيدًا منه، مستشعرًا قصوره مهما بلغ، مدركًا أن ما بين يديه غيض من فيض، وأن أبواب الفتح لا تزال مشرعة لمن أخلص وتجرّد.

العلم بحر لا ساحل له، كلما ركب الإنسان لججه رأى من عجائبه ما يوقن معه أنه لا يزال على شاطئه، فالحال كما قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}، وقال سبحانه: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}، ولذا فلا يزال طالب العلم صادق الطلب في رحلته ما بقيت له أنفاس، يتنقل بين مجالس الشيوخ ومظان الكتب، ويزداد مع الأيام يقينًا أن العلم أكبر من أن يحيط به فرد، وأوسع من أن تحصره جيل أو مدرسة أو جماعة. ومن أجل ذلك قيل: "من المهد إلى اللحد"، و: "مع المحبرة إلى المقبرة"، وقيل: "فكم ترك السابق للاحق"، وكم ورثت الأجيال اللاحقة من كنوز لم تكن تخطر للأوائل على بال.


ولعل من أعظم ما يقطع على المرء طريقه في هذا الميدان أن يغتر بظن الكمال، فيحسب أنه قد بلغ في فنٍ الغاية، أو ظفر بفهم الواقع إلى النهاية، أو أحاط بجانبٍ إحاطةً تغنيه عن الاستزادة، فيقعد عن الطلب، ويفتر عن المتابعة، فتذبل معارفه شيئًا فشيئًا، وتتآكل علومه على مر الأيام، ويضعف إدراكه للواقع من حوله، وإن كان قد بلغ في الماضي ما بلغ، وأتقن ما أتقن.

وتشتد الخطورة إذا أصاب هذا الداء داعيةً يتعامل مع واقع متجدد، فيظن أنه قد أحاط بمداخله ومخارجه، وملك زمام مساربه وتفرعاته، فأخذ يمضي يحاكم أحداث اليوم المختلف والمستقبل المتبدل إلى مقاييس الماضي، ويزن المتغيرات الحاضرة والأحوال المتبدلة بقوانين الأمس. وعندها فقل: ما أشد الخلل في هذا؛ فإن النفوس تتبدل قبل الأحوال، والأحوال تتغير قبل المعطيات، والمستقبل تطرق متغيراته الأبواب بسرعة لا تُجارى، فكيف يُتصور أن تُنزَّل عليه مقاييس مضت وانقضت؟! دون وعي بأن قوانين الأمس – مهما كانت متينة – لا تنطبق بحرفها على حاضر اليوم، فضلا عن غدٍ الأصل فيه التبدل ولما يأتِ بعد.

وليست هذه دعوة إلى القطيعة مع الماضي، أو إلغاء رصيد الأمة من العلم والتجربة؛ فالأمور متصلة ومتراكبة والثوابت باقية ما بقي الدهر، والأطر العامة الحاكمة لا تتغير، وإنما هي دعوة إلى التواضع في النظر، والانكسار أمام سعة العلم وتجدد الواقع، وحثٌّ على ملازمة التلقي والنهل بلهفة، وإدراك أن العلم متوالد، ينبت بعضه من بعض، ويُفتح في كل عصر من الفروع والأصول ما لم يكن معلوما من قبل. ولكل زمان رجاله وصفاته، ومن لم يشابه رجاله في صفاتهم، ولم يشاركهم في علومهم وأدواتهم، وإن بلغ في الماضي ما بلغ، فلن يكون منهم ولن يُكتب له أثر بين في عصرهم.

وختامًا، فإن من أعظم ما يورثه الاشتغال بالعلم أن يبقى المرء متواضعًا له، مستزيدًا منه، مستشعرًا قصوره مهما بلغ، مدركًا أن ما بين يديه غيض من فيض، وأن أبواب الفتح لا تزال مشرعة لمن أخلص وتجرّد. ومن لزم هذا المسلك حُفظ من الغرور، وأُعين على الاستزادة وعمق البصيرة، ووُفق للجمع بين أصالة الميراث وتجدد النظر. فالعلم لا ينفد، والزمان لا يكرر نفسه، والسعيد من بقي في رحاب الطلب متعلّقًا بربه، متوجهًا إليه أن يهديه سواء السبيل. 

نسأل الله أن يرزقنا علما نافعا، وعملا صالحا، وبصيرة في الدين، وفهما لسنن الحياة، وتواضعا للحق حيث كان.
والله الهادي.

  • 0
  • 0
  • 41

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً