وقفات عند أحاديث الفتن والملاحم (7) تحدثنا في الحلقة الماضية عن بعض جوانب تعامل أهل السنة ...

وقفات عند أحاديث الفتن والملاحم (7)



تحدثنا في الحلقة الماضية عن بعض جوانب تعامل أهل السنة والجماعة مع قضية ظهور المهدي، من حيث إثبات أئمة أهل السنة لهذه القضية، قبولا للخبر الوارد بذلك عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتصحيحهم لبعض الأحاديث في هذا الشأن، وبيان أنه في عقيدة أهل السنة يخرج في آخر الزمان، وأنه غير عيسى ابن مريم، عليه السلام.

ومن يراجع مواقف أئمة السنة من هذه القضية يجد أنها لم تأخذ حيزا كبيرا من كلامهم، ويلحظ فقرا في التصنيف في هذا الباب مما وصل إلينا من كتبهم، بل إننا لا نجازف إن قلنا أن حجم اهتمامهم بهذه القضية لا يتعدى تبليغ ما ورد من العلم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تأديةً للأمانة، والتحقق من صحة ادعاءات من زعم أنه المهدي، من خلال مطابقة صفاته الشخصية، وصفة ظهوره، والحال التي يخرج فيها مع ما ورد في ذلك من أخبار صحيحة، وكذلك أداء واجب في الرد على بعض من ضلَّ في هذا الباب، خاصة أن هذه القضية لا ينبني عليها عمل إلا بعد تحقق الأخبار الواردة فيها.

أما إذا خرجنا من دائرة أهل العلم هؤلاء وأتباعهم، فإننا نجد عند كثير من المنتسبين إلى الإسلام اهتماما كبيرا بقضية خروج المهدي، يبلغ عند بعضهم حد الهوس، وصارت عند بعضهم من أصول الدين التي تنبني عليها أحكام مبتدَعة يلتزمونها، وهي الأساس في قيام بعض الطوائف الخارجة عن الإسلام بالكلية.

ومن يراجع التاريخ يرى عجبا، من التأثير الذي لعبته هذه القضية في مختلف جوانب حياة الناس، الدينية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، فما من زمن خلا من دَعِيٍّ يزعم أنه المهدي، يجتمع حوله طائفة من الأتباع، يستقل بهم عن الناس، بل سجلت كتب التاريخ وجود عدد من أدعياء المهدوية متزامنين أحيانا في الوقت، بل ومتجاورين أحيانا في المكان، وربما تصارعا على حيازة هذا اللقب المزعوم، وتقاتل أتباع كل منهما ليحقق كل فريق الغلبة لمن بايعه مهديا.
ولعل الله أن ييسر لنا -سبحانه- تفسير هذا الافتتان من الناس بأدعياء المهدوية على مَرِّ التاريخ، وشغف كثير من الناس لتصديق أي مدَّعٍ لهذه الصفة، رغبة منهم في تحقيق هذه النبوءة، ودخولهم فيما تضمَّنته من مبشرات، أكثر من كونها تعصُّبا للأدعياء في بعض الأحيان، معتمدين في ذلك على ما ورد في الأخبار التي تعلَّق بها الناس.


• الظروف المصاحبة لظهوره:

إن الظلم والجور مكروهان إلى النفوس، وخاصة إذا وجد الإنسان في نفسه عجزا عن رفعهما، لأن لا طاقة له بمن سلَّط الظلم عليه أو على قومه، ولذلك فإن النفوس التي تميل إلى الإيمان بالخالق القادر على كل شيء -جل جلاله- تترقب منه النصر على الظالمين، وبما أن من أخبار المهدي، أنه (... يخرج رجل من عِترتي فيملؤها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وعدوانا) [رواه أحمد]، فإن الناس في كل العصور، كلما وقع عليهم ما يرونه ظلما لم يقع على أحد قبلهم فإنهم كانوا يتمنَّون خروج المهدي ليرفع الله به هذا الظلم، بل يترقبون ذلك، اعتمادا على التلازم بين فُشُوِّ الظلم، وإخراج الله -تعالى- له.


• صفة حُكْمه:

وبما أن هذا الرجل المهدي يترقبه الناس ليرفع الظلم، فلا يُتصور منه أن يحكم هو بالظلم بعد أن يرفعه الله به، بل سيكون حكمه موافقا لمنهاج النبوة الذي لا يرضى المسلمون بغيره، ويكون حكمه قويا بحيث يمكِّنه الله من بسط حكم الإسلام في الأرض، فإنه (يعمل في الناس بسنة نبيهم، ويلقي الإسلام بجرانه في الأرض) [رواه أبو داود]، ويعين الله -تعالى- هذا الحاكم بما أنزل الله على أن (يملأ الأرض قسطا وعدلا، كما مُلئت جورا وظلما) [رواه أبو داود]، ويؤتي دولته من الغنى ما لم ير مثله، (فتَنعَم فيه أمتي نعمة لم ينعموا مثلها قط، تؤتي أكلها، ولا تدَّخر منه شيئا، والمال يومئذ كدوس) [رواه ابن ماجه]، ويزيد من بركة غنى دولته أنه جواد على الناس، يعطيهم مما أعطاه الله عطاء بغير عدٍّ، (فيجيء إليه الرجل فيقول: يا مهدي أعطني، أعطني، فيحثو له في ثوبه ما استطاع أن يحمله) [رواه الترمذي].

ولا غرابة في أن كل إنسان سَوِيٍّ تطمح نفسه إلى رؤية العدل منتشرا في الأرض التي يسودها الإسلام، وتحكم بسنة خير الأنام، فلا يكون فيها خوف من ظلم، ولا فقر من مال.


• صفاته الشخصية:

وبالإضافة لما ذكرته الأخبار عن صفة حكمه، فإن من صفاته الشخصية ما يدفع طوائف من الناس إلى ترقب ظهوره بفارغ الصبر، لأنها تؤيد ما تعتقده هذه الطوائف في أمور مختلفة، ومن ذلك وصفه في الأخبار أنه: (من عترتي، أو من أهل بيتي) [رواه أحمد]، وهذا ما تعتمد عليه الرافضة في أصل دينها كله، وهو (عقيدة الإمامة)، التي قوامها أنه لا تصح إمامة المسلمين لغير رجل من آل بيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليحفظوا العدل ويقوموا بالسنة، وعندما لم يتحقق لهم هذا الأمر على مدى قرون، تمسكوا بقضية ظهور المهدي، ليبنوا على الأخبار الصحيحة فيها كمَّا كبيرا من الأكاذيب التي ينصرون بها دينهم، ويؤيدون بها بدعتهم، ويثبِّتون بها شيعتهم.

• صفة النفر الذين يبايعونه:

وكذلك فإن في الأخبار الواردة في تزكية القوم الذين يكونون معه دافعا قويا للناس، يُرغِّبهم في إدراك زمانه ليبايعوه، وينصروا الإسلام في جيشه، ومن ذلك بعض الأخبار الواردة في صفة الطائفة المنصورة، أنهم يقاتلون، وهم ظاهرون على الحق إلى يوم القيامة (فينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم: تعال صلِّ لنا، فيقول: لا، إن بعضكم لبعض أمير، تكرمة الله لهذه الأمة) [رواه مسلم]، وكذلك الأخبار الواردة في نصر الله لهذا المهدي ومن معه على عدوهم، كما في الحديث: (سيعوذ بهذا البيت -يعني الكعبة- قوم ليست لهم منعة، ولا عدد ولا عدة، يُبعث إليهم جيش، حتى إذا كانوا ببيداء خُسف بهم) [رواه مسلم].


• حشد الأنصار وتثبيتهم على الدعوات:

وبناء على كل ما سبق، فقد وجدت الطوائف والفرق والأحزاب المختلفة على مدى تاريخ الإسلام في أخبار المهدي وسيلة لحشد الأنصار، وتسلية نفوسهم حين تُلمُّ بهم الملمات، ويعجزوا عن تحقيق الغايات، وتثبيتهم عند فشلهم بأن ما يطمحون إليه لا يمكن أن يتحقق إلا على يد المهدي أو في زمانه، وأنهم بثباتهم مع هذه الطائفة أو تلك سيكونون من جنود المهدي الذين يقاتلون في جيشه، فيُمكِّنهم الله في الأرض، فيحكمونها بما يرونه على منهاج النبوة، ويملؤونها قسطا وعدلا، وينالون فيها أكداسا من المال، ومن أراد بهم سوءا فإن الله يخسف به الأرض، وهذا غير منهج أهل العزمات من أتباع المرسلين.


• أهل السنة قبل ظهور المهدي:

إن أهل السنة يطيعون الله فيما أمرهم في كل وقت وحين، فهُم كما قال نبيهم، عليه الصلاة والسلام: (لا يزالون يقاتلون على الحق، ظاهرين، إلى يوم القيامة) [رواه مسلم]، مع الأئمة المسلمين، ولو كانوا من أهل الجور والفجور، وإن عُدموا الأئمة لم ينقطع جهادهم لإقامة حكم الله في الأرض، والسعي في ملئها عدلا في كل حين.
فإن أظهر الله عبده المهدي، حين مشيئته سبحانه، فإنهم يبايعونه ويطيعونه، إذا ثبت انطباق الوصف الوارد في الأخبار الصحيحة عليه، وينصرونه في دعوته للخير، ويسمعون له ويطيعون في المعروف، ويقاتلون معه أهل الشرك، حتى يفتح الله لهم، فما هو في نظرهم إلا إمام من أئمة المسلمين يجب له ما يجب لكل من ولاه الله هذه الأمانة، ومن أبى أن يعطي هذه الحقوق لإمام شرعي، بحجج غير شرعية، فإنه يُستبعد أن يقبل إعطاءها لإمام آخر، سواء كان المهدي أم غيره من الأئمة المهتدين.


• استغلال أهل الضلال لأخبار المهدي:

في حين نجد أن الكثيرين من الأفراد والطوائف قد استغلوا أخبار المهدي لينتصروا بالمتشابه منها لما يزعمون من حق، وما يدعون إليه الناس من دعاوى، فقد كان كافيا بالنسبة إليهم أن يدَّعوا أن قائد دعوتهم هو (المهدي) ليجتذبوا بذلك الأنصار إلى القتال خلف هذا الإمام المزكَّى بزعمهم، الموعود بالنصر على أعدائه، وبالتمكين في الأرض، وهذا ما نجده في كثير من الدعوات الباطلة التي ظهرت على مدى الزمان، تزعَّم كثير منها أدعياء خدعوا الناس بمزاعم كاذبة، وجروا على المسلمين الويلات، بإجرامهم، وبدعهم، وضلالهم.

وفي الوقت نفسه نجد نفرا من الناس زعم أتباع كل منهم فيه أنه المهدي، ودفعوهم بذلك إلى التصدُّر وقيادة تحركاتهم، مرغمين أحيانا، أو لصق صفة المهدوية بهم حتى وإن أنكروها، للاستفادة من ذلك في نصرة ما ينتحلون من الأفكار، وما يطلبون من أهداف.

وهو ما سنضرب عليه -بإذن الله- الأمثلة الكثيرة من التاريخ، في الحلقة القادمة من هذه السلسلة.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 117
الخميس 15 جمادى الأولى 1439 ه‍ـ
...المزيد

وقفات عند أحاديث الفتن والملاحم (7) تحدثنا في الحلقة الماضية عن بعض جوانب تعامل أهل السنة ...

وقفات عند أحاديث الفتن والملاحم (7)

تحدثنا في الحلقة الماضية عن بعض جوانب تعامل أهل السنة والجماعة مع قضية ظهور المهدي، من حيث إثبات أئمة أهل السنة لهذه القضية، قبولا للخبر الوارد بذلك عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتصحيحهم لبعض الأحاديث في هذا الشأن، وبيان أنه في عقيدة أهل السنة يخرج في آخر الزمان، وأنه غير عيسى ابن مريم، عليه السلام.

ومن يراجع مواقف أئمة السنة من هذه القضية يجد أنها لم تأخذ حيزا كبيرا من كلامهم، ويلحظ فقرا في التصنيف في هذا الباب مما وصل إلينا من كتبهم، بل إننا لا نجازف إن قلنا أن حجم اهتمامهم بهذه القضية لا يتعدى تبليغ ما ورد من العلم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تأديةً للأمانة، والتحقق من صحة ادعاءات من زعم أنه المهدي، من خلال مطابقة صفاته الشخصية، وصفة ظهوره، والحال التي يخرج فيها مع ما ورد في ذلك من أخبار صحيحة، وكذلك أداء واجب في الرد على بعض من ضلَّ في هذا الباب، خاصة أن هذه القضية لا ينبني عليها عمل إلا بعد تحقق الأخبار الواردة فيها.

أما إذا خرجنا من دائرة أهل العلم هؤلاء وأتباعهم، فإننا نجد عند كثير من المنتسبين إلى الإسلام اهتماما كبيرا بقضية خروج المهدي، يبلغ عند بعضهم حد الهوس، وصارت عند بعضهم من أصول الدين التي تنبني عليها أحكام مبتدَعة يلتزمونها، وهي الأساس في قيام بعض الطوائف الخارجة عن الإسلام بالكلية.

ومن يراجع التاريخ يرى عجبا، من التأثير الذي لعبته هذه القضية في مختلف جوانب حياة الناس، الدينية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، فما من زمن خلا من دَعِيٍّ يزعم أنه المهدي، يجتمع حوله طائفة من الأتباع، يستقل بهم عن الناس، بل سجلت كتب التاريخ وجود عدد من أدعياء المهدوية متزامنين أحيانا في الوقت، بل ومتجاورين أحيانا في المكان، وربما تصارعا على حيازة هذا اللقب المزعوم، وتقاتل أتباع كل منهما ليحقق كل فريق الغلبة لمن بايعه مهديا.
ولعل الله أن ييسر لنا -سبحانه- تفسير هذا الافتتان من الناس بأدعياء المهدوية على مَرِّ التاريخ، وشغف كثير من الناس لتصديق أي مدَّعٍ لهذه الصفة، رغبة منهم في تحقيق هذه النبوءة، ودخولهم فيما تضمَّنته من مبشرات، أكثر من كونها تعصُّبا للأدعياء في بعض الأحيان، معتمدين في ذلك على ما ورد في الأخبار التي تعلَّق بها الناس.


• الظروف المصاحبة لظهوره:

إن الظلم والجور مكروهان إلى النفوس، وخاصة إذا وجد الإنسان في نفسه عجزا عن رفعهما، لأن لا طاقة له بمن سلَّط الظلم عليه أو على قومه، ولذلك فإن النفوس التي تميل إلى الإيمان بالخالق القادر على كل شيء -جل جلاله- تترقب منه النصر على الظالمين، وبما أن من أخبار المهدي، أنه (... يخرج رجل من عِترتي فيملؤها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وعدوانا) [رواه أحمد]، فإن الناس في كل العصور، كلما وقع عليهم ما يرونه ظلما لم يقع على أحد قبلهم فإنهم كانوا يتمنَّون خروج المهدي ليرفع الله به هذا الظلم، بل يترقبون ذلك، اعتمادا على التلازم بين فُشُوِّ الظلم، وإخراج الله -تعالى- له.


• صفة حُكْمه:

وبما أن هذا الرجل المهدي يترقبه الناس ليرفع الظلم، فلا يُتصور منه أن يحكم هو بالظلم بعد أن يرفعه الله به، بل سيكون حكمه موافقا لمنهاج النبوة الذي لا يرضى المسلمون بغيره، ويكون حكمه قويا بحيث يمكِّنه الله من بسط حكم الإسلام في الأرض، فإنه (يعمل في الناس بسنة نبيهم، ويلقي الإسلام بجرانه في الأرض) [رواه أبو داود]، ويعين الله -تعالى- هذا الحاكم بما أنزل الله على أن (يملأ الأرض قسطا وعدلا، كما مُلئت جورا وظلما) [رواه أبو داود]، ويؤتي دولته من الغنى ما لم ير مثله، (فتَنعَم فيه أمتي نعمة لم ينعموا مثلها قط، تؤتي أكلها، ولا تدَّخر منه شيئا، والمال يومئذ كدوس) [رواه ابن ماجه]، ويزيد من بركة غنى دولته أنه جواد على الناس، يعطيهم مما أعطاه الله عطاء بغير عدٍّ، (فيجيء إليه الرجل فيقول: يا مهدي أعطني، أعطني، فيحثو له في ثوبه ما استطاع أن يحمله) [رواه الترمذي].

ولا غرابة في أن كل إنسان سَوِيٍّ تطمح نفسه إلى رؤية العدل منتشرا في الأرض التي يسودها الإسلام، وتحكم بسنة خير الأنام، فلا يكون فيها خوف من ظلم، ولا فقر من مال.


• صفاته الشخصية:

وبالإضافة لما ذكرته الأخبار عن صفة حكمه، فإن من صفاته الشخصية ما يدفع طوائف من الناس إلى ترقب ظهوره بفارغ الصبر، لأنها تؤيد ما تعتقده هذه الطوائف في أمور مختلفة، ومن ذلك وصفه في الأخبار أنه: (من عترتي، أو من أهل بيتي) [رواه أحمد]، وهذا ما تعتمد عليه الرافضة في أصل دينها كله، وهو (عقيدة الإمامة)، التي قوامها أنه لا تصح إمامة المسلمين لغير رجل من آل بيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليحفظوا العدل ويقوموا بالسنة، وعندما لم يتحقق لهم هذا الأمر على مدى قرون، تمسكوا بقضية ظهور المهدي، ليبنوا على الأخبار الصحيحة فيها كمَّا كبيرا من الأكاذيب التي ينصرون بها دينهم، ويؤيدون بها بدعتهم، ويثبِّتون بها شيعتهم.

• صفة النفر الذين يبايعونه:

وكذلك فإن في الأخبار الواردة في تزكية القوم الذين يكونون معه دافعا قويا للناس، يُرغِّبهم في إدراك زمانه ليبايعوه، وينصروا الإسلام في جيشه، ومن ذلك بعض الأخبار الواردة في صفة الطائفة المنصورة، أنهم يقاتلون، وهم ظاهرون على الحق إلى يوم القيامة (فينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم: تعال صلِّ لنا، فيقول: لا، إن بعضكم لبعض أمير، تكرمة الله لهذه الأمة) [رواه مسلم]، وكذلك الأخبار الواردة في نصر الله لهذا المهدي ومن معه على عدوهم، كما في الحديث: (سيعوذ بهذا البيت -يعني الكعبة- قوم ليست لهم منعة، ولا عدد ولا عدة، يُبعث إليهم جيش، حتى إذا كانوا ببيداء خُسف بهم) [رواه مسلم].


• حشد الأنصار وتثبيتهم على الدعوات:

وبناء على كل ما سبق، فقد وجدت الطوائف والفرق والأحزاب المختلفة على مدى تاريخ الإسلام في أخبار المهدي وسيلة لحشد الأنصار، وتسلية نفوسهم حين تُلمُّ بهم الملمات، ويعجزوا عن تحقيق الغايات، وتثبيتهم عند فشلهم بأن ما يطمحون إليه لا يمكن أن يتحقق إلا على يد المهدي أو في زمانه، وأنهم بثباتهم مع هذه الطائفة أو تلك سيكونون من جنود المهدي الذين يقاتلون في جيشه، فيُمكِّنهم الله في الأرض، فيحكمونها بما يرونه على منهاج النبوة، ويملؤونها قسطا وعدلا، وينالون فيها أكداسا من المال، ومن أراد بهم سوءا فإن الله يخسف به الأرض، وهذا غير منهج أهل العزمات من أتباع المرسلين.


• أهل السنة قبل ظهور المهدي:

إن أهل السنة يطيعون الله فيما أمرهم في كل وقت وحين، فهُم كما قال نبيهم، عليه الصلاة والسلام: (لا يزالون يقاتلون على الحق، ظاهرين، إلى يوم القيامة) [رواه مسلم]، مع الأئمة المسلمين، ولو كانوا من أهل الجور والفجور، وإن عُدموا الأئمة لم ينقطع جهادهم لإقامة حكم الله في الأرض، والسعي في ملئها عدلا في كل حين.
فإن أظهر الله عبده المهدي، حين مشيئته سبحانه، فإنهم يبايعونه ويطيعونه، إذا ثبت انطباق الوصف الوارد في الأخبار الصحيحة عليه، وينصرونه في دعوته للخير، ويسمعون له ويطيعون في المعروف، ويقاتلون معه أهل الشرك، حتى يفتح الله لهم، فما هو في نظرهم إلا إمام من أئمة المسلمين يجب له ما يجب لكل من ولاه الله هذه الأمانة، ومن أبى أن يعطي هذه الحقوق لإمام شرعي، بحجج غير شرعية، فإنه يُستبعد أن يقبل إعطاءها لإمام آخر، سواء كان المهدي أم غيره من الأئمة المهتدين.


• استغلال أهل الضلال لأخبار المهدي:

في حين نجد أن الكثيرين من الأفراد والطوائف قد استغلوا أخبار المهدي لينتصروا بالمتشابه منها لما يزعمون من حق، وما يدعون إليه الناس من دعاوى، فقد كان كافيا بالنسبة إليهم أن يدَّعوا أن قائد دعوتهم هو (المهدي) ليجتذبوا بذلك الأنصار إلى القتال خلف هذا الإمام المزكَّى بزعمهم، الموعود بالنصر على أعدائه، وبالتمكين في الأرض، وهذا ما نجده في كثير من الدعوات الباطلة التي ظهرت على مدى الزمان، تزعَّم كثير منها أدعياء خدعوا الناس بمزاعم كاذبة، وجروا على المسلمين الويلات، بإجرامهم، وبدعهم، وضلالهم.

وفي الوقت نفسه نجد نفرا من الناس زعم أتباع كل منهم فيه أنه المهدي، ودفعوهم بذلك إلى التصدُّر وقيادة تحركاتهم، مرغمين أحيانا، أو لصق صفة المهدوية بهم حتى وإن أنكروها، للاستفادة من ذلك في نصرة ما ينتحلون من الأفكار، وما يطلبون من أهداف.

وهو ما سنضرب عليه -بإذن الله- الأمثلة الكثيرة من التاريخ، في الحلقة القادمة من هذه السلسلة.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 117
الخميس 15 جمادى الأولى 1439 ه‍ـ
...المزيد

هو أعلم بمن اتَّقَى كتب الله -تعالى- لدينه النصر والتأييد من عنده سبحانه، وجعل لذلك الأسباب من ...

هو أعلم بمن اتَّقَى

كتب الله -تعالى- لدينه النصر والتأييد من عنده سبحانه، وجعل لذلك الأسباب من عنده سبحانه، فهو ينصر دينه وعباده المؤمنين بما شاء وكيف شاء، فقد قال تعالى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح: 4]، وقال جل جلاله: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر: 31].

فمن تلك الجنود ما لا تخطئه العين، ومنها ما لا يدركه إلا من أنار الله بصيرته ليطلعه عليه، ومن ذلك تأييد هذا الدين بأفراد وأقوام لا يُتوقع أن تكون منهم نصرة له، ولا أن يأتي النصر والمدد من قبلهم، ولكن الله الحكيم العليم، يسخِّرهم لخدمة هذا الدين، فيجعل على أيديهم من الفتح ما لا يكون على أيدي غيرهم، وقد لا يجعل لهؤلاء نصيبا من ثواب النصرة، لأنهم لم يحققوا شروط استحقاق الثواب الأخروي من الله سبحانه، وإن كان لا يبعد أن يثيبهم عليه شيئا من حطام الدنيا الذي يرجونه، ثم يأتون يوم القيامة وليس لهم جزاء يرجونه من رب العالمين.


• إنه من أهل النار:

في الصحيح، من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قوله: شهدنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حُنَيْناً، فقال لرجل ممن يُدعى بالإسلام: (هذا من أهل النار)، فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالا شديدا، فأصابته جراحة، فقيل: يا رسول الله، الرجل الذي قلت له آنفا: (إنه من أهل النار)، فإنه قاتل اليوم قتالا شديدا، وقد مات، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (إلى النار)، فكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فبينما هم على ذلك إذ قيل: إنه لم يمت، ولكن به جراحا شديدا، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح، فقتل نفسه، فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فقال: (الله أكبر، أشهد أني عبد الله ورسوله)، ثم أمر بلالاً فنادى في الناس: (أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وأن الله يُؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) [متفق عليه].

وفي هذا الحديث دليل واضح على ما أسلفنا من القول، فهذا الرجل الذي أحسن به الصحابة الظن، لحسن بلائه في القتال ضد أعداء الله، وهو من أعظم القربات إلى الله ولا شك، ثم تأتي الأخبار بموته على ذلك، فيكون ظاهره بذلك من الشهداء الذين ثبت أنهم من أصحاب الجنة، ثم يتعارض هذا كله مع شهادة النبي -عليه الصلاة والسلام- له بالنار، حتى يحسم رسول الله -تعالى- القضية، بتنبيه المسلمين إلى أمر هام، وهو أن الرجل وإن كان في عمله نصرة للدين وتأييد له، فإنه قد لا ينتفع من ذلك بشيء، ويكون ما أسلفه من خير فللإسلام والدين، وما فعله من شر فعلى نفسه.


• إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ:

وفي هذا الحديث السابق إشارة واضحة إلى خطأ من اعتمد في تزكية الناس تزكية مطلقة على بعض ما قاموا به من نصرة لهذا الدين، وحسن بلاء في الذود عنه، وتعرض للابتلاء من قبل أعدائه، إذ في النهاية المُعوَّل عليه في ذلك كله تقوى الله تعالى، كما قال سبحانه: {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، وقوله، جل جلاله: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} [التوبة: 53]، وهذه التقوى التي هي الفيصل في قبول العمل مما لا يطلع عليه إلا هو، كما قال سبحانه: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32].

وكذلك فإن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن، ولا يعلم مآلات الناس وبِمَ يُختم لهم في هذه الحياة غيره سبحانه، وقد يصنع العبد من الأعمال الصالحة ما لو مات عليه لكان من أهل الجنة، لكونها مما يغفر الله بها خطاياه، ويكفِّر بها سيِّئاته، ويرفع بها درجاته، وهذا حال من أراد الله به خيرا من الناس، ولكن هناك أيضا من تطول به الحياة إلى أن ينكص على عقبيه، ويرتد على أدباره، فيضيع أجر ما عمل من عمل صالح، بوقوعه في كفرٍ يُحبط عمله كله مهما كان عظيما، فيجعله الله -تعالى- هباء منثورا، كما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) [رواه البخاري].

• لا يشكرُ اللهَ من لا يشكرُ الناسَ:

إن ما ذكرناه آنفا من حسن الظن بالنفس أو بالغير بسبب بعض الأعمال الصالحة التي يُيَسرها الرب -جل جلاله- لعبيده، ويوفقهم إليها، ويعينهم عليها، لا يعني بحال أن ينقلب المرء إلى غلو في اتجاه مخالف، بأن يغمط الناس أعمالهم، وأن يتهمهم في نياتهم، فإن هذا ليس من سبيل المؤمنين في شيء، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79]، بل السنة بخلاف ذلك كليا، ومن يراجع علاقة النبي -عليه الصلاة والسلام- مع الناس يجد هذا واضحا جليا، فقد كان منهجه في ذلك قوله: (لا يشكرُ اللهَ من لا يشكرُ الناسَ) [رواه أحمد].

ولذلك نجد له مواقف كثيرة يشير فيها إلى حسن صنيع بعض صحابته الكرام، مُنبِّها إلى فضلهم في ذلك، ودالّاً الناس على اتباعهم في هذا العمل، ومحببا إليهم النشاط فيه، والإكثار منه، كما في قوله لسعد -رضي الله عنه- يوم أحد: (ارم سعد، فداك أبي وأمي) [رواه أحمد]، لما أعظم النكاية في المشركين بسهامه، وكما قال بعد موقعة أخرى مع المشركين: (كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة) [رواه مسلم]، وقوله لعثمان -رضي الله عنه- لما بذل ألف دينار للإنفاق على جيش العسرة: (ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم) [رواه الترمذي]، وقال لحسان بن ثابت -رضي الله عنه- لما ردَّ على قريش طعنهم في الله ورسوله: (هَجَاهُم حسان، فشفى، واشتفى) [رواه مسلم]، وشهد لأهل بدر أن لهم فضلا عن العالمين بقوله: (وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) [رواه البخاري]، وغيره كثير في سنته، عليه الصلاة والسلام.


• وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ:

فالسنة في الأمر عند النظر في الأعمال الصالحة التي يقوم بها غيره، أن يشكره على هذه الأعمال، ويذكر فضله فيها إن تطلب الأمر، ما لم تخش الفتنة عليه أو على غيره بذلك، وأن يسعى الإمام أو من ينوب عنه إلى مكافأته عليه، وذلك كله دون أن يؤدي ذلك إلى غلو في محبة هذا الفاعل للخير أو تعظيمه، تُفضي إلى الفتنة به على الدين، فيصبح هذا العمل الصالح الذي قام به دَيناً على المسلمين لا يوفون حقه إلا أن يصيروا تبعا لهذا الفاعل للخير، ويكون منَّة عليهم لا يتحللون منها حتى يرث الله الأرض ومن عليها، بل لله -تعالى- المنُّ في ذلك كله على العبد أن يسَّر له طريق الخير وأعانه عليه، كما قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17].

ولا يتجرَّأن أحد فيستشهد بحديث (ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم) في تزكية من يحبُّ من الناس بناء على فعل قام به، فإنه كلام في الخواتيم التي لا يعلمها إلا الله، وأما عثمان فإنه مشهود له بالجنة، شهد له بها من يتنزل عليه الوحي من فوق سبع سماوات، فأين من يدَّعي في نفسه شبها بالشاهد، أو فيمن يزكيه شبها بالمشهود له، هيهات.

وأما الإنسان ونفسه، فيحذر كل الحذر من أن يعجبه عمل صالح دلَّه الله عليه، ووفقه إليه، مهما عظمت قيمة هذا العمل في موازين الناس، وفي ميزان الله تعالى، وعليه أن ينسب الفضل في هذا العمل كله لله، جل جلاله، ويتخذه قربة منه، ووسيلة إليه، وإن كان هذا العمل فتحا من أعظم الفتوح ونصرا من أعظم الانتصارات، فلن يبلغ بحال فتح مكة وتطهير جزيرة العرب من الشرك، فلم يكن من أعظم الفاتحين -عليه الصلاة والسلام- ذلك اليوم، إلا أن يدخل المدينة متذللا لله العظيم، مسبحا له، مستغفرا لذنبه، كما أمره.

وليخش كل امرئ إن رأى من نفسه إعجابا بفعل قام به كان فيه نصر للدين، أو إعزاز لكلمة التوحيد، أن يكون حاله كذلك الرجل الفاجر، الذي منعه ضرره على نفسه أن ينتفع بشيء مما نفع به هذا الدين، وحكم عليه رسول الله -عليه الصلاة والسلام- أنه من أهل النار. نعوذ بالله أن نكون من أمثاله وسائرُ المسلمين، والحمد لله رب العالمين.

• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 117
الخميس 15 جمادى الأولى 1439 ه‍ـ
...المزيد

هو أعلم بمن اتَّقَى كتب الله -تعالى- لدينه النصر والتأييد من عنده سبحانه، وجعل لذلك الأسباب من ...

هو أعلم بمن اتَّقَى

كتب الله -تعالى- لدينه النصر والتأييد من عنده سبحانه، وجعل لذلك الأسباب من عنده سبحانه، فهو ينصر دينه وعباده المؤمنين بما شاء وكيف شاء، فقد قال تعالى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح: 4]، وقال جل جلاله: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر: 31].

فمن تلك الجنود ما لا تخطئه العين، ومنها ما لا يدركه إلا من أنار الله بصيرته ليطلعه عليه، ومن ذلك تأييد هذا الدين بأفراد وأقوام لا يُتوقع أن تكون منهم نصرة له، ولا أن يأتي النصر والمدد من قبلهم، ولكن الله الحكيم العليم، يسخِّرهم لخدمة هذا الدين، فيجعل على أيديهم من الفتح ما لا يكون على أيدي غيرهم، وقد لا يجعل لهؤلاء نصيبا من ثواب النصرة، لأنهم لم يحققوا شروط استحقاق الثواب الأخروي من الله سبحانه، وإن كان لا يبعد أن يثيبهم عليه شيئا من حطام الدنيا الذي يرجونه، ثم يأتون يوم القيامة وليس لهم جزاء يرجونه من رب العالمين.


• إنه من أهل النار:

في الصحيح، من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قوله: شهدنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حُنَيْناً، فقال لرجل ممن يُدعى بالإسلام: (هذا من أهل النار)، فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالا شديدا، فأصابته جراحة، فقيل: يا رسول الله، الرجل الذي قلت له آنفا: (إنه من أهل النار)، فإنه قاتل اليوم قتالا شديدا، وقد مات، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (إلى النار)، فكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فبينما هم على ذلك إذ قيل: إنه لم يمت، ولكن به جراحا شديدا، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح، فقتل نفسه، فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فقال: (الله أكبر، أشهد أني عبد الله ورسوله)، ثم أمر بلالاً فنادى في الناس: (أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وأن الله يُؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) [متفق عليه].

وفي هذا الحديث دليل واضح على ما أسلفنا من القول، فهذا الرجل الذي أحسن به الصحابة الظن، لحسن بلائه في القتال ضد أعداء الله، وهو من أعظم القربات إلى الله ولا شك، ثم تأتي الأخبار بموته على ذلك، فيكون ظاهره بذلك من الشهداء الذين ثبت أنهم من أصحاب الجنة، ثم يتعارض هذا كله مع شهادة النبي -عليه الصلاة والسلام- له بالنار، حتى يحسم رسول الله -تعالى- القضية، بتنبيه المسلمين إلى أمر هام، وهو أن الرجل وإن كان في عمله نصرة للدين وتأييد له، فإنه قد لا ينتفع من ذلك بشيء، ويكون ما أسلفه من خير فللإسلام والدين، وما فعله من شر فعلى نفسه.


• إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ:

وفي هذا الحديث السابق إشارة واضحة إلى خطأ من اعتمد في تزكية الناس تزكية مطلقة على بعض ما قاموا به من نصرة لهذا الدين، وحسن بلاء في الذود عنه، وتعرض للابتلاء من قبل أعدائه، إذ في النهاية المُعوَّل عليه في ذلك كله تقوى الله تعالى، كما قال سبحانه: {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، وقوله، جل جلاله: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} [التوبة: 53]، وهذه التقوى التي هي الفيصل في قبول العمل مما لا يطلع عليه إلا هو، كما قال سبحانه: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32].

وكذلك فإن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن، ولا يعلم مآلات الناس وبِمَ يُختم لهم في هذه الحياة غيره سبحانه، وقد يصنع العبد من الأعمال الصالحة ما لو مات عليه لكان من أهل الجنة، لكونها مما يغفر الله بها خطاياه، ويكفِّر بها سيِّئاته، ويرفع بها درجاته، وهذا حال من أراد الله به خيرا من الناس، ولكن هناك أيضا من تطول به الحياة إلى أن ينكص على عقبيه، ويرتد على أدباره، فيضيع أجر ما عمل من عمل صالح، بوقوعه في كفرٍ يُحبط عمله كله مهما كان عظيما، فيجعله الله -تعالى- هباء منثورا، كما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) [رواه البخاري].

• لا يشكرُ اللهَ من لا يشكرُ الناسَ:

إن ما ذكرناه آنفا من حسن الظن بالنفس أو بالغير بسبب بعض الأعمال الصالحة التي يُيَسرها الرب -جل جلاله- لعبيده، ويوفقهم إليها، ويعينهم عليها، لا يعني بحال أن ينقلب المرء إلى غلو في اتجاه مخالف، بأن يغمط الناس أعمالهم، وأن يتهمهم في نياتهم، فإن هذا ليس من سبيل المؤمنين في شيء، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79]، بل السنة بخلاف ذلك كليا، ومن يراجع علاقة النبي -عليه الصلاة والسلام- مع الناس يجد هذا واضحا جليا، فقد كان منهجه في ذلك قوله: (لا يشكرُ اللهَ من لا يشكرُ الناسَ) [رواه أحمد].

ولذلك نجد له مواقف كثيرة يشير فيها إلى حسن صنيع بعض صحابته الكرام، مُنبِّها إلى فضلهم في ذلك، ودالّاً الناس على اتباعهم في هذا العمل، ومحببا إليهم النشاط فيه، والإكثار منه، كما في قوله لسعد -رضي الله عنه- يوم أحد: (ارم سعد، فداك أبي وأمي) [رواه أحمد]، لما أعظم النكاية في المشركين بسهامه، وكما قال بعد موقعة أخرى مع المشركين: (كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة) [رواه مسلم]، وقوله لعثمان -رضي الله عنه- لما بذل ألف دينار للإنفاق على جيش العسرة: (ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم) [رواه الترمذي]، وقال لحسان بن ثابت -رضي الله عنه- لما ردَّ على قريش طعنهم في الله ورسوله: (هَجَاهُم حسان، فشفى، واشتفى) [رواه مسلم]، وشهد لأهل بدر أن لهم فضلا عن العالمين بقوله: (وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) [رواه البخاري]، وغيره كثير في سنته، عليه الصلاة والسلام.


• وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ:

فالسنة في الأمر عند النظر في الأعمال الصالحة التي يقوم بها غيره، أن يشكره على هذه الأعمال، ويذكر فضله فيها إن تطلب الأمر، ما لم تخش الفتنة عليه أو على غيره بذلك، وأن يسعى الإمام أو من ينوب عنه إلى مكافأته عليه، وذلك كله دون أن يؤدي ذلك إلى غلو في محبة هذا الفاعل للخير أو تعظيمه، تُفضي إلى الفتنة به على الدين، فيصبح هذا العمل الصالح الذي قام به دَيناً على المسلمين لا يوفون حقه إلا أن يصيروا تبعا لهذا الفاعل للخير، ويكون منَّة عليهم لا يتحللون منها حتى يرث الله الأرض ومن عليها، بل لله -تعالى- المنُّ في ذلك كله على العبد أن يسَّر له طريق الخير وأعانه عليه، كما قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17].

ولا يتجرَّأن أحد فيستشهد بحديث (ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم) في تزكية من يحبُّ من الناس بناء على فعل قام به، فإنه كلام في الخواتيم التي لا يعلمها إلا الله، وأما عثمان فإنه مشهود له بالجنة، شهد له بها من يتنزل عليه الوحي من فوق سبع سماوات، فأين من يدَّعي في نفسه شبها بالشاهد، أو فيمن يزكيه شبها بالمشهود له، هيهات.

وأما الإنسان ونفسه، فيحذر كل الحذر من أن يعجبه عمل صالح دلَّه الله عليه، ووفقه إليه، مهما عظمت قيمة هذا العمل في موازين الناس، وفي ميزان الله تعالى، وعليه أن ينسب الفضل في هذا العمل كله لله، جل جلاله، ويتخذه قربة منه، ووسيلة إليه، وإن كان هذا العمل فتحا من أعظم الفتوح ونصرا من أعظم الانتصارات، فلن يبلغ بحال فتح مكة وتطهير جزيرة العرب من الشرك، فلم يكن من أعظم الفاتحين -عليه الصلاة والسلام- ذلك اليوم، إلا أن يدخل المدينة متذللا لله العظيم، مسبحا له، مستغفرا لذنبه، كما أمره.

وليخش كل امرئ إن رأى من نفسه إعجابا بفعل قام به كان فيه نصر للدين، أو إعزاز لكلمة التوحيد، أن يكون حاله كذلك الرجل الفاجر، الذي منعه ضرره على نفسه أن ينتفع بشيء مما نفع به هذا الدين، وحكم عليه رسول الله -عليه الصلاة والسلام- أنه من أهل النار. نعوذ بالله أن نكون من أمثاله وسائرُ المسلمين، والحمد لله رب العالمين.

• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 117
الخميس 15 جمادى الأولى 1439 ه‍ـ
...المزيد

سبب نزول لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ...

سبب نزول
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ


قال الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95].

والآية تتحدث عن الفرق العظيم بين المؤمن القاعد عن الجهاد في سبيل الله، والمجاهد بماله ونفسه، لكنها استثنت من هذا التفريق (أولي الضرر)، ولنزول هذا التفريق سبب بيَّنته الأحاديث.

فعن ابن شهاب قال: حدثني سهل بن سعد الساعدي أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد، قال: فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أملى عليه: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملها علي، قال: يا رسول الله والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت، وكان أعمى، فأنزل الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي ثم سُرِّي عنه فأنزل الله: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [رواه البخاري].

وفي رواية أخرى عن أبي إسحاق عن البراء -رضي الله عنه- قال: لما نزلت {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زيدا فكتبها فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته فأنزل الله {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}.

ورغم عفو الله تعالى عن أولي الضرر، فإن ابن أم مكتوم رضي الله عنه، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أنزل الله تعالى بسبب قصته معه قوله: {عبس وتولى * أن جاءه الأعمى} [عبس: 1-2]، وأول المهاجرين إلى المدينة، وخليفة رسول الله على المدينة في غزوة بدر، رغم عذره، أبت نفسه إلا أن يطلب منازل المجاهدين، وأن تغبر قدمه في سبيل الله، فقد شهد له الصحابة أنه شارك في القادسية، عليه درع حصينة سابغة، ومعه الراية، كما جاءت بذلك الروايات.

فما للأصحاء يرضون بالقعود، ويزهدون بما أعده الله تعالى للمجاهدين في سبيله.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 117
الخميس 15 جمادى الأولى 1439 ه‍ـ
...المزيد

سبب نزول لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ...

سبب نزول
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ


قال الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95].

والآية تتحدث عن الفرق العظيم بين المؤمن القاعد عن الجهاد في سبيل الله، والمجاهد بماله ونفسه، لكنها استثنت من هذا التفريق (أولي الضرر)، ولنزول هذا التفريق سبب بيَّنته الأحاديث.

فعن ابن شهاب قال: حدثني سهل بن سعد الساعدي أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد، قال: فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أملى عليه: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملها علي، قال: يا رسول الله والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت، وكان أعمى، فأنزل الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي ثم سُرِّي عنه فأنزل الله: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [رواه البخاري].

وفي رواية أخرى عن أبي إسحاق عن البراء -رضي الله عنه- قال: لما نزلت {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زيدا فكتبها فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته فأنزل الله {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}.

ورغم عفو الله تعالى عن أولي الضرر، فإن ابن أم مكتوم رضي الله عنه، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أنزل الله تعالى بسبب قصته معه قوله: {عبس وتولى * أن جاءه الأعمى} [عبس: 1-2]، وأول المهاجرين إلى المدينة، وخليفة رسول الله على المدينة في غزوة بدر، رغم عذره، أبت نفسه إلا أن يطلب منازل المجاهدين، وأن تغبر قدمه في سبيل الله، فقد شهد له الصحابة أنه شارك في القادسية، عليه درع حصينة سابغة، ومعه الراية، كما جاءت بذلك الروايات.

فما للأصحاء يرضون بالقعود، ويزهدون بما أعده الله تعالى للمجاهدين في سبيله.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 117
الخميس 15 جمادى الأولى 1439 ه‍ـ
...المزيد

أمريكا وشركاؤها المتشاكسون قبل أيام خرج وزير خارجية أمريكا ليعلن أن استمرار الوجود الأمريكي في ...

أمريكا وشركاؤها المتشاكسون


قبل أيام خرج وزير خارجية أمريكا ليعلن أن استمرار الوجود الأمريكي في الشام ضروري، لمنع "الدولة الإسلامية من الظهور مجددا"، وهو يقصد استعادتها للمناطق التي انحاز عنها جنودها خلال الفترة الماضية، مؤكدا أن الانسحاب الأمريكي من العراق كان هو السبب وراء ما كان، من انهيار للجيش الرافضي، وفتح من الله، منَّ به على جنود الدولة الإسلامية في نينوى وبقية أرض العراق.

وبحسب هذه العقيدة الجديدة، فإن الاعتماد على "الشركاء المحليين" لم يعد مجديا في منع المسلمين من إقامة دينهم، خاصة بعد أن أظهرت الوقائع أن هؤلاء "الشركاء" غير قادرين على حماية أنفسهم، وبالتالي، صار من الواجب على الجيش الأمريكي أن يقيم بالقرب من "شركائه" لا ليحميهم من هجوم المجاهدين عليهم وحسب، ولكن أيضا ليعلم "الشركاء" أن الطائرات الأمريكية الرابضة في ظهورهم، ليست فقط لتمهيد الأرض أمامهم إن أمروا بالتقدم، ولكنها أيضا جاهزة لإبادتهم بالنيران "الصديقة" والقصف "الخاطئ" إن فكروا بالهروب والانسحاب، كما حدث مرارا في معارك الموصل وغيرها من المعارك بين جنود الخلافة وأعدائهم من المشركين.

وكانت فكرة الاعتماد على "الشركاء" في الحرب ضد المجاهدين قد جاءت بعد خمس سنوات من العجز الأمريكي في حرب العراق، فكان أساس الخطة الجديدة يقوم على ضرورة جذب أطراف من العراق للمساهمة في هذه الحرب، سواء للدلالة على عورات المجاهدين، أو للقتال المباشر ضدهم لإخراجهم من المناطق التي يعجز الجيش الأمريكي عن دخولها إلى المناطق المفتوحة التي يسهل التوغل فيها أو تغطيتها من الجو، أو لمجرد إمساك الأرض التي سينسحب منها المجاهدون لمنعهم من العودة إليها، وكان أهم المدعوين إلى "الشراكة" في هذه الخطة، الميليشيات الرافضية، والفصائل المسلحة المرتدة، والمرتدون من العشائر.

ولما بدأ المجاهدون حملتهم الدموية لإبادة "شركاء" أمريكا، وقطف رؤوس أكابر المرتدين، لم تلتفت أمريكا لأخبار المذبحة التي بدأت تحل بـ "الشركاء المحليين"، ولا لتوصيات صاحب أمرهم (بترايوس) بضرورة أن تعقب مرحلة إخلاء الأرض من المجاهدين، مساع للحفاظ عليها، ومنعهم من العودة إلى السيطرة فيها، بل استعجلت الإدارة الأمريكية تحقيق حلم الانسحاب الآمن من العراق، تاركة "الشركاء" فريسة لكواتم الأمنيين وعبواتهم، ولأحزمة الاستشهاديين وعرباتهم، ومداهمات صيادي الصحوات وبَيَاتهم، لتنكسر -بفضل الله- شوكة "شركاء" أمريكا من الصحوات المرتدة، ويصبحوا مطاردين في الأرض التي تعهدوا لأمريكا بأن لا يطأها مجاهد، ولا ترفع في سمائها راية أنار سوادَ خامتها بياض شهادة التوحيد.

ولم يقتصر الفعل في إبادة الصحوات على أيدي الدولة الإسلامية، إذ كان لهؤلاء المرتدين منافسون أقوياء من "شركاء أمريكا" لا يقبلون لأنفسهم منافسا في هذا المجال، أو منازعا لهم على السلطة والمال، وهم الروافض، الذين حسدوا المرتدين المنتسبين إلى أهل السنة على حظوتهم لدى "شركائهم" الأمريكيين، فشنوا عليهم حرب استئصال، فمن لم يكن اسمه موجودا في قوائم القتل التي وضعتها "فرق الموت" الرافضية، وجد اسمه في قوائم المطلوبين للاعتقال تحت "المادة 4 إرهاب"، فإما أن يدخل سجون المالكي، أو يسعفه الهرب فيعيش منفيا حياة اللجوء في إحدى دول الجوار، وفي ظل هذا المتسع من الوقت، والتوفير في الجهد، الذي أوجده تنافس "شركاء أمريكا" وجد المجاهدون الفرصة سانحة للإجهاز عليهم، فمكَّنهم الله من الصحوات، وكادوا أن يكسروا شوكة الرافضة، لولا أن تداركتهم أمريكا وحلفاؤها، ويقضي الله أمرا كان مفعولا.

وهكذا أكد "شريك أمريكا" في خراسان، وطاغوت أفغانستان (أشرف غني) أن حكومته وجيشه سرعان ما سينهاران إذا ما قررت أمريكا الانسحاب من البلاد، محذرا إياهم من نموذج انهيار مماثل لما حل بـ "شركاء" آخرين لأمريكا على أيدي جنود الدولة الإسلامية، الذين بات لهم -بفضل الله- القدم الراسخة والقبضة القوية في أرض خراسان.

وكما أن "عقيدة بترايوس" التي كانت الأساس في تبني "الشركاء المحليين" لم توأد على أيدي المجاهدين فحسب، وإنما شارك في إهالة التراب عليها منافسون له داخل الإدارة الأمريكية، فإن أمريكا ستجبر على التخلي عن عقيدتها الجديدة، لا بهزيمة عملائها -الذين تسميهم "شركاء"- على أيدي جنود الخلافة فحسب، ولكن أيضا بسبب التنازع والصراع الوجودي بين عملاء أمريكا وحلفائها في كل مكان، وما الصراع بين مرتدي الترك ومرتدي الكرد، وبين طواغيت أفغانستان وباكستان عنا ببعيد، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 117
الخميس 15 جمادى الأولى 1439 ه‍ـ
...المزيد

أمريكا وشركاؤها المتشاكسون قبل أيام خرج وزير خارجية أمريكا ليعلن أن استمرار الوجود الأمريكي في ...

أمريكا وشركاؤها المتشاكسون


قبل أيام خرج وزير خارجية أمريكا ليعلن أن استمرار الوجود الأمريكي في الشام ضروري، لمنع "الدولة الإسلامية من الظهور مجددا"، وهو يقصد استعادتها للمناطق التي انحاز عنها جنودها خلال الفترة الماضية، مؤكدا أن الانسحاب الأمريكي من العراق كان هو السبب وراء ما كان، من انهيار للجيش الرافضي، وفتح من الله، منَّ به على جنود الدولة الإسلامية في نينوى وبقية أرض العراق.

وبحسب هذه العقيدة الجديدة، فإن الاعتماد على "الشركاء المحليين" لم يعد مجديا في منع المسلمين من إقامة دينهم، خاصة بعد أن أظهرت الوقائع أن هؤلاء "الشركاء" غير قادرين على حماية أنفسهم، وبالتالي، صار من الواجب على الجيش الأمريكي أن يقيم بالقرب من "شركائه" لا ليحميهم من هجوم المجاهدين عليهم وحسب، ولكن أيضا ليعلم "الشركاء" أن الطائرات الأمريكية الرابضة في ظهورهم، ليست فقط لتمهيد الأرض أمامهم إن أمروا بالتقدم، ولكنها أيضا جاهزة لإبادتهم بالنيران "الصديقة" والقصف "الخاطئ" إن فكروا بالهروب والانسحاب، كما حدث مرارا في معارك الموصل وغيرها من المعارك بين جنود الخلافة وأعدائهم من المشركين.

وكانت فكرة الاعتماد على "الشركاء" في الحرب ضد المجاهدين قد جاءت بعد خمس سنوات من العجز الأمريكي في حرب العراق، فكان أساس الخطة الجديدة يقوم على ضرورة جذب أطراف من العراق للمساهمة في هذه الحرب، سواء للدلالة على عورات المجاهدين، أو للقتال المباشر ضدهم لإخراجهم من المناطق التي يعجز الجيش الأمريكي عن دخولها إلى المناطق المفتوحة التي يسهل التوغل فيها أو تغطيتها من الجو، أو لمجرد إمساك الأرض التي سينسحب منها المجاهدون لمنعهم من العودة إليها، وكان أهم المدعوين إلى "الشراكة" في هذه الخطة، الميليشيات الرافضية، والفصائل المسلحة المرتدة، والمرتدون من العشائر.

ولما بدأ المجاهدون حملتهم الدموية لإبادة "شركاء" أمريكا، وقطف رؤوس أكابر المرتدين، لم تلتفت أمريكا لأخبار المذبحة التي بدأت تحل بـ "الشركاء المحليين"، ولا لتوصيات صاحب أمرهم (بترايوس) بضرورة أن تعقب مرحلة إخلاء الأرض من المجاهدين، مساع للحفاظ عليها، ومنعهم من العودة إلى السيطرة فيها، بل استعجلت الإدارة الأمريكية تحقيق حلم الانسحاب الآمن من العراق، تاركة "الشركاء" فريسة لكواتم الأمنيين وعبواتهم، ولأحزمة الاستشهاديين وعرباتهم، ومداهمات صيادي الصحوات وبَيَاتهم، لتنكسر -بفضل الله- شوكة "شركاء" أمريكا من الصحوات المرتدة، ويصبحوا مطاردين في الأرض التي تعهدوا لأمريكا بأن لا يطأها مجاهد، ولا ترفع في سمائها راية أنار سوادَ خامتها بياض شهادة التوحيد.

ولم يقتصر الفعل في إبادة الصحوات على أيدي الدولة الإسلامية، إذ كان لهؤلاء المرتدين منافسون أقوياء من "شركاء أمريكا" لا يقبلون لأنفسهم منافسا في هذا المجال، أو منازعا لهم على السلطة والمال، وهم الروافض، الذين حسدوا المرتدين المنتسبين إلى أهل السنة على حظوتهم لدى "شركائهم" الأمريكيين، فشنوا عليهم حرب استئصال، فمن لم يكن اسمه موجودا في قوائم القتل التي وضعتها "فرق الموت" الرافضية، وجد اسمه في قوائم المطلوبين للاعتقال تحت "المادة 4 إرهاب"، فإما أن يدخل سجون المالكي، أو يسعفه الهرب فيعيش منفيا حياة اللجوء في إحدى دول الجوار، وفي ظل هذا المتسع من الوقت، والتوفير في الجهد، الذي أوجده تنافس "شركاء أمريكا" وجد المجاهدون الفرصة سانحة للإجهاز عليهم، فمكَّنهم الله من الصحوات، وكادوا أن يكسروا شوكة الرافضة، لولا أن تداركتهم أمريكا وحلفاؤها، ويقضي الله أمرا كان مفعولا.

وهكذا أكد "شريك أمريكا" في خراسان، وطاغوت أفغانستان (أشرف غني) أن حكومته وجيشه سرعان ما سينهاران إذا ما قررت أمريكا الانسحاب من البلاد، محذرا إياهم من نموذج انهيار مماثل لما حل بـ "شركاء" آخرين لأمريكا على أيدي جنود الدولة الإسلامية، الذين بات لهم -بفضل الله- القدم الراسخة والقبضة القوية في أرض خراسان.

وكما أن "عقيدة بترايوس" التي كانت الأساس في تبني "الشركاء المحليين" لم توأد على أيدي المجاهدين فحسب، وإنما شارك في إهالة التراب عليها منافسون له داخل الإدارة الأمريكية، فإن أمريكا ستجبر على التخلي عن عقيدتها الجديدة، لا بهزيمة عملائها -الذين تسميهم "شركاء"- على أيدي جنود الخلافة فحسب، ولكن أيضا بسبب التنازع والصراع الوجودي بين عملاء أمريكا وحلفائها في كل مكان، وما الصراع بين مرتدي الترك ومرتدي الكرد، وبين طواغيت أفغانستان وباكستان عنا ببعيد، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 117
الخميس 15 جمادى الأولى 1439 ه‍ـ
...المزيد

حسن الخلق إن المنزلة العظيمة التي خصَّ الله -تعالى- بها صاحب الخلق الحسن، والمكافأة الكبيرة ...

حسن الخلق


إن المنزلة العظيمة التي خصَّ الله -تعالى- بها صاحب الخلق الحسن، والمكافأة الكبيرة التي أعدها الله له لَتجعلُنا متحفزين متنبهين لمعرفتها وسبل بلوغها، والسعي لتحقيق ذلك.

فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سُئل رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ما أكثر ما يُدخل الجنة؟ قال: (تقوى الله، وحسن الخلق)، قال: وما أكثر ما يُدخل النار؟ قال: (الأجوفان: الفم والفرج) [رواه البخاري في الأدب المفرد].

وعنه قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصلاة والصوم) [رواه الترمذي].

وعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وألطفهم بأهله) [رواه أحمد].

وعن جابر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا) [رواه الترمذي].

قال عبد الله بن المبارك واصفا حسن الخلق: هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكفُّ الأذى.

وقال آخر: هو التحرز من الشح والبخل والغضب، والتشديد في المعاملات، والتحبب إلى الناس بالقول والفعل، والسماحة وترك التقاطع والهجران والتساهل في العقود.

والصبر والحلم والأناة والتواضع مقدمات لا غنى عنها للخلق الحسن، فإن لم يكن للمرء صبر على الأذى، وحلم على الإساءة، وتفكر في الأمور ونظر في عواقبها، وأناة في القيام بها فليس باستطاعته أن يكون من أصحاب الخلق الحسن.

وقال الطبري في تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]: "أي افعل هذا الذي أمرتك به يا محمد من دفع سيئة المسيء إليك بإحسانك الذي أمرتك به إليه، فيصير المسيء إليك الذي بينك وبينه عداوة، كأنه من ملاطفته إياك وبرِّہ لك، وليٌّ لك من بني أعمامك، وقوله تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]. أي لا يُعطَى دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا لله على المكاره، والأمور الشاقة، وذو حظ عظيم أي ذو جِدٍّ" [تفسير الطبري].

وفي تفسير قوله: {وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [فصلت: 36]: "يقول -تعالى- وإما يُلقِيَنَّ الشيطان يا محمد في نفسك وَسوَسة من حديث النفس إرادة حملك على مجازاة المسيء بالإساءة، ودعائك إلى إساءته، فاستجر بالله واعتصم من خطواته، إن الله هو السميع لاستعاذتك منه واستجارتك به من نزغاته" [تفسير الطبري].

تذكر أخي أن الأخلاق الحسنة أمر يمكن اكتسابه بالتدرب، وهو يحتاج إلى النباهة وتجنب الغفلة، وإلى ضبط النفس، وكظم الغضب والابتعاد عنه ما أمكن، وإن أفضل ما يساعدك على ذلك الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم عند الغضب، أو تلقي الإساءة.

أخي المجاهد، إن أفضل وأتم تَمثُّلٍ بالخلق الحسن هو التمثل بأخلاق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وليكن هدفك الأول من التمثل بأخلاقه -صلى الله عليه وسلم- مرضاة الله تعالى، وتذكر أن الله -عز وجل- يرضى لك ذلك ويحبه، فأره منك ما يحب، وليكن الطمع فيما عند الله دافعا لك.

اعلم أخي المجاهد أن هذه المرتبة العظيمة التي خصَّ الله بها صاحب الخلق الحسن تستحق منك البذل والجهد والعناء في سبيل تحقيقها، فاستعن بالله وراقب أقوالك وأفعالك واحرص أن تكون على هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كي تكون من أقرب الناس منه مجلسا يوم القيامة.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 117
الخميس 15 جمادى الأولى 1439 ه‍ـ
...المزيد

حسن الخلق إن المنزلة العظيمة التي خصَّ الله -تعالى- بها صاحب الخلق الحسن، والمكافأة الكبيرة ...

حسن الخلق


إن المنزلة العظيمة التي خصَّ الله -تعالى- بها صاحب الخلق الحسن، والمكافأة الكبيرة التي أعدها الله له لَتجعلُنا متحفزين متنبهين لمعرفتها وسبل بلوغها، والسعي لتحقيق ذلك.

فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سُئل رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ما أكثر ما يُدخل الجنة؟ قال: (تقوى الله، وحسن الخلق)، قال: وما أكثر ما يُدخل النار؟ قال: (الأجوفان: الفم والفرج) [رواه البخاري في الأدب المفرد].

وعنه قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصلاة والصوم) [رواه الترمذي].

وعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وألطفهم بأهله) [رواه أحمد].

وعن جابر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا) [رواه الترمذي].

قال عبد الله بن المبارك واصفا حسن الخلق: هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكفُّ الأذى.

وقال آخر: هو التحرز من الشح والبخل والغضب، والتشديد في المعاملات، والتحبب إلى الناس بالقول والفعل، والسماحة وترك التقاطع والهجران والتساهل في العقود.

والصبر والحلم والأناة والتواضع مقدمات لا غنى عنها للخلق الحسن، فإن لم يكن للمرء صبر على الأذى، وحلم على الإساءة، وتفكر في الأمور ونظر في عواقبها، وأناة في القيام بها فليس باستطاعته أن يكون من أصحاب الخلق الحسن.

وقال الطبري في تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]: "أي افعل هذا الذي أمرتك به يا محمد من دفع سيئة المسيء إليك بإحسانك الذي أمرتك به إليه، فيصير المسيء إليك الذي بينك وبينه عداوة، كأنه من ملاطفته إياك وبرِّہ لك، وليٌّ لك من بني أعمامك، وقوله تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]. أي لا يُعطَى دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا لله على المكاره، والأمور الشاقة، وذو حظ عظيم أي ذو جِدٍّ" [تفسير الطبري].

وفي تفسير قوله: {وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [فصلت: 36]: "يقول -تعالى- وإما يُلقِيَنَّ الشيطان يا محمد في نفسك وَسوَسة من حديث النفس إرادة حملك على مجازاة المسيء بالإساءة، ودعائك إلى إساءته، فاستجر بالله واعتصم من خطواته، إن الله هو السميع لاستعاذتك منه واستجارتك به من نزغاته" [تفسير الطبري].

تذكر أخي أن الأخلاق الحسنة أمر يمكن اكتسابه بالتدرب، وهو يحتاج إلى النباهة وتجنب الغفلة، وإلى ضبط النفس، وكظم الغضب والابتعاد عنه ما أمكن، وإن أفضل ما يساعدك على ذلك الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم عند الغضب، أو تلقي الإساءة.

أخي المجاهد، إن أفضل وأتم تَمثُّلٍ بالخلق الحسن هو التمثل بأخلاق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وليكن هدفك الأول من التمثل بأخلاقه -صلى الله عليه وسلم- مرضاة الله تعالى، وتذكر أن الله -عز وجل- يرضى لك ذلك ويحبه، فأره منك ما يحب، وليكن الطمع فيما عند الله دافعا لك.

اعلم أخي المجاهد أن هذه المرتبة العظيمة التي خصَّ الله بها صاحب الخلق الحسن تستحق منك البذل والجهد والعناء في سبيل تحقيقها، فاستعن بالله وراقب أقوالك وأفعالك واحرص أن تكون على هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كي تكون من أقرب الناس منه مجلسا يوم القيامة.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 117
الخميس 15 جمادى الأولى 1439 ه‍ـ
...المزيد

صحيفة النبأ العدد 116 مقال: الحي القيوم الحمد لله رب العالمين، الذي منّ علينا فأخبرنا بأسمائه ...

صحيفة النبأ العدد 116
مقال: الحي القيوم

الحمد لله رب العالمين، الذي منّ علينا فأخبرنا بأسمائه وصفاته، ودلنا على كيفية تعظيمه وطلب مرضاته، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين الذي كان أعلم الناس بالله وأخشاهم وأتقاهم له، أما بعد...

فقد تكلمنا عن معرفة الله -جل وعلا- في الحلقة الماضية، وهذا شروع في بيان بعض أسماء وصفاته:

الحي القيوم: قال -سبحانه- واصفاً ذاته في أعظم آيات قرآنه (آية الكرسي): {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، جاء في حديث أُبَيِّ بن كعب -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم: (يا أبا المنذر، أتدري أَيّ آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255] فضرب في صدري وقال: لِيَهْنِكَ العِلْمُ أبا المنذر) [رواه مسلم].

ففي هذه الآية الكريمة وصف الله -سبحانه- نفسه العلية بأنه حي وقيوم، وهما كما قال ابن كثير، رحمه الله: "{الْحَيُّ الْقَيُّومُ} أي: الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً، القيم لغيره... فجميع الموجودات مفتقرة إليه وهو غني عنها ولا قوام لها بدون أمره"، وهو حي قيوم يدبر الأمور فلا تعتريه صفات النقص كالنوم أو النعاس المنافية لكونه قيوم مدبر لشؤون خلقه، وهو حي غني بنفسه لا يحتاج إلى أحد ويحتاج له كل أحد، سبحانه، {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 57 - 58]، كلنا عاجز ضعيف لولا إقامته لنا، وكلنا فقير لولا إغناؤه لنا، وكنا لا شيء فأخرجنا إلى الوجود وخلق أبانا آدم من الطين بيده وذرأ له ذريته من بعده، وقدرنا من أشرف الأجناس فامتنَّ علينا بأن فرض علينا عبادته وحبه وتعظيمه، لم يطلب منا رزقاً ولا هو بحاجة لشيء من عباداتنا ولا ننفعه طرفة عين -جل جلاله- وقد تلطف معنا غاية التلطف في الحديث القدسي فقال: (يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) [رواه مسلم].

وهو حي لا ينام ولا يسهو ولا يغفل طرفة عين عن تدبير عباده ورزقهم وإجابة دعائهم وتقبل عباداتهم -عزَّ وجلَّ- كما قال عنه رسوله، صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل وعمل الليل قبل عمل النهار) [رواه مسلم].

هو -سبحانه- القائم على كل نفس بما كسبت، يعلم سرها ونجواها، ويدبر أمورها ويربيها طوراً فطوراً، ويدلها -بفضله ورحمته- على طريق نجاتها، ثم يجازيها الجزاء الدائر بين العدل والفضل.

قال ابن القيم -رحمه الله- في النونية:

هذا وَمِنْ أوصافه القيّوم
والقيّوم في أوصافه أمران
إحداهما القيّوم قام بنفسه
والكون قام به هما الأمران
فالأول استغناؤه عن غيره
والفقر من كلٍّ إليه الثّاني
والوصف بالقيّوم ذو شأن كذا
موصوفه أيضا عظيم الشانِ

و(الحي القيوم) (الحي) من له الحياة الكاملة العظيمة الجامعة لجميع معاني الذات، و(القيوم) الذي قام بنفسه، واستغنى عن جميع خلقه، وقام بتدبير جميع المخلوقات، فتدخل في هذا الاسم جميع صفات الأفعال الثابتة لله تعالى.

{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 255]، خالق السماوات والأرض وما فيهما، ومالكهما وما فيهما، يتصرف فيها بما يشاء على مقتضى علمه، الذي وسع كل شيء وحكمته البالغة، لا شريك له في ملكه، ولا معاون له من خلقه، بل هو الذي يعينهم ويتولى أمورهم ويقضي حاجاتهم.

ثم تمَّم الله -عز وجل- آية الكرسي في شرحٍ بديعٍ لاسمه (الحي القيوم) واصفاً فقرنا إليه في الآخرة وحاجتنا إلى أن يقبل فينا شفاعة الشافعين المرضيين عنده عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، فهو -سبحانه- مالك الشفاعة، ويأذن لمن شاء بالشفاعة عنده لمن شاء، ولا يبتدئ الشافع إلا بعد إذنه، قال ابن تيمية رحمه الله: "قال أبو هريرة له، صلى الله عليه وسلم: من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله... وحقيقتها أن الله -سبحانه- هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود" فالشافع والمشفوع له تحت أمر الله وإذنه!

ثم تمم {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]، قال ابن كثير: "دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات: ماضيها وحاضرها ومستقبلها كقوله إخباراً عن الملائكة: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]، لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله -عز وجل- وأطلعه عليه".

وتمم بيان عظمته وعظمة ملكه بذكر قيوميته وقيامه بأمور الخلق كلها: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255]، ثم بين أن كل هذا التدبير والتصريف للسماوات والأرض لا يتعبه طرفة عين {وَلَا يَئُودُهُ} [البقرة: 255]، أي لا يثقله {حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] "بل ذلك سهل عليه يسير لديه وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء، فلا يعزب عنه شيء ولا يغيب عنه شيء، والأشياء كلها حقيرة بين يديه متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة إليه وهو الغني الحميد، الفعال لما يريد، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو القاهر فوق عباده، الحسيب على كل شيء، الرقيب العلي العظيم، لا إله غيره ولا رب سواه" كما قال ابن كثير.

وللإيمان بهذين الاسمين العظيمين آثار على قلب المؤمن وأعماله، فمنها:

1- تعظيم الله -تعالى- ومحبته والتذلل له وإخلاص العمل له، واجتناب الشرك وجميع ما يسخطه، عز وجل.

2- التعلق والاستعانة بالله -عز وجل- الذي يدبر أمور جميع الخلائق، وقطع التعلق بالخلق والأسباب، مع عدم إهمال الأخذ بالأسباب الشرعية، فالله -تعالى- هو مسبب الأسباب، والأسباب لا توصل بنفسها بل بأمر الله عز وجل، والخلق لا يملك الواحد منهم لنفسه فضلاً عن غيره ضراً ولا نفعاً.

3- التوكل على الله -عز وجل- في جلب المنافع الدينية والدنيوية والأخروية، ودفع المضار في الدين والدنيا والآخرة، مع الثقة بالله -تعالى- في تحقيق ذلك، لأنه يعلم حاجات عبده، ويقدر على إصلاح شؤونه كلها، ولأنه -سبحانه- قد وعد عباده المؤمنين بأن يكفي من توكل عليه.

4- الزهد في الدنيا والسعي لإعمار الآخرة بطلب مرضاة الله وثوابه بالأعمال الصالحة، فالإنسان سيفنى وتفنى متع الحياة الدنيا، وما عند الله من الثواب والنعيم لمن عمل صالحاً هو الباقي.

فسبحان الله ما أعظم شأنه، وما أجهلنا حال عصيانه، وهو خالقنا ورازقنا ومالك رقابنا ونواصينا، وما أشد نُكراننا لجميله إذا تشبثنا بأموالنا وأولادنا، وقبل هذا وذاك أنفسنا ولم نبذلها فداً للدين.

يا حي يا قيوم أنت المرتجى
رزقا وعزاً دونه سنَحَارُ
خضعت لعزتك الخلائق كلها
أنت الكريم ودونك الإعسارُ
يا حي يا قيوم فاقبل عذرنا
من دون عفوك شَقْوة وخَسَارُ
سبحانه... سبحانه... سبحانه...

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 116
الجمعة 8 جمادى الأولى 1439 ه‍ـ
...المزيد

صحيفة النبأ العدد 116 مقال: الحي القيوم الحمد لله رب العالمين، الذي منّ علينا فأخبرنا بأسمائه ...

صحيفة النبأ العدد 116
مقال: الحي القيوم

الحمد لله رب العالمين، الذي منّ علينا فأخبرنا بأسمائه وصفاته، ودلنا على كيفية تعظيمه وطلب مرضاته، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين الذي كان أعلم الناس بالله وأخشاهم وأتقاهم له، أما بعد...

فقد تكلمنا عن معرفة الله -جل وعلا- في الحلقة الماضية، وهذا شروع في بيان بعض أسماء وصفاته:

الحي القيوم: قال -سبحانه- واصفاً ذاته في أعظم آيات قرآنه (آية الكرسي): {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، جاء في حديث أُبَيِّ بن كعب -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم: (يا أبا المنذر، أتدري أَيّ آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255] فضرب في صدري وقال: لِيَهْنِكَ العِلْمُ أبا المنذر) [رواه مسلم].

ففي هذه الآية الكريمة وصف الله -سبحانه- نفسه العلية بأنه حي وقيوم، وهما كما قال ابن كثير، رحمه الله: "{الْحَيُّ الْقَيُّومُ} أي: الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً، القيم لغيره... فجميع الموجودات مفتقرة إليه وهو غني عنها ولا قوام لها بدون أمره"، وهو حي قيوم يدبر الأمور فلا تعتريه صفات النقص كالنوم أو النعاس المنافية لكونه قيوم مدبر لشؤون خلقه، وهو حي غني بنفسه لا يحتاج إلى أحد ويحتاج له كل أحد، سبحانه، {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 57 - 58]، كلنا عاجز ضعيف لولا إقامته لنا، وكلنا فقير لولا إغناؤه لنا، وكنا لا شيء فأخرجنا إلى الوجود وخلق أبانا آدم من الطين بيده وذرأ له ذريته من بعده، وقدرنا من أشرف الأجناس فامتنَّ علينا بأن فرض علينا عبادته وحبه وتعظيمه، لم يطلب منا رزقاً ولا هو بحاجة لشيء من عباداتنا ولا ننفعه طرفة عين -جل جلاله- وقد تلطف معنا غاية التلطف في الحديث القدسي فقال: (يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) [رواه مسلم].

وهو حي لا ينام ولا يسهو ولا يغفل طرفة عين عن تدبير عباده ورزقهم وإجابة دعائهم وتقبل عباداتهم -عزَّ وجلَّ- كما قال عنه رسوله، صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل وعمل الليل قبل عمل النهار) [رواه مسلم].

هو -سبحانه- القائم على كل نفس بما كسبت، يعلم سرها ونجواها، ويدبر أمورها ويربيها طوراً فطوراً، ويدلها -بفضله ورحمته- على طريق نجاتها، ثم يجازيها الجزاء الدائر بين العدل والفضل.

قال ابن القيم -رحمه الله- في النونية:

هذا وَمِنْ أوصافه القيّوم
والقيّوم في أوصافه أمران
إحداهما القيّوم قام بنفسه
والكون قام به هما الأمران
فالأول استغناؤه عن غيره
والفقر من كلٍّ إليه الثّاني
والوصف بالقيّوم ذو شأن كذا
موصوفه أيضا عظيم الشانِ

و(الحي القيوم) (الحي) من له الحياة الكاملة العظيمة الجامعة لجميع معاني الذات، و(القيوم) الذي قام بنفسه، واستغنى عن جميع خلقه، وقام بتدبير جميع المخلوقات، فتدخل في هذا الاسم جميع صفات الأفعال الثابتة لله تعالى.

{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 255]، خالق السماوات والأرض وما فيهما، ومالكهما وما فيهما، يتصرف فيها بما يشاء على مقتضى علمه، الذي وسع كل شيء وحكمته البالغة، لا شريك له في ملكه، ولا معاون له من خلقه، بل هو الذي يعينهم ويتولى أمورهم ويقضي حاجاتهم.

ثم تمَّم الله -عز وجل- آية الكرسي في شرحٍ بديعٍ لاسمه (الحي القيوم) واصفاً فقرنا إليه في الآخرة وحاجتنا إلى أن يقبل فينا شفاعة الشافعين المرضيين عنده عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، فهو -سبحانه- مالك الشفاعة، ويأذن لمن شاء بالشفاعة عنده لمن شاء، ولا يبتدئ الشافع إلا بعد إذنه، قال ابن تيمية رحمه الله: "قال أبو هريرة له، صلى الله عليه وسلم: من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله... وحقيقتها أن الله -سبحانه- هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود" فالشافع والمشفوع له تحت أمر الله وإذنه!

ثم تمم {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]، قال ابن كثير: "دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات: ماضيها وحاضرها ومستقبلها كقوله إخباراً عن الملائكة: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]، لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله -عز وجل- وأطلعه عليه".

وتمم بيان عظمته وعظمة ملكه بذكر قيوميته وقيامه بأمور الخلق كلها: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255]، ثم بين أن كل هذا التدبير والتصريف للسماوات والأرض لا يتعبه طرفة عين {وَلَا يَئُودُهُ} [البقرة: 255]، أي لا يثقله {حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] "بل ذلك سهل عليه يسير لديه وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء، فلا يعزب عنه شيء ولا يغيب عنه شيء، والأشياء كلها حقيرة بين يديه متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة إليه وهو الغني الحميد، الفعال لما يريد، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو القاهر فوق عباده، الحسيب على كل شيء، الرقيب العلي العظيم، لا إله غيره ولا رب سواه" كما قال ابن كثير.

وللإيمان بهذين الاسمين العظيمين آثار على قلب المؤمن وأعماله، فمنها:

1- تعظيم الله -تعالى- ومحبته والتذلل له وإخلاص العمل له، واجتناب الشرك وجميع ما يسخطه، عز وجل.

2- التعلق والاستعانة بالله -عز وجل- الذي يدبر أمور جميع الخلائق، وقطع التعلق بالخلق والأسباب، مع عدم إهمال الأخذ بالأسباب الشرعية، فالله -تعالى- هو مسبب الأسباب، والأسباب لا توصل بنفسها بل بأمر الله عز وجل، والخلق لا يملك الواحد منهم لنفسه فضلاً عن غيره ضراً ولا نفعاً.

3- التوكل على الله -عز وجل- في جلب المنافع الدينية والدنيوية والأخروية، ودفع المضار في الدين والدنيا والآخرة، مع الثقة بالله -تعالى- في تحقيق ذلك، لأنه يعلم حاجات عبده، ويقدر على إصلاح شؤونه كلها، ولأنه -سبحانه- قد وعد عباده المؤمنين بأن يكفي من توكل عليه.

4- الزهد في الدنيا والسعي لإعمار الآخرة بطلب مرضاة الله وثوابه بالأعمال الصالحة، فالإنسان سيفنى وتفنى متع الحياة الدنيا، وما عند الله من الثواب والنعيم لمن عمل صالحاً هو الباقي.

فسبحان الله ما أعظم شأنه، وما أجهلنا حال عصيانه، وهو خالقنا ورازقنا ومالك رقابنا ونواصينا، وما أشد نُكراننا لجميله إذا تشبثنا بأموالنا وأولادنا، وقبل هذا وذاك أنفسنا ولم نبذلها فداً للدين.

يا حي يا قيوم أنت المرتجى
رزقا وعزاً دونه سنَحَارُ
خضعت لعزتك الخلائق كلها
أنت الكريم ودونك الإعسارُ
يا حي يا قيوم فاقبل عذرنا
من دون عفوك شَقْوة وخَسَارُ
سبحانه... سبحانه... سبحانه...

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 116
الجمعة 8 جمادى الأولى 1439 ه‍ـ
...المزيد
يتم الآن تحديث اوقات الصلاة ...
00:00:00 يتبقى على
15 صفر 1447
الفجر 00:00 الظهر 00:00 العصر 00:00 المغرب 00:00 العشاء 00:00

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً