من قصص الثبات في حياة الصحابيات [1/2] الجنة... سلعة الله الغالية، خير المقام ومنتهى المرام، ...

من قصص الثبات في حياة الصحابيات
[1/2]

الجنة... سلعة الله الغالية، خير المقام ومنتهى المرام، إليها يتسابق المؤمنون، ويتنافس في نيلها المتنافسون، تحار في كنهها العقول، ويعجز عن وصفها فحل قؤول، غير أنها قد حُفّت بالأشواك لا بالورود، ودماء المشترين وأشلاؤهم على ذلك شهود، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، «بالله ما هزلت فيستامها المفلسون، ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون، لقد أقيمت للعرض في سوق من يريد، فلم يرض ربها لها بثمن دون بذل النفوس، فتأخر البطّالون، وقام المحبّون ينتظرون أيُّهم يصلح أن يكون نفسه الثمن» [زاد المعاد].

يقول الله -عز وجل- في كتابه العزيز قولا عظيما، طوبى لمن قرأه أو سمعه فتأمله وتدبره: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 140-142]، إنه التدبير الرباني المحكم؛ قرح بقرح، ودولة بدولة، والمؤمنون منهم شهداء، والذين آمنوا يُبتلون ليتمايزوا، ويعلو الطيّب على الخبيث، وأما الجنة فثواب من نجح في الاختبار، وصبر عند البلاء، وثبت ساعة الشدة، ولم يفزع أو يسخط، ولم يكن لسان حاله: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}، وهيهات لمثل هذا أن ينعم بجنان ربه هيهات.

ولا تظنَّنَّ المسلمة الموحدة أنها بمنأى عن دوائر التمحيص والابتلاء، بل إنها في ذلك والرجل سواء بسواء، وأكثر من ذلك؛ قد يكون لها عظيم الدور في تثبيت الزوج والأبناء.

فهذه خديجة وأسماء، وتلك سمية وخنساء وغيرهن كثيرات ممن لا يسع المقام لذكر مناقبهن؛ أما خديجة فأم المؤمنين صاحبة أول قلب يخفق إيمانا بالرسالة المحمدية، خديجة التي كانت ممن ثبّت الله هذا الدين بتثبيتها زوجها سيد المرسلين محمد، صلى الله عليه وسلم.

أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- وبعد نزول الوحي عليه لأول مرة في غار حراء وفزعه منه، أتى خديجة زوجه فأخبرها الخبر ثم قال: (لقد خشيتُ على نفسي)، قالت له خديجة: «كلا أبشر، فوالله، لا يخزيك الله أبدا، والله، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق...» إن أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- وهي تسمع ذاك الخبر العجاب من زوجها، لم تجزع ولم تهلع، ولم تمسك بتلابيب بعلها خوفا من قادم الأيام، ولم تثبّط فؤاده بل ثبّتته، حتى قال العلماء عن كلامها كما نقل النووي فقال: «قال العلماء... وفيه [أي كلام خديجة، رضي الله عنها] أعظم دليل وأبلغ حجة على كمال خديجة -رضي الله عنها- وجزالة رأيها، وقوة نفسها، وثبات قلبها، وعظم فقهها، والله أعلم» [شرح صحيح مسلم].
وتمضي الأيام وينتشر أمر الدعوة ويبطش طواغيت قريش بالموحدين، ويحاصرونهم في شعب أبي طالب ويمنعون عنهم القوت والماء، وأم المؤمنين ثابتة مع زوجها، صابرة محتسبة، يصيبها ما يصيب القوم من جوع وظمأ، وهي من هي، سليلة الحسب والنسب، صاحبة المال والجاه، حتى حوصرت معهم في شعب أبي طالب لعامين، وضرها ما لاقت من جوع وتعب، فماتت وهي صابرة محتسبة، ثابتة على دينها، راض عنها زوجها، عليه الصلاة والسلام، فرضي الله عنها وأرضاها.

أما سمية فهي سمية بنت خياط، أم عمار بن ياسر، وكانت سابع سبعة في الإسلام، وأول شهيدة تسقي بدمائها شجرة التوحيد، نعم يا مسلمة؛ إن أول دماء سالت في سبيل لا إله إلا الله كانت دماء امرأة، فقد كانت سمية وزوجها وابناها من موالي بني مخزوم، ولما أسلموا لقوا صنوفا وألوانا من العذاب، فعن جابر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مرّ بعمار وأهله وهم يعذبون، فقال: (أبشروا آل عمار، وآل ياسر، فإن موعدكم الجنة) [رواه الضياء والحاكم].

إن سمية لم تعذب إلا في الله، كي تعود عن دينها، وتترك سبيل محمد، صلى الله عليه وسلم، هذا الرجل الذي لم يأتهم بمال ولا ذهب ولا فضة، وإنما بدين «جديد» لم يكن عليه الآباء من قبل، بكلمة يشهدونها ويعملون بها فتكون لهم الجنة، ورغم التعذيب الشديد، إلا أن سمية تلك المرأة الضعيفة المستضعفة ثبتت ولم تتزحزح عن دينها، ولم تتراجع عما باتت تعتقده وتدين الله تعالى به، قال ابن إسحاق في «السيرة»: «حدثني رجال من آل عمار بن ياسر أن سمية أم عمار عذبها آل بني المغيرة على الإسلام، وهي تأبى غيره حتى قتلوها»، فكانت خاتمتها الشهادة بعد صبرها وثباتها إذ طعنها عدو الله أبو جهل بحربة فقتلها.


• المصدر: صحيفة النبأ - العدد 46
الثلاثاء 4 ذو الحجة 1437 ه‍ـ

• لقراءة المقال كاملاً، تواصل - تيليغرام:
@wmc11ar
...المزيد

من قصص الثبات في حياة الصحابيات [2/2] وأما أسماء، فبنت الصديق، رضي الله عنها وعن أبيها، تلك ...

من قصص الثبات في حياة الصحابيات
[2/2]

وأما أسماء، فبنت الصديق، رضي الله عنها وعن أبيها، تلك التي ضربت في الثبات والجهاد أروع الأمثلة، أسماء التي يخرج أبوها مهاجرا مع النبي، صلى الله عليه وسلم، فيأخذ كل ماله ولا يترك لهم شيئا، فلا تتذمر ولا تتبرم، بل تحتال على جدها ولا تفضح أباها، فعن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، أن أباه، حدثه عن جدته أسماء بنت أبي بكر، قالت: «لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخرج معه أبو بكر، احتمل أبو بكر ماله كله معه: خمسة آلاف درهم، أو ستة آلاف درهم»، قالت: «وانطلق بها معه»، قالت: «فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه»، قالت: «قلت: كلا يا أبه، إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا»، قالت: «فأخذت أحجارا، فوضعتها في كوة البيت، كان أبي يضع فيها ماله، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده، فقلت: يا أبه، ضع يدك على هذا المال»، قالت: «فوضع يده عليه، فقال: لا بأس، إن كان قد ترك لكم هذا، فقد أحسن، وفي هذا لكم بلاغ»، قالت: «ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكني قد أردت أن أسكّن الشيخ بذلك» [رواه أحمد وغيره].

ولم تسلم ذات النطاقين من بطش الطاغوت أبي جهل إذ تقول: «لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر، أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل، فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت إليه»، فقالوا: «أين أبوك يا بنت أبي بكر؟» قالت: «قلت: لا أدري والله أين أبي»، قالت: «فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشا خبيثا، فلطم خدي لطمة خر منها قرطي»، قالت: «ثم انصرفوا» [حلية الأولياء].

هكذا حال المسلمة المؤمنة بربها، الظانة به ظن الخير، المستعذِبة العذابَ في سبيل دينها، وإنه لما خرج قوم على خليفة المسلمين عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- وحاصره الحَجّاج الثقفي في مكة، كانت أسماء تلك الأم التي ثبتت ابنها وحرضته على الموت في سبيل الله تعالى، يقول ابن كثير: «ودخل عبد الله بن الزبير على أمه فشكا إليها خذلان الناس له، وخروجهم إلى الحَجّاج حتى أولاده وأهله، وأنه لم يبق معه إلا اليسير، ولم يبق لهم صبر ساعة، والقوم يعطونني ما شئت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: يا بني، أنت أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وتدعو إلى حق فاصبر عليه، فقد قُتل عليه أصحابك، ولا تمكّن من رقبتك، يلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنتَ إنما أردتَ الدنيا فلبئس العبد أنت؛ أهلكتَ نفسك وأهلكتَ من قُتل معك، وإن كنتَ على حق فما وهن الدين، وإلى كم خلودكم في الدنيا؟ القتل أحسن [...] ثم جعلت تذكّره بأبيه الزبير، وجدّه أبي بكر الصديق، وجدّته صفية بنت عبد المطلب، وخالته عائشة زوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وترجيه القدوم عليهم إذا هو قتل شهيدا، ثم خرج من عندها، فكان ذلك آخر عهده بها، رضي الله عنهما وعن أبيه وأبيها» [البداية والنهاية].

وأما الخنساء بنت عمرو، فحالها ليس ببعيد عن حال أسماء، فعن أبي وجزة، عن أبيه، قال: «حضرت الخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمية حرب القادسية ومعها بنوها أربعة رجال، فقالت لهم من أول الليل: يا بني، إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، ووالله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم، ولا غبرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمّرت عن ساقها، واضطرمت لظى على سياقها، وجللت نارا على أوراقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها، عند احتدام خميسها، تظفروا بالغنم والكرامة، في دار الخلد والمقامة» [الاستيعاب].

فكان للخنساء ما أرادت، وخرج أبناؤها الأربعة يبتغون الموت مظانه فقتلوا جميعهم في يوم واحد، ولما بلغها خبرهم ما زادت على أن قالت: «الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته».

فلله در نساء كهؤلاء، ما قعدن يبكين وينتحبن في ساعات الشدة والبلاء، بل حملن على أعتاقهن هم الدين والأمة، فهذه تثبت زوجا، وتلك تحرض ابنا...
وبمثل هؤلاء تقتدي المسلمة، وإذا اشتدت الأزمات وضاقت الحلقات، تسلت بذكر ثباتهن، واستعطرت بطيب سيرهن.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلِّ اللهم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


• المصدر: صحيفة النبأ - العدد 46
الثلاثاء 4 ذو الحجة 1437 ه‍ـ

• لقراءة المقال كاملاً، تواصل - تيليغرام:
@wmc11ar
...المزيد

من قصص الثبات في حياة الصحابيات [2/2] وأما أسماء، فبنت الصديق، رضي الله عنها وعن أبيها، تلك ...

من قصص الثبات في حياة الصحابيات
[2/2]

وأما أسماء، فبنت الصديق، رضي الله عنها وعن أبيها، تلك التي ضربت في الثبات والجهاد أروع الأمثلة، أسماء التي يخرج أبوها مهاجرا مع النبي، صلى الله عليه وسلم، فيأخذ كل ماله ولا يترك لهم شيئا، فلا تتذمر ولا تتبرم، بل تحتال على جدها ولا تفضح أباها، فعن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، أن أباه، حدثه عن جدته أسماء بنت أبي بكر، قالت: «لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخرج معه أبو بكر، احتمل أبو بكر ماله كله معه: خمسة آلاف درهم، أو ستة آلاف درهم»، قالت: «وانطلق بها معه»، قالت: «فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه»، قالت: «قلت: كلا يا أبه، إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا»، قالت: «فأخذت أحجارا، فوضعتها في كوة البيت، كان أبي يضع فيها ماله، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده، فقلت: يا أبه، ضع يدك على هذا المال»، قالت: «فوضع يده عليه، فقال: لا بأس، إن كان قد ترك لكم هذا، فقد أحسن، وفي هذا لكم بلاغ»، قالت: «ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكني قد أردت أن أسكّن الشيخ بذلك» [رواه أحمد وغيره].

ولم تسلم ذات النطاقين من بطش الطاغوت أبي جهل إذ تقول: «لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر، أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل، فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت إليه»، فقالوا: «أين أبوك يا بنت أبي بكر؟» قالت: «قلت: لا أدري والله أين أبي»، قالت: «فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشا خبيثا، فلطم خدي لطمة خر منها قرطي»، قالت: «ثم انصرفوا» [حلية الأولياء].

هكذا حال المسلمة المؤمنة بربها، الظانة به ظن الخير، المستعذِبة العذابَ في سبيل دينها، وإنه لما خرج قوم على خليفة المسلمين عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- وحاصره الحَجّاج الثقفي في مكة، كانت أسماء تلك الأم التي ثبتت ابنها وحرضته على الموت في سبيل الله تعالى، يقول ابن كثير: «ودخل عبد الله بن الزبير على أمه فشكا إليها خذلان الناس له، وخروجهم إلى الحَجّاج حتى أولاده وأهله، وأنه لم يبق معه إلا اليسير، ولم يبق لهم صبر ساعة، والقوم يعطونني ما شئت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: يا بني، أنت أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وتدعو إلى حق فاصبر عليه، فقد قُتل عليه أصحابك، ولا تمكّن من رقبتك، يلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنتَ إنما أردتَ الدنيا فلبئس العبد أنت؛ أهلكتَ نفسك وأهلكتَ من قُتل معك، وإن كنتَ على حق فما وهن الدين، وإلى كم خلودكم في الدنيا؟ القتل أحسن [...] ثم جعلت تذكّره بأبيه الزبير، وجدّه أبي بكر الصديق، وجدّته صفية بنت عبد المطلب، وخالته عائشة زوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وترجيه القدوم عليهم إذا هو قتل شهيدا، ثم خرج من عندها، فكان ذلك آخر عهده بها، رضي الله عنهما وعن أبيه وأبيها» [البداية والنهاية].

وأما الخنساء بنت عمرو، فحالها ليس ببعيد عن حال أسماء، فعن أبي وجزة، عن أبيه، قال: «حضرت الخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمية حرب القادسية ومعها بنوها أربعة رجال، فقالت لهم من أول الليل: يا بني، إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، ووالله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم، ولا غبرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمّرت عن ساقها، واضطرمت لظى على سياقها، وجللت نارا على أوراقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها، عند احتدام خميسها، تظفروا بالغنم والكرامة، في دار الخلد والمقامة» [الاستيعاب].

فكان للخنساء ما أرادت، وخرج أبناؤها الأربعة يبتغون الموت مظانه فقتلوا جميعهم في يوم واحد، ولما بلغها خبرهم ما زادت على أن قالت: «الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته».

فلله در نساء كهؤلاء، ما قعدن يبكين وينتحبن في ساعات الشدة والبلاء، بل حملن على أعتاقهن هم الدين والأمة، فهذه تثبت زوجا، وتلك تحرض ابنا...
وبمثل هؤلاء تقتدي المسلمة، وإذا اشتدت الأزمات وضاقت الحلقات، تسلت بذكر ثباتهن، واستعطرت بطيب سيرهن.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلِّ اللهم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


• المصدر: صحيفة النبأ - العدد 46
الثلاثاء 4 ذو الحجة 1437 ه‍ـ

• لقراءة المقال كاملاً، تواصل - تيليغرام:
@wmc11ar
...المزيد

من قصص الثبات في حياة الصحابيات الجنة... سلعة الله الغالية، خير المقام ومنتهى المرام، إليها ...

من قصص الثبات في حياة الصحابيات

الجنة... سلعة الله الغالية، خير المقام ومنتهى المرام، إليها يتسابق المؤمنون، ويتنافس في نيلها المتنافسون، تحار في كنهها العقول، ويعجز عن وصفها فحل قؤول، غير أنها قد حُفّت بالأشواك لا بالورود، ودماء المشترين وأشلاؤهم على ذلك شهود، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، «بالله ما هزلت فيستامها المفلسون، ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون، لقد أقيمت للعرض في سوق من يريد، فلم يرض ربها لها بثمن دون بذل النفوس، فتأخر البطّالون، وقام المحبّون ينتظرون أيُّهم يصلح أن يكون نفسه الثمن» [زاد المعاد].

يقول الله -عز وجل- في كتابه العزيز قولا عظيما، طوبى لمن قرأه أو سمعه فتأمله وتدبره: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 140-142]، إنه التدبير الرباني المحكم؛ قرح بقرح، ودولة بدولة، والمؤمنون منهم شهداء، والذين آمنوا يُبتلون ليتمايزوا، ويعلو الطيّب على الخبيث، وأما الجنة فثواب من نجح في الاختبار، وصبر عند البلاء، وثبت ساعة الشدة، ولم يفزع أو يسخط، ولم يكن لسان حاله: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}، وهيهات لمثل هذا أن ينعم بجنان ربه هيهات.

ولا تظنَّنَّ المسلمة الموحدة أنها بمنأى عن دوائر التمحيص والابتلاء، بل إنها في ذلك والرجل سواء بسواء، وأكثر من ذلك؛ قد يكون لها عظيم الدور في تثبيت الزوج والأبناء.

فهذه خديجة وأسماء، وتلك سمية وخنساء وغيرهن كثيرات ممن لا يسع المقام لذكر مناقبهن؛ أما خديجة فأم المؤمنين صاحبة أول قلب يخفق إيمانا بالرسالة المحمدية، خديجة التي كانت ممن ثبّت الله هذا الدين بتثبيتها زوجها سيد المرسلين محمد، صلى الله عليه وسلم.

أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- وبعد نزول الوحي عليه لأول مرة في غار حراء وفزعه منه، أتى خديجة زوجه فأخبرها الخبر ثم قال: (لقد خشيتُ على نفسي)، قالت له خديجة: «كلا أبشر، فوالله، لا يخزيك الله أبدا، والله، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق...» إن أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- وهي تسمع ذاك الخبر العجاب من زوجها، لم تجزع ولم تهلع، ولم تمسك بتلابيب بعلها خوفا من قادم الأيام، ولم تثبّط فؤاده بل ثبّتته، حتى قال العلماء عن كلامها كما نقل النووي فقال: «قال العلماء... وفيه [أي كلام خديجة، رضي الله عنها] أعظم دليل وأبلغ حجة على كمال خديجة -رضي الله عنها- وجزالة رأيها، وقوة نفسها، وثبات قلبها، وعظم فقهها، والله أعلم» [شرح صحيح مسلم].
وتمضي الأيام وينتشر أمر الدعوة ويبطش طواغيت قريش بالموحدين، ويحاصرونهم في شعب أبي طالب ويمنعون عنهم القوت والماء، وأم المؤمنين ثابتة مع زوجها، صابرة محتسبة، يصيبها ما يصيب القوم من جوع وظمأ، وهي من هي، سليلة الحسب والنسب، صاحبة المال والجاه، حتى حوصرت معهم في شعب أبي طالب لعامين، وضرها ما لاقت من جوع وتعب، فماتت وهي صابرة محتسبة، ثابتة على دينها، راض عنها زوجها، عليه الصلاة والسلام، فرضي الله عنها وأرضاها.

أما سمية فهي سمية بنت خياط، أم عمار بن ياسر، وكانت سابع سبعة في الإسلام، وأول شهيدة تسقي بدمائها شجرة التوحيد، نعم يا مسلمة؛ إن أول دماء سالت في سبيل لا إله إلا الله كانت دماء امرأة، فقد كانت سمية وزوجها وابناها من موالي بني مخزوم، ولما أسلموا لقوا صنوفا وألوانا من العذاب، فعن جابر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مرّ بعمار وأهله وهم يعذبون، فقال: (أبشروا آل عمار، وآل ياسر، فإن موعدكم الجنة) [رواه الضياء والحاكم].

إن سمية لم تعذب إلا في الله، كي تعود عن دينها، وتترك سبيل محمد، صلى الله عليه وسلم، هذا الرجل الذي لم يأتهم بمال ولا ذهب ولا فضة، وإنما بدين «جديد» لم يكن عليه الآباء من قبل، بكلمة يشهدونها ويعملون بها فتكون لهم الجنة، ورغم التعذيب الشديد، إلا أن سمية تلك المرأة الضعيفة المستضعفة ثبتت ولم تتزحزح عن دينها، ولم تتراجع عما باتت تعتقده وتدين الله تعالى به، قال ابن إسحاق في «السيرة»: «حدثني رجال من آل عمار بن ياسر أن سمية أم عمار عذبها آل بني المغيرة على الإسلام، وهي تأبى غيره حتى قتلوها»، فكانت خاتمتها الشهادة بعد صبرها وثباتها إذ طعنها عدو الله أبو جهل بحربة فقتلها.

وأما أسماء، فبنت الصديق، رضي الله عنها وعن أبيها، تلك التي ضربت في الثبات والجهاد أروع الأمثلة، أسماء التي يخرج أبوها مهاجرا مع النبي، صلى الله عليه وسلم، فيأخذ كل ماله ولا يترك لهم شيئا، فلا تتذمر ولا تتبرم، بل تحتال على جدها ولا تفضح أباها، فعن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، أن أباه، حدثه عن جدته أسماء بنت أبي بكر، قالت: «لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخرج معه أبو بكر، احتمل أبو بكر ماله كله معه: خمسة آلاف درهم، أو ستة آلاف درهم»، قالت: «وانطلق بها معه»، قالت: «فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه»، قالت: «قلت: كلا يا أبه، إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا»، قالت: «فأخذت أحجارا، فوضعتها في كوة البيت، كان أبي يضع فيها ماله، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده، فقلت: يا أبه، ضع يدك على هذا المال»، قالت: «فوضع يده عليه، فقال: لا بأس، إن كان قد ترك لكم هذا، فقد أحسن، وفي هذا لكم بلاغ»، قالت: «ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكني قد أردت أن أسكّن الشيخ بذلك» [رواه أحمد وغيره].

ولم تسلم ذات النطاقين من بطش الطاغوت أبي جهل إذ تقول: «لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر، أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل، فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت إليه»، فقالوا: «أين أبوك يا بنت أبي بكر؟» قالت: «قلت: لا أدري والله أين أبي»، قالت: «فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشا خبيثا، فلطم خدي لطمة خر منها قرطي»، قالت: «ثم انصرفوا» [حلية الأولياء].

هكذا حال المسلمة المؤمنة بربها، الظانة به ظن الخير، المستعذِبة العذابَ في سبيل دينها، وإنه لما خرج قوم على خليفة المسلمين عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- وحاصره الحَجّاج الثقفي في مكة، كانت أسماء تلك الأم التي ثبتت ابنها وحرضته على الموت في سبيل الله تعالى، يقول ابن كثير: «ودخل عبد الله بن الزبير على أمه فشكا إليها خذلان الناس له، وخروجهم إلى الحَجّاج حتى أولاده وأهله، وأنه لم يبق معه إلا اليسير، ولم يبق لهم صبر ساعة، والقوم يعطونني ما شئت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: يا بني، أنت أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وتدعو إلى حق فاصبر عليه، فقد قُتل عليه أصحابك، ولا تمكّن من رقبتك، يلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنتَ إنما أردتَ الدنيا فلبئس العبد أنت؛ أهلكتَ نفسك وأهلكتَ من قُتل معك، وإن كنتَ على حق فما وهن الدين، وإلى كم خلودكم في الدنيا؟ القتل أحسن [...] ثم جعلت تذكّره بأبيه الزبير، وجدّه أبي بكر الصديق، وجدّته صفية بنت عبد المطلب، وخالته عائشة زوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وترجيه القدوم عليهم إذا هو قتل شهيدا، ثم خرج من عندها، فكان ذلك آخر عهده بها، رضي الله عنهما وعن أبيه وأبيها» [البداية والنهاية].

وأما الخنساء بنت عمرو، فحالها ليس ببعيد عن حال أسماء، فعن أبي وجزة، عن أبيه، قال: «حضرت الخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمية حرب القادسية ومعها بنوها أربعة رجال، فقالت لهم من أول الليل: يا بني، إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، ووالله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم، ولا غبرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمّرت عن ساقها، واضطرمت لظى على سياقها، وجللت نارا على أوراقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها، عند احتدام خميسها، تظفروا بالغنم والكرامة، في دار الخلد والمقامة» [الاستيعاب].

فكان للخنساء ما أرادت، وخرج أبناؤها الأربعة يبتغون الموت مظانه فقتلوا جميعهم في يوم واحد، ولما بلغها خبرهم ما زادت على أن قالت: «الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته».

فلله در نساء كهؤلاء، ما قعدن يبكين وينتحبن في ساعات الشدة والبلاء، بل حملن على أعتاقهن هم الدين والأمة، فهذه تثبت زوجا، وتلك تحرض ابنا...
وبمثل هؤلاء تقتدي المسلمة، وإذا اشتدت الأزمات وضاقت الحلقات، تسلت بذكر ثباتهن، واستعطرت بطيب سيرهن.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلِّ اللهم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


• المصدر: صحيفة النبأ - العدد 46
الثلاثاء 4 ذو الحجة 1437 ه‍ـ

• لقراءة المقال كاملاً، تواصل - تيليغرام:
@wmc11ar
...المزيد

ويكأنه لا يفلح الكافرون لقد غاب عن هؤلاء أن الطاغوت الأمريكي كغيره مخلوق لا يملك أن يقوم من ...

ويكأنه لا يفلح الكافرون

لقد غاب عن هؤلاء أن الطاغوت الأمريكي كغيره مخلوق لا يملك أن يقوم من مقامه أو يحرّك عضوا من أعضائه إلا بإذن الله، ولو شاء سبحانه لألحقه بسلفه الغابر من طواغيت الكفر كالنمرود وقارون وفرعون وغيرهم ممن طغوا وبغوا، ولكنها حكمة الله تعالى في إمهال هؤلاء واستدراجهم، قال تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ}، يعني تصرّفهم في الأرض وعلوّهم وزهوهم فيها، فإنما هو إمهال واستدراج من الله لهم، وقد بيّن الإمام الطبري الحكمة من هذا "الإمهال" رغم شركهم وطغيانهم فقال: "حتى يبلغ الكتاب أجله، ولتحق عليهم كلمة العذاب، وليبلغوا بمعصيتهم ربهم المقدار الذي كتبه لهم من العقاب، ولتتكامل حجج الله عليهم".

افتتاحية النبأ "ويكأنه لا يفلح الكافرون" العدد 469
لقراءة المقال كاملاً.. تواصل معنا تيليغرام:
@WMC11AR
...المزيد

الزهد في الدنيا من منهج السلف لقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- سيد العبّاد والزهّاد، يأتيه ...

الزهد في الدنيا من منهج السلف

لقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- سيد العبّاد والزهّاد، يأتيه جبريل مرسلاً من لدن رب العباد، فيخيِّره بين أن يُبعث نبيا ملكا أو نبيا عبدا فيختار الثانية، ويرد مفاتيح خزائن الدنيا الفانية، فذاق وأهله من صنوف الفاقة والخصاصة، وعاش الكفاف مع خيرة الأصحاب، وهم الذين ملكوا الأرض وخضعت لهم الرقاب.

وإننا في أيامنا هذه وبعد أن فُتحت الدنيا علينا، بتنا نفتقد تلك الروح، روح الرعيل الأول من الزاهدين، الذين لم تخدعهم الدنيا ببريقها، وفطنوا إلى أن السلامة منها ترك ما فيها.

والمتأمل في حال بعض النساء اليوم، يرى منهن ترفا زائدا، وحرصا على الدنيا وقاذوراتها، إذا تسوَّقن بَالَغن وأسرفن، وإذا طلبن من الزوج أجهدن وأتعبن، وإذا تأخر عنهن لقلة ذات اليد، تذمَّرن واشتكين، وربما دفعن به إلى السلف والدَّين، فيريق ماء وجهه بين الرجال، ويشقى بين الناس بكثرة السؤال.

كانت إحدى نساء السلف تشيّع زوجها يوميا إلى باب البيت لتوصيه قبل خروجه بأن يتقي الله فيما يطعمهم، همها الحلال والحرام! وبعض نساء اليوم توصله إلى الباب مذكرة إياه بقائمة المشتريات التي لا تنتهي، ولا شأن لها بكيف، ولا من أين سيلبيها لها زوجها!

تجد إحداهن لا همَّ لها من الدنيا سوى مأكلها وملبسها، إذا أكلت استكثرت، وإذا لبست افتخرت، وإذا جلست لتحدث، فعن الطعام واللباس وقصات الشعر وألوانه، وقد كان من دعاء النبي، صلى الله عليه وسلم: (ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا) [رواه الترمذي].

فيا أخت الإسلام ويا حفيدة عائشة، عائشة التي كان درعها مرقَّعا، هلُمِّي بنا نسرح بالخيال قليلا في خير البيوتات وأشرفها وأطيبها، حسبا ونسبا ودينا وصلاحا، وعفافا وغنى وتقى، إنها بيوتات نبيك، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا.

لقد كانت حجرات صغيرة، بسيطة متواضعة، لا تكاد في مساحتها تكفي الاثنين، وأما فراشه الذي كان ينام عليه، فتصفه لنا أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- فتقول: كان فراش النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي ينام عليه أَدَما، حشوه ليف) [متفق عليه]، والأدم: الجلد المدبوغ، والليف ليف النخل.

ويسرد لنا الفاروق عمر -رضي الله عنه- حديثا طويلا جاء فيه: "فدخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مضطجع على حصير، فجلست، فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه، فنظرت ببصري في خزانة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، ومثلها قرظا في ناحية الغرفة، وإذا أفيقٌ معلقٌ، قال: فابتدرت عيناي، قال: (ما يبكيك يا ابن الخطاب) قلت: يا نبي الله، وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار، وأنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصفوته، وهذه خزانتك، فقال: (يا ابن الخطاب، ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟)، قلت: بلى..." [رواه مسلم].
وأما مطعمه وأهلِه -صلوات ربنا وسلامه عليهم- فقد كان يمر الهلال والهلال ولا توقد في بيوته نار، وكان أكثر عيشهم على الأسودين؛ التمر والماء، بل تصف عائشة -رضي الله عنها- ما كان يصلهم أحيانا من لحم فتقول: "اللحيم" كناية عن قلته!
قال الطبري، رحمه الله تعالى: "في اختيار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخيار السلف من الصحابة والتابعين شظف العيش، والصبر على مرارة الفقر والفاقة ومقاساة خشونة خَشِن الملابس والمطاعم على خفض ذلك ودعَته، وحلاوة الغنى ونعيمه، ما أبان عن فضل الزهد فى الدنيا وأخذ القوت والبُلغة خاصة، وكان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يطوي الأيام، ويعصِب على بطنه الحجر من الجوع؛ إيثاراً منه لشظف العيش والصبر عليه، مع علمه بأنه لو سأل ربه أن يسيِّر له جبال تهامة ذهباً وفضةً لفعل، وعلى هذه الطريقة جرى الصالحون".

وبالله عليك يا مسلمة تأملي في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- حيث تقول: "قد كان يصيبنا الحيض على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فتلبث إحدانا أيام حيضها ثم تطهر، فتنظر الثوب الذي كانت تقلب فيه، فإن أصابه دم غسلناه وصلينا فيه، وإن لم يكن أصابه شيء تركناه ولم يمنعنا ذلك من أن نصلي فيه" [أخرجه أبو داود]، يا سبحان الله! لقد كانت الواحدة من نساء خير القرون لربما لا تملك غير ثوب واحد، فيه تحيض وفيه تطهر، ونساء أمتنا اليوم تكاد بيوتهن تلفظ ما فيها من لباس وزينة!

وقد تقول قائلة: لا أراكم إلا تحرّمون ما أحل الله الذي يحب أن يرى أثر نعمته على عبده!
نقول حينها: معاذ الله تعالى أن نحرّم طيِّباته على عبيده، ولكن هي دعوة للتطبع بطباع خير الخلق، والزهد حلية المؤمن الحق، من صغرت الدنيا في عينه وعظمت الآخرة في قلبه.

والله -عز وجل- يحب أن يرى أثر نعمته على عبده لا أثر الإسراف والتبذير، ولا أن يرى زوجات يرهقن كواهل أزواجهن بطلب كلِّ ما يشتهينه وإن تعذر عليهم توفير ذلك.

وإنا إذ ندعو النساء إلى التحلي بهذه الحلية الطيبة، لا يفوتنا أيضا في هذا المقام أن نحذِّر من مغبة الشح والبخل على الأهل.

فعلى الزوج المسلم أن ينفق على أهله وبنيه بالمعروف دون إفراط أو تفريط، ولينفق ذو سعة من سعته، فيبلغ بذلك منازل الكرام دون أن يكون أخا للشيطان، فلا يكوننَّ ذا مال ثم يقتر على أهله تقتيرا، وليحتسب الأجر على كل لقمة يضعها في فيِّ أهله، وعلى كل سرور يدخله على قلوبهم، والله من وراء القصد، كما لا يكوننَّ ذا حاجة ثم يكلف نفسه ما لا يطيق إرضاء لزوجة لا تراعي حاله، ولا ترحم ضعفه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلِّ اللهم وبارك على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.

المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 68
الخميس 18 جمادى الأولى 1438 ه‍ـ
...المزيد

شرف المؤمن إن قيام الليل شرف المؤمن، وهو مِن زاد ثباته وفلاحه، وهو أحرى وأرجى لاستجابة دعائه، ...

شرف المؤمن

إن قيام الليل شرف المؤمن، وهو مِن زاد ثباته وفلاحه، وهو أحرى وأرجى لاستجابة دعائه، اقرأ أخي الموحد الأحاديث التي وردت في فضله وقدره، ومنها: عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أتاني جبريل فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه الليل، وعزه واستغناؤه عن الناس » رواه الحاكم والبيهقي وحسنه المنذري.

قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: « ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جُنة، والصدقة تطفيء الخطيئة، كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجلُ من جوف الليل؛ ثم تلا: { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } روه الترمذي بسند صحيح.

فيا أيها الموحد قم لربك في الليل البهيم، مناجيًا العظيم الحليم، متسترًا عن أنظار الخلق، واطمع في العِتق، واخشع بين يدي ربك وارجُ رحمته، وانكسر مستغفرًا تنل مغفرته، واسأله مخلصًا تُجب، واسترضيه يرض عنك، وتب إليه يتب عليك.
...المزيد

الرجاء من الاخ يوسف عبدالله والاخ عبدالسلام الفرحان التواصل معي علي الخاص رجاء بالله عليكم

الرجاء من الاخ يوسف عبدالله والاخ عبدالسلام الفرحان التواصل معي علي الخاص رجاء بالله عليكم

إلى ملحمة دابق الكبرى (٣/٣) هذه هي أحداث ملحمة دابق الكبرى، جهاد واجتهاد، قتل وقتال، ألم وأمل، ...

إلى ملحمة دابق الكبرى

(٣/٣)
هذه هي أحداث ملحمة دابق الكبرى، جهاد واجتهاد، قتل وقتال، ألم وأمل، وليس على الموحّد المجاهد سوى الصبر واليقين في رباطه وقتاله حتى يفرّق الله كلمة أعدائه ويشتّت بين قلوبهم ويخالف بين وجوههم ويلقي بأسهم بينهم، فيضرب بعضهم رقاب بعض، و{عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا}، وما هذه الأحداث العظام في الشمال الشامي -في دابق وما حولها- إلا من إرهاصات الملاحم المقبلة -إن شاء الله- التي ستُرغم الصليبيين -عاجلا أو آجلا- على القبول بشروط جماعة المسلمين، وبعدها وما يتبعها من نصر، يغدر الصليبيون، فتكون ملحمة دابق الكبرى.

واليوم تتجدّد الخلافات القديمة في صفوف أعداء الله، فصليبيو الغرب يخالفون صليبيي الشرق، واختلف أولياؤهم المرتدون، فالأتراك يخالفون الأكراد، وصحوات تركيا تخالف صحوات الأردن، والرافضة يخالفون أكراد العراق، وأكراد الغرب يخالفون أكراد الشرق، والنصيرية يخالفون أكراد الشام، {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14].

وهذا الكر والفر في دابق وما حولها -»معركة دابق الصغرى»- ستنتهي بملحمة دابق الكبرى، لا محالة، بعد أن يأتي تأويل ما وعد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- واقعا، من صلح بين المسلمين والروم ثم غدر الروم بهم، وبعده فتح القسطنطينية (ثم رومية).

عن أبي هريرة، رضي الله عنه: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (سمعتم بمدينةٍ جانبٌ منها في البر وجانب منها في البحر؟) قالوا: نعم، يا رسول الله؛ قال: (لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفا من بني إسحاق [وقال بعضهم: المعروف المحفوظ: (من بني إسماعيل)]، فإذا جاءوها نزلوا، فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر! فيسقط أحد جانبيها -قال ثور: لا أعلمه إلا قال: الذي في البحر- ثم يقولوا الثانية: لا إله إلا الله، والله أكبر! فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولوا الثالثة: لا إله إلا الله، والله أكبر! فيفرج لهم، فيدخلوها فيغنموا، فبينما هم يقتسمون المغانم، إذ جاءهم الصريخ، فقال: إن الدجال قد خرج! فيتركون كل شيء ويرجعون)» [رواه مسلم].

جعله الله على أيدي مجاهدي الخلافة، وكما قال الشيخ أبو مصعب الزرقاوي، تقبله الله: «نجاهد هنا وعيوننا على القدس، ونقاتل هنا وأمدنا روما، حسن ظن بالله، أن يجعلنا مفاتيح البشارات النبوية والأقدار الإلهية» [رياح النصر]، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 50
الخميس 12 محرم 1438 ه‍ـ

• لقراءة المقال كاملاً، تواصل - تيليغرام:
@wmc111at
...المزيد

إلى ملحمة دابق الكبرى (٢/٣) وعن يسير بن جابر أن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: «إن الساعة لا ...

إلى ملحمة دابق الكبرى

(٢/٣)
وعن يسير بن جابر أن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: «إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة؛ ثم قال بيده هكذا ونحاها نحو الشام، فقال: عدو يجمعون لأهل الإسلام، ويجمع لهم أهل الإسلام؛ قلت: الروم تعني؟ قال: نعم، وتكون عند ذاكم القتال ردة شديدة، فيشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فيفيء هؤلاء وهؤلاء، كلٌ غيرُ غالب، وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون شرطة للموت، لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فيفيء هؤلاء وهؤلاء، كلٌ غيرُ غالب، وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون شرطة للموت، لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يمسوا، فيفيء هؤلاء وهؤلاء، كلٌ غيرُ غالب، وتفنى الشرطة، فإذا كان يوم الرابع، نهد إليهم بقية أهل الإسلام، فيجعل الله الدبرة عليهم، فيَقتلون مقتلة -إما قال لا يُرى مثلها، وإما قال لم يُرَ مثلها- حتى إن الطائر ليمر بجنباتهم، فما يخلفهم حتى يخر ميتا، فيتعاد بنو الأب، كانوا مائة، فلا يجدونه بقي منهم إلا الرجل الواحد، فبأي غنيمة يفرح؟ أو أي ميراث يقاسم؟ فبينما هم كذلك إذ سمعوا ببأس هو أكبر من ذلك، فجاءهم الصريخ: إن الدجال قد خلفهم في ذراريهم! فيرفضون ما في أيديهم، ويقبلون، فيبعثون عشرة فوارس طليعة، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (إني لأعرف أسماءهم، وأسماء آبائهم، وألوان خيولهم، هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ) أو (من خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ)» [رواه مسلم].

وعن عوف بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (اعدد ستا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم مُوْتان يأخذ فيكم كقُعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفا) [رواه البخاري].

وروى أبو داود عن ذي مخمر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ستصالحون الروم صلحا آمنا، فتغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم، فتنصرون وتغنمون وتسلمون، ثم ترجعون حتى تنزلوا بمرجٍ ذي تلول، فيرفع رجل من أهل النصرانية الصليب فيقول: غلب الصليب، فيغضب رجل من المسلمين فيدقه، فعند ذلك تغدر الروم وتجمع للملحمة) [رواه أحمد وابن ماجه وأبو داود وابن حبان والحاكم وصححه الذهبي].
ولفظه عند ابن حبّان: (تصالحون الروم صلحا آمنا، حتى تغزوا أنتم وهم عدوا من ورائهم، فتنصرون وتغنمون وتنصرفون، حتى تنزلوا بمرجٍ ذي تلول، فيقول قائل من الروم: غلب الصليب! ويقول قائل من المسلمين: بل الله غلب! فيثور المسلم إلى صليبهم وهو منه غير بعيد، فيدقه، وتثور الروم إلى كاسر صليبهم، فيضربون عنقه، ويثور المسلمون إلى أسلحتهم فيقتتلون، فيكرم الله تلك العصابة من المسلمين بالشهادة، فتقول الروم لصاحب الروم: كفيناك العرب! فيجتمعون للملحمة، فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفا).

فمما يقع قبل ملحمة دابق الكبرى من الأحداث: صلح بين الموحّدين المجاهدين وبين نصارى الروم لتتفرغ كل أمة منهما لقتال عدو آخر، وبعد نصر المجاهدين على العدو خلفهم، تنزل الطائفتان بدابق وما حولها من مروج ذي تلول، ثم يرفع رومي صليبه ويدعو بدعوى النصرانية، فيدق صليبه موحّد غار للواحد الأحد، فتغدر الروم وتجمع لملحمة، ويأتون بالآلاف.

‏ ومنها: أن طائفة من المجاهدين تسبي طائفة من الروم، ثم لا يخذل المجاهدون إخوانهم السابين أو -كما في رواية- من دخل في دين الإسلام من سبي الروم.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 50
الخميس 12 محرم 1438 ه‍ـ

• لقراءة المقال كاملاً، تواصل - تيليغرام:
@wmc111at
...المزيد

إلى ملحمة دابق الكبرى (١/٣) لما ابتُلي المؤمنون بمرضى القلوب والمرجفين في المدينة، وزاغت ...

إلى ملحمة دابق الكبرى

(١/٣)
لما ابتُلي المؤمنون بمرضى القلوب والمرجفين في المدينة، وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر يوم الأحزاب، وظُنّت بالله الظنون المختلفة، كما أخرج الطبري وابن أبي حاتم عن الحسن البصري -رحمه الله- في تأويل قوله سبحانه: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10]، قال: «ظنون مختلفة: ظن المنافقون أن محمدا وأصحابه يُستأصلون، وأيقن المؤمنون أن ما وعدهم الله حق أنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون»، ثم قال {الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12]، كما أخرج الطبري وابن أبي حاتم عن قتادة -رحمه الله- في تأويلها، قال: «قال ذلك أُناس من المنافقين: قد كان محمد يعدنا فتح فارس والروم وقد حُصرنا هاهنا، حتى ما يستطيع أحدنا أن يبرز لحاجته، ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا»...
حينها -في شدّة البأس والضر- علم المؤمنون أن نصر الله قريب، كما أخرج الطبري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]، قال: «ذلك أن الله قال لهم في سورة البقرة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، فلمّا مسّهم البلاء حيث رابطوا الأحزاب في الخندق، تأوّل المؤمنون ذلك، ولم يزدهم ذلك إلا إيمانا وتسليما».

فالمؤمنون يتذكرون آيات الله -جل وعلا- وأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- في خنادقهم، ويتأوّلون ما فيها من الأخبار والعلامات على بلاياهم، لا تُبعدهم الزلازل والشدائد عن تدبّر آيات الله والحكمة، بل تزيدهم في جهادهم واجتهادهم صبرا على البلاء، وتسليما للقضاء، وتصديقا بتحقيق ما وعدهم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بينما يرتاب المنافقون ومرضى القلوب فيستهزئون بوعد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ويطعنون فيه، ويغتر الكفرة والطواغيت بجبروتهم وكبريائهم، ظانين {بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}، أن العزيز الحكيم -سبحانه وتعالى- سيخذل دينه وأولياءه، بل ويظهر أعداءه وكلمتهم، حتى يكون الدين كله لغيره أبدا، تعالى الله عن ظن الجاهلين علوا كبيرا، وإنما يستدرجهم الله من حيث لا يعلمون، فيجتهدون في تحقيق مكر الله بهم، والعاقبة الآجلة {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2].
ومن ذلك أن عُبّاد الصليب وأولياءهم (الأتراك والصحوات) حشدوا في ريف حلب الشمالي معلنين دابق هدفهم الأكبر، زاعمين أن تدنيسها بأقدامهم النجسة وراياتهم الرجسة سيكون انتصارا معنويا عظيما على الدولة الإسلامية، ظانين أن جنودها لا يميّزون بين «معركة دابق الصغرى» وملحمة دابق الكبرى، وعليه، إذا انحازت عن دابق - ثبت الله جنود الخلافة فيها- لم تكن حاملة راية العقاب المنتصرة في الملاحم، ليتركها جندها بعد الانحياز زمرا زمرا.

ولم يعلم عُبّاد الصليب وأولياؤهم المرتدون -وأنّى لهم ذلك- أن ملحمة دابق الكبرى تسبقها أحداث عظام من علامات الساعة الصغرى يعلمها المؤمنون المرابطون في خنادقهم، وهي ما أخبر بها الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- في أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة.

فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق، فيخرج إليهم جيش من المدينة، من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا، قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سُبُوا منا [وفي رواية: سَبَوا منا] نقاتلهم؛ فيقول المسلمون: لا، والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا؛ فيقاتلونهم، فينهزم ثلث، لا يتوب الله عليهم أبدا، ويُقتل ثلثهم، أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث، لا يفتنون أبدا، فيفتتحون قسطنطينية، فبينما هم يقتسمون الغنائم، قد علقوا سيوفهم بالزيتون، إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم! فيخرجون، وذلك باطل، فإذا جاءوا الشام خرج، فبينما هم يعدون للقتال، يسوون الصفوف، إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى ابن مريم -صلى الله عليه وسلم- فأمّهم، فإذا رآه عدو الله، ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حربته) [رواه مسلم].


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 50
الخميس 12 محرم 1438 ه‍ـ

• لقراءة المقال كاملاً، تواصل - تيليغرام:
@wmc111at
...المزيد

تنامي نشاط الدولة الإسلامية في الصومال في الآونة الأخيرة تزاحمت تقارير مراكز الاستخبارات ...

تنامي نشاط الدولة الإسلامية في الصومال

في الآونة الأخيرة تزاحمت تقارير مراكز الاستخبارات الصليبية المموهة، في التحذير من خطر تنامي نشاط الدولة الإسلامية في الصومال، وأنها توسعت وتمددت وعززت من قدراتها، وكالعادة فإنهم يعزون ذلك دوما - وفق نظرتهم الجاهلية - إلى الأسباب المادية البحتة والتي لا تخلو من: "زيادة الاضطرابات الإقليمية" و "وعورة التضاريس الجغرافية" و "تدفق الإيرادات المالية" إلى غيرها من التفسيرات الأرضية المادية، وينسون تماما الشطر الأهم من الرواية وهو أن الجهاد قدر الله تعالى وفريضة من فرائضه وشريعة من شرائعه التي لم تُنسخ ولم تُستبدل، بل هي ماضية باقية ما بقي الصراع بين الإسلام والكفر.

ينسون - الصليبيون والمرتدون - أن الجهاد في شريعة المسلمين ماض ولو تحداه كل طواغيت العرب والعجم، ولو سعت قوى الكفر لمنعه، وهي بالفعل تحاول ذلك منذ بزوغ فجر الإسلام وانطلاق جهاد الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة، بقيادة النبي محمد ﷺ وصحابته العدول.

• افتتاحية النبأ العدد 476
• لقراءة الافتتاحية كاملة، تواصل - تيليغرام:
@wmc111at
...المزيد

معلومات

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً