فتاة نادمة بعد أن أمسك شاب بيدها
أذنبتُ ذنبًا، وأريد أن يتوبَ الله عليَّ، بدأ الأمرُ عندما تأخَّرْتُ عن المدرسةِ ولم أستطع الدُّخول، فقرَّرْتُ الدخول مِن باب خلفيٍّ، وكان معي شابٌّ وفتاتان، قَفَزْنا مِن على سور المدرسة الخلفي ولم يرَنا أحدٌ، لكن المشكلة عندما صعدتُ تعثَّرْتُ ولم أستطع القفْزَ، فمَسَك الشابُّ يدي مِن أجل المساعدة، ثم زادت المأساة وبعدما نزلتُ تعثَّرْتُ، وكدت أسقط، فمسك الشابُّ خِصري؛ خوفًا عليَّ من السقوط!
بعد الدخول إلى الفصل كنتُ كمَن استيقظ مِن غيبوبته؛ فماذا فعلتُ؟ وكيف تجرَّأْتُ أولًا على اختراق القانون؟ وثانيًا: على القفز مِن على السور؟ وثالثًا: على مَسْك يدَي الشاب بحجة مساعدته لي؟
ندمتُ أشد الندَم على ما فعلتُ، وبكيتُ كثيرًا، وابتعدتُ عن كل ما يُخِلُّ بالحياء والعفة، وصلَّيْتُ ركعتَيْنِ واستغفرت.
لكن كلما تذكرتُ ذنبي أجهش في البكاء، وأرى نفسي خائنةً، وأخاف ألا يعفوَ ربي عني، لا أجد الراحة النفسية التي عهِدْتُها، فماذا أفعل؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فبدايةً نُرَحِّب بك -ابنتنا الفاضلة- ونُبَشِّرك بأنَّ التواب ما سمى نفسه توابًا إلا ليتوبَ علينا، ولا سمى نفسه رحيمًا إلا ليرحمنا، ولا سمَّى نفسه غفورًا إلا ليغفرَ لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، بل إن العظيمَ الرحيمَ الغفورَ يفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه -سبحانه وتعالى- ولن يعدمَ الناس مِن ربٍّ يفرح بتوبة المذنبين خيرًا.
فتُوبي إلى الله -تبارك وتعالى- وأبشري، واعلمي بأن التوبة تَجُبُّ ما قبلها، وأن التائبة مِن الذنب كمَن لا ذنب لها، بل إن هذه المعصية التي تورث ذُلاًّ وانكسارًا قد تكون أفضل من طاعةٍ تُورث تكبُّرًا، وعُجبًا، وافتخارًا؛ فاحمدي الله -تبارك وتعالى- الذي بَصَّرَك وهداك، واعلمي أن الشيطانَ هو الذي يحزنك بهذا الكلام؛ لأن الشيطان حزينٌ لتوبتك، يُريدك أن تكوني على المعصية، فهذا العدُوُّ يحزن إذا تُبنا، ويندم إذا استغفرنا، ويبكي إذا سَجَدْنا لربِّنا، فعاملي هذا العدو بنقيض قصْدِه، وأقْبِلي على اللهِ - تبارك وتعالى - وجَدِّدي التوبة كلما حاول أن يجلبَ إليك اليأس مِن رحمة الله، واعلمي أن الله -تبارك وتعالى- غفَّارٌ، ليس مجرد أنه يغفر، بل غفارٌ صيغة مبالغةٍ، قال العظيمُ في كتابه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82].
ومهما كانت المعاصي التي وقع فيها الإنسانُ إذا تاب منها، فإنَّ الله يتوب عليه، والله -تبارك وتعالى- يقول في أعظم جريمة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، حتى المشرك إذا تاب، حتى اليهود والنصارى، قال لهم العظيم: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، وقال: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 74]، فمن الذي أقبل على الله ولم يقبله اللهُ؟! مَن الذي تاب إلى الله بصِدقٍ ولم يتبْ عليه؟! ومَن أتى العظيم يمشي أتاه هَرْوَلَة، ومَن تقرَّب إليه شبرًا، تقرَّبَ إليه ذراعًا، ومَن تقرَّب إليه ذراعًا تقرب العظيم إليه باعًا، يبسُط يده بالليل ليتوب مُسيء النهار، ويبسُط يده بالنهار؛ ليتوبَ مُسيء الليل، حتى تطلعَ الشمسُ مِن مغربها، {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 27، 28]، فالله أفرح بتوبة عبده إذا تاب، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25]، {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 17].
فتَعَوَّذي بالله مِن الشيطان الذي يريد أن يجلبَ لك اليأس، وتُوبي إلى الله -تبارك وتعالى- ولا تقِفي طويلًا أمام تلك الذِّكريات السالبة، وأقبلي على الحياة بأملٍ جديدٍ، وبثقةٍ في الله المجيد، استبدلي السيئات بالحسنات، وأكثري من الحسنات؛ فـ {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلاكِرِينَ} [هود: 114].
وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 135، 136].
فتأمَّلي كيف مدح الله تعالى هذا الصنف مِن الناس، الذين قد وقعوا في الحرام والفاحشة، غير أنهم تابوا ورجعوا إليه، فجزاهم الله، وقابَلَهم بسعة المغفرة، بل وبالجنات التي تجري مِن تحتها الأنهار؛ بسبب توبتِهم الصادقة.
وقد ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «
» (حسنه الألباني في صحيح الجامع).أما الشعور الذي تجدينه في نفسك مِن استعظامك للذنب، وهذا الندَم الذي تحسينه في قلبك فدليلٌ على صِدْقِ توبتك، وحُسن رجوعك إلى الله، وهذا هو الذي ينبغي أن يكونَ عليه العبدُ المؤمنُ، رجَّاعًا توَّابًا إلى ربه، فأبشري -إن شاء الله تعالى– بالرحمة، والمغفرة الواسعة؛ والمقصود: أنك بِنَدَمِك وحسرتك على هذه الخطيئة تكونين - بإذن الله - قد فعلت الواجب الذي يلزمك أن تحرصي عليه، وتُبادري إليه، غير أنك -وفي الوقت نفسه- لا بد أن تكوني خائفةً وحَذِرةً مِن عقاب الله، فلا بد أن تجمعي بين أمرين اثنين: حسن الظن بالله، وسعة رحمته، وأيضًا الحذر والخوف مِن عقابه، بل إن هذا هو الواجب على كل مسلمٍ، أن يجمعَ بين الخوف مِن الله، والرجاء في رحمته - تبارك وتعالى.
وتأمَّلي -أيتها الصغيرة- ما روى البخاري عن عبد الله بن مسعود، قال: "إنَّ المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل، يخاف أن يقعَ عليه، وإن الفاجرَ يرى ذنوبه كذبابٍ مرَّ على أنفه فقال به هكذا، قال أبو شهاب: بيده فوق أنفه".
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (11/ 105) -: "والحكمةُ في التمثيل بالجبل أن غيره مِن المهلكات قد يحصل التسبب إلى النجاة منه، بخلاف الجبل إذا سقط على الشخص لا ينجو منه عادةً، وحاصِلُه أن المؤمنَ يغلب عليه الخوف لقوة ما عنده من الإيمان، فلا يأمن العقوبة بسببها، وهذا شأن المسلم أنه دائم الخوف والمراقَبة، يستصغر عمله الصالح، ويخشى مِن صغير عمله السيئ، قوله: "وإنَّ الفاجر يرى ذنوبه كذباب"؛ أي: ذنبه سَهْلٌ عنده، لا يعتقد أنه يحصُلُ له بسببه كبير ضررٍ، كما أن ضرر الذباب عنده سهْلٌ، وكذا دفعه عنه...، قال المُحِبُّ الطبري: إنما كانتْ هذه صفة المؤمن؛ لشدة خوفه مِن الله، ومن عقوبته؛ لأنه على يقين مِن الذنب، وليس على يقين من المغفرة، والفاجرُ قليل المعرفة بالله؛ فلذلك قلَّ خَوْفُه، واستهان بالمعصية، وقال ابن أبي جمرة: السببُ في ذلك أن قلْبَ الفاجر مُظْلِمٌ؛ فوقوعُ الذنب خفيفٌ عنده؛ ولهذا تجد مَن يقع في المعصية إذا وعظ يقول: هذا سهلٌ، قال: ويستفاد من الحديث أن قلة خوف المؤمن ذنوبه، وخفته عليه يدلُّ على فجوره". اهـ.
نسأل الله لك التوفيق والسداد.
- التصنيف:
- المصدر: