كيف يكون الرجوع إلى الله عن اقتناع؟
عندما تَسُدُّ الدنيا أبوابَها في وجه الإنسان، فهل يكون الرجوعُ إلى الله عن اقتناعٍ؟
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعدُ:
فالرجوعُ إلى الله مِن أوجب الواجبات -دائمًا- لا سيما إذا سُدَّتْ جميعُ الأبواب، بل إن الحكمة البالغةَ مِن تلك السدة، وغلْقِ الأبواب بالمصائب والفقر والمرض والآفات، هي فرارُ العبد لسيده ومولاه، ولجوءُه للركن الشديد عند الشدة التي هي رحمةٌ من الله بعباده الغافلين؛ لتوقظَ ضمائرهم؛ كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}[الأنعام: 42 - 44]؛ أي: يدعون اللهَ ويتضرَّعون إليه ويخشعون؛ كما في تفسير ابن كثير (3/ 256).
وقال الأستاذ سيد قطب في "ظلال القرآن" (2/ 1088- 1091): "إنها المواجهة بنموذجٍ مِن بأس الله سبحانه، نموذجٍ من الواقع التاريخي، نموذجٍ يعرض ويُفَسِّر كيف يتعرض الناسُ لبأس الله؟ وكيف تكون عاقبة تعرُّضهم له؟ وكيف يمنحهم الله الفرصة بعد الفرصة، ويسوق إليهم التنبيه بعد التنبيه، فإذا نسوا ما ذُكِّروا به، ولم تُوجههم الشدة إلى التوجه إلى الله والتضرُّع له، ولم توجههم النعمة إلى الشكر والحذر من الفتنة، كانتْ فطرتهم قد فسدت الفساد الذي لا يُرجى معه صلاحٌ، وكانتْ حياتهم قد فسدت الفساد الذي لا تصلُح معه للبقاء؛ فحقتْ عليهم كلمة الله، ونزل بساحتهم الدمارُ الذي لا تنجو منه ديار!
لقد أخَذَهم اللهُ بالبأساء والضَّرَّاء؛ ليرجعوا إلى أنفسهم، ويُنَقّبوا في ضمائرهم، وفي واقعهم؛ لعلهم تحت وطأة الشدة يتضرَّعون إلى الله، ويتذلَّلون له، وينزلون عن عنادهم واستكبارهم، ويدعون الله أن يرفعَ عنهم البلاء بقلوبٍ مخلصةٍ، فيرفع الله عنهم البلاء، ويفتح لهم أبواب الرحمة.
ولكنهم لم يفعلوا ما كان حريًّا أن يفعلوا؛ لم يلجؤوا إلى الله، ولم يرجعوا عن عِنادِهم، ولم ترُدّ إليهم الشدةُ وَعْيهم، ولم تفتحْ بصيرتهم، ولم تَلِنْ قلوبهم، وكان الشيطانُ من ورائهم يُزَيِّن لهم ما هم فيه مِن الضلال والعناد؛ {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43]، والقلب الذي لا ترُدُّه الشدةُ إلى الله قلبٌ تحجَّر، فلم تعدْ فيه نداوةٌ تعصرها الشدةُ! ومات فلم تعد الشدةُ تُثير فيه الإحساس! وتعطلتْ أجهزة الاستقبال الفطرية فيه، فلم يعدْ يستشعر هذه الوخزة الموقِظة، التي تُنَبِّه القلوب الحية للتلقي والاستجابة، والشدةُ ابتلاءٌ مِن الله للعبد؛ فمن كان حيًّا أيقظتْه، وفتحتْ مغاليق قلبه، وردتْه إلى ربه، وكانتْ رحمةً له من الرحمة التي كتبها اللهُ على نفسه، ومن كان ميتًا حسبتْ عليه ولم تفده شيئًا، وإنما أسقطتْ عُذْره وحجته، وكانتْ عليه شقوةً، وكانتْ موطئةً للعذاب!
وهذه الأممُ التي يقصُّ الله -سبحانه- من أنبائها على رسوله - صلى الله عليه وسلم- ومَن وراءه من أمته - لم تفدْ مِن الشدة شيئًا؛ لم تتضرعْ إلى الله، ولم ترجعْ عما زيَّنه لها الشيطانُ من الإعراض والعناد، وهنا يُملي لها الله - سبحانه - ويستدرجها بالرخاء". ا.هـ مختصرًا.
وقد ذكر العلَّامة ابن القيِّم في "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل" (ص: 222- 223) أكثر من أربعين وجهًا من حِكَم خَلْق الشر الذي هو السبب الرئيس في انسداد الأبواب؛ فقال في الوجه الثامن عشر:
"إنَّ مِن عبوديته العتْق، والصدقة، والإيثار، والمواساة، والعفو، والصفح، والصبر، وكظم الغيظ، واحتمال المكاره، ونحو ذلك مما لا يتم إلا بوجود متعلّقِه وأسبابه، فلو لم تحصلْ عبودية العتق، فالرِّقُّ مِن أثر الكفر، ولولا الظلمُ والإساءةُ والعدوانُ لم تحصلْ عبودية الصبر والمغفرة وكظم الغيظ، ولولا الفقرُ والحاجة لم تحصلْ عبودية الصدقة، والإيثار، والمواساة، فلو سوى بين خلقه جميعهم، لتعطَّلَتْ هذه العبوديات التي هي أحبُّ شيءٍ إليه، ولأجلها خلق الجن والإنس، ولأجلها شرع الشرائع، وأنزل الكتب، وأرسل الرُّسُل، وخلَق الدنيا والآخرة، وكما أن ذلك مِن صفات كماله، فلو لم يقدر الأسباب التي يحصل بها ذلك لغاب هذا الكمال، وتعطلتْ أحكام تلك الصفات؛ كما مرَّ توضيحه.
الوجه التاسع عشر: أنه - سبحانه - يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه أعظم فرحٍ يقدر أو يخطر ببالٍ، أو يدور في خلدٍ، وحصولُ هذا الفرح موقوفٌ على التوبة الموقوفة على وجود ما يُتاب منه، وما يتوقف عليه الشيء لا يوجد بدونه؛ فإن وجود الملزوم بدون لازمه محالٌ، ولا ريب أن وجود الفرح أكمل مِن عدمه، فمن تمام الحكمة تقديرُ أسبابه ولوازمه، وقد نبه أعلمُ الخلق بالله على هذا المعنى بعينه؛ حيث يقول في الحديث الصحيح: «
» (رواه مسلم)، فلو لم يُقَدِّر الذنوب والمعاصي فلِمَنْ يغفر؟ وعلى مَن يتوب؟ وعمن يعفو، ويسقط حقه، ويظهر فضله، وجوده، وحلمه، وكرمه، وهو واسع المغفرة؟ فكيف يعطل هذه الصفة؟ أم كيف يتحقق بدون ما يغفر؟ ومن يغفر له؟ ومن يتوب؟ وما يتاب عنه؟ فلو لم يكن في تقدير الذنوب والمعاصي والمخالفات إلا هذا وحده، لكفى به حكمةً وغايةً محمودةً، فكيف والحكم والمصالح والغايات المحمودة التي في ضمن هذا التقدير فوق ما يخطر بالبال؟!".شرح الله صدرك وعصمنا الله وإياك مِن نزَغات الشيطان.
- التصنيف:
- المصدر: