من سيؤهل علماء المستقبل؟!

منذ ساعتين

نلحظ غياب سلّم علمي واضح المعالم، يُرتقى فيه من التلقين إلى الفهم، ومن الفهم إلى التحقيق، ومن التحقيق إلى التأصيل والاجتهاد، وفق مسارات منضبطة تراعي الفروق، وتراكم الخبرات، وتحفظ هيبة التخصص وحرمة القول على الله ورسوله ﷺ بلا علم.

صحيح هو مجرد سؤال، ولكنه ليس عابرًا ولا بريئًا، إنه سؤال يتقدّم اليوم من هامش الاهتمام إلى صدارة الهمّ، ويضغط على الضمير العلمي للأمة في لحظة تاريخية دقيقة، تتشابك فيها الأزمات، وتختلط فيها الأولويات، ويكاد فيها البناء العميق أن يُستبدل بالاشتغال السريع، والتكوين الطويل بالاستجابة الظرفية.


وحين نتأمل المشهد العلمي الراهن، نلحظ توالي انحسار كراسي العلماء المتفرغين للتعليم، أولئك الذين كانت حياتهم وقفًا على بث العلم، وتوريث المنهج، وصناعة الملكات، لا على مجرد إلقاء المعلومة. 
ونلحظ غياب سلّم علمي واضح المعالم، يُرتقى فيه من التلقين إلى الفهم، ومن الفهم إلى التحقيق، ومن التحقيق إلى التأصيل والاجتهاد، وفق مسارات منضبطة تراعي الفروق، وتراكم الخبرات، وتحفظ هيبة التخصص وحرمة القول على الله ورسوله ﷺ بلا علم.

ويزيد الصورة تعقيدًا انشغال طائفة غير قليلة من المنتسبين إلى العلم الشرعي بقضايا السياسة العامة، وحماية حياض الأمة، ومناصرة قضاياها المصيرية، وهي قضايا جليلة لا يُنكر قدرها ولا يُزهد في شأنها، غير أن الإشكال كل الإشكال حين تتحول هذه القضايا – مع شرفها – إلى ما يزاحم مجالس التعليم، ويُفرغ الحلق العلمية، ويقطع سلسلة توريث التعليم المنهجي التي لا تقوم الأمة بغيرها. فالأمة التي لا تحسن توزيع الأدوار، ولا توازن بين واجب البناء وواجب البلاغ والمواجهة، تدفع الثمن مضاعفًا في المدى المتوسط والبعيد.


ثم تأتي كثير من الاتحادات والروابط العلمائية، وقد غلّبت – بحسن نية أحيانًا وبضغط الواقع أحيانًا أخرى – الدور الدعوي أو السياسي أو الإعلامي، على الوظائف العلمائية الأصيلة: التعليم، والتأهيل، والتحقيق، وصناعة العلماء ودراسة النوازل. فصار حضور العالم في المنصات أظهر من حضوره في الحلق، وصار البيان الجماهيري أسبق من الدرس المتدرج، وغابت – أو كادت – المشاريع الهادئة طويلة النفس التي لا تثمر إلا بعد سنين، لكنها إذا أثمرت أنجبت رجالًا يحملون العلم رسوخًا لا شعارًا.


ويُضاف إلى ذلك نظرة دونية مؤلمة إلى التعليم الشرعي في غير بيئة من بيئات المسلمين، حيث يُنظر إليه بوصفه مسارًا هامشيًا، أو خيار من لا خيار له، لا بوصفه عماد الهوية، وحارس الديانة، ومصدر أساس للوجود الحضاري.

ومع هذه النظرة، يضعف الإقبال الجاد، ويقلّ الدعم المؤسسي والمادي، وتُترك الكليات الشرعية والمعاهد العلمية تعاني من تحديات الإغلاق أو ضعف المناهج، أو تآكل المستوى، أو القطيعة بين التراث والواقع، وبين العمق العلمي ومتطلبات العصر.

وفي خضم هذا كله، يفرض السؤال نفسه بإلحاح لا يُدفع: كيف سيتم تأهيل علماء الشريعة في المستقبل؟ ومن الذي سيتولى هذه المهمة الجليلة؟
نعم، نحن على يقين تام بأن الله تعالى حافظ دينه، وأن هذا العلم لا يندرس ما دامت السماوات والأرض، لكن سنن الله جارية، وحفظه لدينه يكون برجال، وبأسباب، وبمشاريع، لا بالتواكل ولا بالاكتفاء بذلك الاطمئنان المجرد. واليقين بالحفظ لا يعفي من المسؤولية، بل يزيدها ثِقَلًا، لأن التقصير مع قيام الحجة أشد خطرًا.


إن هذه اللحظة الفارقة من تاريخ الأمة تستدعي وقفة صادقة، ومراجعة عميقة، وتوجيهًا واعيًا للجهود نحو بث العلم الشرعي بثًّا مؤسسيًا منظمًا، لا فرديًا موسميًا. تستدعي استعادة العلماء الربانيين لكراسيهم التعليمية، وإعادة الاعتبار لمجالس العلم بوصفها مصنع العلماء، لا مجرد نشاط من الأنشطة. وتستدعي وجود دوائر علمية متخصصة، وغرف تفكير مغلقة، في كل إقليم أو بلد من بلاد المسلمين، تضم نخبة من أهل الاختصاص، لرسم سلّم تعليمي واضح للتأهيل الشرعي، يراعي الواقع من غير أن يتنازل عن الأصول، ويخاطب العصر من غير أن يذوب فيه.


كما تستدعي تخطيطًا جادًا لإحياء هذا الجانب في كل بيئة بحسب حالها وإمكاناتها، سواء من خلال المساجد الجامعة، ودور التعليم الشرعي التقليدي التي أثبت التاريخ فاعليتها، أو من خلال مؤسسات التعليم الرسمي بعد إصلاح مناهجها، وربطها بالتحقيق العلمي، وتحرير الملكات، لا بالاكتفاء بالشهادات. ويأتي في القلب من ذلك كله رعاية النابهين، واكتشاف المواهب العلمية مبكرًا، وتصميم برامج تأهيل خاصة بهم، طويلة المدى، متعددة المراحل، يشرف عليها أهل الرسوخ والخبرة، في كل دولة من دول المسلمين.


إن صناعة العالم ليست حدثًا عابرًا، بل قاعدة النهوض ومسار حياة الأمة الصحيح، ولن تقوم بها جهود مرتجلة، بل مشاريع جماعية ناهضة. وإذا لم يُطرح هذا السؤال اليوم بجدية، ويُترجم إلى خطط عملية، فإن الفجوة بين الحاجة إلى العلماء، والواقع العلمي المتاح، ستتسع اتساعًا مقلقًا، وستدفع الأمة ثمن ذلك في وعيها، وفقهها، ووحدتها، وقدرتها على الثبات في وجه التحديات.
والله الهادي

  • 0
  • 0
  • 18

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً