الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 498 الافتتاحية: بين الجهاد والحج لا يفوّت مشايخ الطاغوت ...

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 498
الافتتاحية:

بين الجهاد والحج

لا يفوّت مشايخ الطاغوت أي فرصة لصدّ الناس عن سبيل الجهاد وإغرائهم بالقعود عنه، ومن ذلك استغلالهم موسم الحج في إخفاء أفضلية الجهاد العيني على فريضة الحج، وتعويم المسألة وإيهام الناس بأن جهادهم هو الحج، وأنه سقف تضحيتهم ومبلغهم من الجهد.

لا شك أن معاني الحج تمتزج بالجهاد امتزاجا كبيرا، وهما فريضتان تحتلان مكانة كبيرة في الإسلام، وقد اقترن الحج بالقتال في مواضع عديدة من القرآن الكريم، وتداخلت آياتهما بما يوحي بعمق العلاقة بين العبادتين؛ لكن هذا لم يُلق في نفوس الأولين الاستغناء بفضل الحج عن الجهاد؛ خصوصا عند تعيُّنه على المسلم كحال أمتنا اليوم التي دهم العدو ديارها واستباح بيضتها ودنّس حماها، فصار بذلك الجهاد فرض عين لا تطوعا.

وهذا الفهم الفاسد تسلل إلى نفوس كثير من المسلمين بسبب دعاة الإرجاف ومُعطّلة الجهاد الذين يتصدرون اليوم لشؤون الحج في بلاد الحرمين وغيرها، ويغرسون في عقول الناس أنّ جهادهم حجهم! وأنّ الحج ينوب عن الجهاد غير أنه لا قتال فيه، ويُهملون عمدا الفروق بين جهاد الدفع والطلب أو جهاد الفريضة والتطوع، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- حسم ذلك الأمر وقرر أنّ الحج جهاد النساء ومن في حكمهم، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلَا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: لَا، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ) وفي رواية: (لَكِنَّ ‌أَحْسَنَ ‌الْجِهَادِ ‌وَأَجْمَلَهُ؛ ‌الْحَجُّ) [البخاري]، وهذا في حال لم يكن الجهاد فرض عين، وتأمل فقه أمهات المؤمنين وهنّ يرين الجهاد أفضل الأعمال ويحرصن عليه ويطلبن من النبي -صلى الله عليه وسلم- المشاركة فيه، بينما فقهاء عصرنا يرون في نفس هذا الحديث إغراء الرجال بالحج عن الجهاد!

ولو انشغل الرجال اليوم بجهاد لا شوكة فيه ولا قتال، فمن يقاتل الكافرين ويقوي شوكة المسلمين، من يصون الحرمات ويدفع عن الحريم، بل من ينبري للذود عن حياض الحَرم ذاته، في ظل الأخطار الداخلية والخارجية التي تحيط به ممثلة بسياسات آل سلول ومطامع النصارى واليهود والرافضة؟!

لقد دلت نصوص السُّنة الصريحة الصحيحة على أن الجهاد المتعيّن أفضل الأعمال بعد التوحيد، متقدّما على الحج الذي جاء في المرتبة الثالثة لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ) [متفق عليه]، قال ابن حجر في الفتح: "فإن قيل: لمَ قدّم الجهاد وليس بركن على الحج وهو ركن؟ فالجواب: أنّ نفع الحج قاصر غالبا، ونفع الجهاد متعد غالبا، أو كان ذلك حيث كان الجهاد فرض عين". أه.

وقد تواترت أقوال فقهاء الملة بتقديم جهاد الفريضة على فريضة الحج، كما قال الإمام المجاهد ابن النحاس في المشارع: "الجهاد إذا صار فرض عين؛ فهو مقدم على حجة الإسلام لوجوب فعله على الفور". أه، ونقل ابن قدامة في المغني عن الإمام أحمد قوله: "ليس يعدل لقاء العدو شيء، ومباشرة القتال بنفسه أفضل الأعمال، والذين يقاتلون العدو هم الذين يدفعون عن الإسلام وعن حريمهم، فأي عمل أفضل منه؟! الناس آمنون وهم خائفون، قد بذلوا مهج أنفسهم". أه، وقال إمام التوحيد والجهاد ابن تيمية في الفتاوى: "وجنس الجهاد أفضل باتفاق المسلمين من جنس الحج"، وبيّن شيخ الإسلام أسباب تقدُّم فريضة الجهاد على ما سواها، واجتماع الفضائل فيها ما لم يجتمع في غيرها فقال: "إنّ نفع الجهاد عام لفاعله ولغيره في الدين والدنيا، ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة؛ فإنه مشتمل على محبة اللّه تعالى، والإخلاص له، والتوكل عليه، وتسليم النفس والمال له، والصبر والزهد، وذكر اللّه، وسائر أنواع الأعمال؛ على ما لا يشتمل عليه عمل آخر". أه.

وحيثما نظرتَ في موضع يتقاطع فيه الجهاد والحج؛ قادك بلا ريب إلى أفضلية جهاد الفريضة، وبصّركَ بالحكمة من ذلك خصوصا في زماننا.

فمثلا، يتقاطع الحج مع الجهاد في التضحية بالمال والجهد والمشقة، فلا حج بغير سفر ولا سفر بغير عناء، ولعل مساحة ذلك تضيق اليوم في ظل تطور وسائل النقل وسبل الإعاشة والراحة التي تتوفر للحجيج خلافا لما كان عليه الحال في السابق، ومع ذلك هل يستوي اليوم بذل الحجيج وتضحيتهم ومشاقهم وسائر جهدهم، بجهاد المجاهدين وتضحيتهم وهجرتهم وشظف عيشهم، الحاملين أرواحهم على أكفهم الباذلين أنفسهم دون دينهم وأمتهم؟!

ويتقاطع الحج مع الجهاد في تحقيق التوحيد، فالحج من أول مناسكه إلى آخرها يقرر التوحيد لله وينفي الشرك، والجهاد إنما شُرع لأجل حماية جناب التوحيد وتحقيقه ودعوة الناس إليه وأطرهم عليه وسوقهم إلى الجنة بالسلاسل.

وبالنظر إلى شيوع الشرك اليوم وحراسة الحكومات والجيوش له، ندرك فضل الجهاد ومدى العوز إليه، وأنه السبيل الوحيد لمقارعة الشرك ونبذه وصد عاديته، كما ندرك أيضا أن الدعاة إلى التوحيد مجرّدين من سيوف الجهاد؛ لم يعودوا قادرين على القيام بالدعوة على الوجه الذي أمر به الشارع الحكيم، وما يصلنا من أنّات وزفرات دعاة التوحيد في ديار الكفر يغني عن مزيد بيان، والله المستعان.

كما يتقاطع الحج مع الجهاد في تحقيق الوَحدة بين المسلمين التي تظهر في مظاهر الاجتماع من كل أقطار الأرض بلباس وشعار ونسك واحد، لكنها وَحدة مؤقتة بميقات الحج سرعان ما تتلاشى، ولا سبيل لإقامتها وإدامتها إلا بالجهاد خلف إمام يقيم الشرائع ويعظم الشعائر ويذيب الفوارق ويصهرها في بوتقة الإسلام.

ويتقاطع الحج مع الجهاد في بقائهما إلى قيام الساعة، لكن مقارنة بحجم المؤامرات المحدقة بالحرم وبلاد الوحي، ندرك أن الجهاد هو الأجدر بصون شعيرة الحج وسائر الشعائر، وقد يخفى هذا اليوم على الكثيرين ولكن لن يدوم خفاؤه مستقبلا، ولعل هذا من حِكم الله تعالى في بقاء الجهاد إلى قيام الساعة.

نخلص من كل ما سبق إلى أسباب تفضيل جهاد الفريضة على فريضة الحج، وأنه كلما اشتدت المحنة والهجمة على الإسلام؛ اشتدت الحاجة إلى الجهاد وتجلّت حكمة تفضيله وعلوه على ما سواه حتى احتل الذروة بلا منازع.

ولذلك يجب على المسلمين أن يقدِروا الجهاد قدره وينزلوه منزلته فإنه صمام أمانهم وسبيل نجاتهم والوسيلة الربانية التي اختارها الله لهم لحماية دينه وإعزاز شرعه، وبهذا سبق الجهاد والمجاهدون.

ختاما نسأله تعالى أن يتقبل من إخواننا المسلمين حجهم، وأن يهديهم سبيل نبيهم في الجهاد فهو تجارة لا تبور، وهم بحاجته أشد ما يكونون، {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}.


صحيفة النبأ – العدد 498
السنة السادسة عشرة - الخميس 9 ذو الحجة 1446 هـ

المقال الافتتاحي:
بين الجهاد والحج
...المزيد

طواغيت الخليج وظيفة واحدة.. بأساليب مختلفة تستمر الأزمة المشتعلة بين طواغيت الخليج، كاشفة عن ...

طواغيت الخليج
وظيفة واحدة.. بأساليب مختلفة


تستمر الأزمة المشتعلة بين طواغيت الخليج، كاشفة عن مدى النزاع بينهم، الذي أخذ خلال العقود الماضية أشكالا عديدة، تمحورت في الغالب على محاولات جاهدة من قبل كل منهم على الاستقواء على خصومه بأمريكا، وذلك من خلال السعي لاسترضائها بأي شكل ممكن، ومحاولة كل منهم أن يثبت أنه الأشد ولاءً لها، والأقدر على تنفيذ مخططاتها في المنطقة، والأجدر بأن يوكَّل بالمهام، وتُسند إليه المسؤوليات، في سبيل تحقيق مصالح أمريكا الاستراتيجية والاقتصادية.

ولعل أهم أدوات الصراع بين هؤلاء الخصوم المتشاكسين، هي سعي كل منهم إلى امتلاك أكبر عدد ممكن من الأوراق التي يبقيها في يده، ويظهرها باستمرار لسادته الأمريكيين، ويستخدمها في حرق الأوراق التي في أيدي خصومه، وفي النهاية التضحية بهذه الأوراق وحرقها عندما تصبح تكاليف الحفاظ عليها أكبر من المردود المتوقع منها.

وهذا ما رأيناه واضحا جليا في مرحلة الجهاد في العراق إبان الاحتلال الأمريكي المباشر، فمع الاستنزاف الكبير للجيش الأمريكي على أيدي المجاهدين في العراق، والعجز الواضح للإدارة الأمريكية عن تحقيق النصر على المجاهدين، أو على الأقل الخروج من المأزق بأقل الخسائر، وبعد سلسلة طويلة من المحاولات التي أثبتت فشلها، وأرهقت الميزانية الأمريكية بمزيد من التكاليف، وجد قادة الجيش الأمريكي أن لا مناص لديهم من الاستعانة بالمنتسبين إلى أهل السنة، في قتال الدولة الإسلامية، بعد سنوات من عدم الثقة بهم، والخوف من ولائهم لأهل الجهاد، أو ميل كثير منهم إلى نظام البعث الكافر الذي أسقطه الصليبيون.

وهكذا بدأت خطة الصحوات التي وضعت الإدارة الأمريكية كل ثقلها وراءها، ورصدت لها مليارات الدولارات، وجاء دور الطواغيت في المنطقة ليأخذ كلٌّ منهم دوره في هذه الخطة.

فأمسك طواغيت أبو ظبي والرياض وعمّان بورقة الصحوات العشائرية والمناطقية، فموّلوا رؤوسها، ووفروا لهم الفتاوى التي تبرر ردّتهم وعمالتهم للصليبيين من علماء السوء التابعين لهم، ودعموهم إعلاميا وسياسيا.

في الوقت الذي أمسك فيه طواغيت قطر والكويت تساندهم تركيا، بورقة صحوات الفصائل، ودعموهم من خلال ستار رقيق عماده الجمعيات الخيرية، والمنظمات التي يسمّونها "إسلامية"، والتي بدأت تضخ الأموال في جيوب قادة فصائل الصحوات وعلماء السوء الذين جندتهم أجهزة المخابرات، وأضفت عليهم حجاب "الاستقلالية" ليخدعوا بهم السذّج والمغفلين، وتولَّى هؤلاء شنَّ هجوم كبير على الدولة الإسلامية، ووصفها بالغلو والخارجية، والتحريض على قتالها.

وهكذا، حمل كل من الطواغيت جزءاً من الحمل في تحشيد المرتدين من أهل السنة في العراق ضد الدولة الإسلامية، لإنقاذ أمريكا من الهزيمة الساحقة لها على أيدي المجاهدين، وبالرغم من أداء كل من جناحي الصحوات، من مرتدي الفصائل والعشائر المهمة نفسها، وتبرير عمالتهم لأمريكا بالكذبة نفسها وهي التصدي لإيران، فإن التنافس بينهما كان حادا جدا، لنيل الرضا الأمريكي من جهة، وانعكاسا للصراع بين الداعمين لكل طرف من جهة أخرى.

حتى إذا أدى كل منهما وظيفته، تخلت عنهم أمريكا، وأسلمتهم كليهما للروافض، فمزقوهم شر تمزيق، وأنهوا وجودهم تماما، حتى لم يبق منهم إلا أسماء وهمية، وبعض قادتهم الذين تُؤويهم عواصم الدول التي كانت تدعمهم، وتحرص على إبقائهم لديها، للاستفادة منهم في مشاريع مستقبلية، فتعمل على إحياء صحواتهم من جديد، لتفاوض عليهم، وتنافس بهم.

وقد كرّر هؤلاء الطواغيت اللعبة ذاتها في ليبيا والشام، وبالأدوات ذاتها تقريبا، وانقسم مرتدو الصحوات في كل الحالات إلى القسمين ذاتهما تقريبا، ثم كان لهم المصير ذاته، وهكذا تستمر لعبة الصراع بين طواغيت الخليج، بالأسلوب عينه، والأدوات عينها، ومصادر القوة نفسها، المتمثلة بالمال ووسائل الإعلام وعلماء السوء المرتبطين بهذا الطاغوت أو ذاك.

إن عبث هؤلاء الطواغيت بساحات الجهاد، وتأليبهم المرتدين ضد الدولة الإسلامية في كل مكان، ليس أهون من جرائمهم التي لا تعدّ، والتي أبرزها حكمهم بغير ما أنزل الله تعالى، وولاؤهم المطلق للصليبيين، واحتضانهم لقواعدهم العسكرية، وتمويلهم لحروبهم ضد المسلمين، بل ومشاركتهم الفعلية في قصف مدنهم وقراهم بطائراتهم، وهم في ذلك أنداد متشابهون لا يختلفون إلا في الطريقة التي يؤدون بها هذه الجرائم، وينفذون بها هذه المهمام.

وإن حكمهم في الدنيا واحد، وهو الكفر، وإن قتالهم جميعا فرض واجب على كل المسلمين، وهذا ما يقوم به جنود الدولة الإسلامية اليوم، بفضل الله، وسيستمرون على ذلك حتى يزيلوا كل هؤلاء الطواغيت ويحكموا ما تحت أيديهم من أرض بشريعة رب العالمين.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 92
الخميس 10 ذو القعدة 1438 ه‍ـ
...المزيد

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 497 الافتتاحية: يا جنود الله هبوا ينبغي للمجاهد أن ...

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 497
الافتتاحية:

يا جنود الله هبوا

ينبغي للمجاهد أن يستغل المواسم الإيمانية في تجديد همته وإذكاء جهاده، وقد أظلكم معاشر المجاهدين عشرٌ مباركاتٌ علا قدرهنّ وعظُم أجرهنّ وتسامت أخبارهنّ، وكنّ بحق خير أيام العام، ومع ذلك لم يغب الجهاد عنهنّ وألقى بظلاله عليهنّ كما في الصحيح: (مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ). قالُوا: وَلا الْجِهَادُ؟ قَالَ: (وَلا الْجِهَادُ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيءٍ) [البخاري]

المتابع للحوار السابق الذي دار بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام في محضر الحديث عن تفضيل العمل في العشر على العمل في سواهن؛ يلحظ كيف أن الصحابة لم يتبادر إلى ذهنهم عمل يزاحم هذه الأفضلية سوى الجهاد في سبيل الله، فسألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- متعجبين مستغربين: "ولا الجهاد في سبيل الله؟" لم يقولوا: ولا الصدقة؟ ولم يقولوا: ولا الصلاة أو الصيام أو القيام..؟ بل خصّوا الجهاد من بين سائر الأعمال لعلوّ قدره ورسوخ مكانته في نفوسهم إلى الحد الذي جعلوه علامة فارقة يقيّمون بها الأعمال، واستغربوا أن يكون هناك عمل صالح يربو فضله على الجهاد، كيف لا وهم تلاميذ النبي المجاهد -صلى الله عليه وسلم- وغرْس يديه الشريفتين ونتاج تربيته الإيمانية الجهادية التي حفرت في قلوبهم وعقولهم أن الجهاد لا يعدله شيء وأنّه عزّ الأولين والآخرين.

جواب النبي -صلى الله عليه وسلم- استثنى من المفاضلة مجاهدا (خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيءٍ). وعلماء الملة على أن المفاضلة بين أعمال العشر والجهاد إنما هي في الفضائل لا الفرائض، والجهاد اليوم فرض عين لا نافلة، ومع ذلك فإنّ الحالة التي ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم- للمجاهد المخاطر بنفسه هي صورة لا تنفك عن أحوال المجاهدين في زماننا، فهم في كل يوم يخاطرون بأرواحهم ويضحّون بأغلى ما يملكون، وقد هاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم في سائر الأيام والشهور وسائر البقاع والثغور.

فأنت يا جندي الخلافة تستطيع أن تكون هذا المجاهد الفريد الذي وصف حاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مفضِّلا جهاده على العمل الصالح في هذه الأيام المباركات، فكيف لو جمعتَ بين أجر هذا الجهاد المتفرّد وأجر هذه العشر، فنلتَ أعلى المرتبتين وأجمعهما وأتمهما بإذن الله تعالى.

إنها فرصة عظيمة لك أيها المجاهد لتحوز خيرية الجهاد في خيرية هذه الأيام، ولئن كانت الشريعة قد أمرت بالتعرض لنفحات الدهر ومواسم الأجر، ألا فتعرّضوا أيها الأباة لمواطن الطعان والشهادة في سبيل الله في هذه الأيام استبسالا في القتال وتحقيقا للنكاية وجلبا للإثخان، فإن صدور المؤمنين عطشى للثأر ممن ولغوا في الدماء والأعراض، وإنّه لا شيء يطفئ ظمأ الثأر كالدماء! وليس أنفى للقتل من القتل.

أيها المجاهدون لقد حال بينكم وبين بيت الله الحرام الحوائل وأعاقكم عن الطواف به العوائق، وأنتم معذورون في ذلك فلم تستطيعوا إلى البيت سبيلا، وكلكم يتمنى لو زاحم مناكب الحجيج في أطهر البقاع وأشرف الأزمان، ولكن قضاء الله والحكم حكمه، فلئن كان الحال كذلك ألا فزاحموا مواكب الفداء ولبّوا نداء الجهاد وانطلقوا كل في ثغره فشدوا على عدوكم وابذلوا أنفسكم تقبل الله بذلكم، واضربوا رقاب الكافرين واسفكوا دماءهم تقبل الله أضاحيكم كما كان دأب إخوانكم من قبل.

أيها المجاهدون المرابطون على ثغور الشريعة، إن لكم أجر السائرين الساعين في بيت الله الحرام بالنية وإنْ لم تحجوا البيت، كما قال ابن رجب: "القاعد -يعني عن الحج- لعذر، شريك للسائر وربما سبق السائر بقلبه السائرين بأبدانهم".

فكيف وأنتم نقيض القعود ومادة الجهاد وسُعاته وكماته ورأس حربته في هذا الزمان الذي تمايزت فيه الصفوف تمايزا لم نشهده من قبل.

ولئن وقف الناس بعرفات وفاتكم ذلك، فلقد وقفتم موقفا يحبه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقفتم على ثغور المسلمين تذودون عن حياض الشريعة وبيضة الإسلام، وتذكروا أن القاسم الأكبر بين الحج والجهاد هي ملة إبراهيم -عليه السلام- الذي يطغى اسمه على مناسك الحج من أولها إلى آخرها التي تضج بالتوحيد لله تعالى، والجهاد اليوم هو التطبيق العملي لتلك الملة التي أوحى الله إلى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- باتباعها فتأمل.

معاشر الأجناد، نظرنا في كتب الوعظ فلم نجد موعظة أبلغ من الوصية بالتقوى فاتقوا الله وأطيعوه، ونظرنا في كتب التوحيد فلم نجد أحكم له وأضبط من المفاصلة ففاصِلوا المشركين واعتزلوهم، ونظرنا في كتب الرقائق فلم نجد أنفع للقلب من الورع والخشية، فتورعوا عن مواطن الريبة، واخشوا ربكم سبحانه، {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.

يا جنود دولة الإسلام في كل مكان إن الله قدّر لكم أن لا يكون سبيل وصولكم إلى بيت الله الحرام عبر الوثائق والجوازات على متن المدارج والطائرات كما هو شأن عامة الناس، بل إن سبيلكم إلى بيت الله الحرام لن يكون بغير الجهاد وبغير تطهير طرق الوصول إليه من قطاع الطرق طواغيت الحكم وجيوشهم الكافرة، فكونوا على قدر المسؤولية فالطرقات تغص بهؤلاء.

وأيقنوا بأن كل معركة تخوضونها أيها المجاهدون في سهل أو جبل، تقربكم أكثر فأكثر من الوصول إلى بلاد الوحي التي دنسها الصليبيون والمرتدون والأمر نفسه ينطبق على بيت المقدس، فلا توقفوا معارككم ولا تلينوا لعدوكم ولا تستوحشوا لكثرة المتساقطين وقلة الثابتين فالقلة المؤمنة انتصرت عبر تاريخ الإسلام بقوة إيمانها وعمق تجردها وشدة إخلاصها لمولاها، فنعم القلة الثابتة على الدرب، وسحقا لمن بدّل وغيّر وباع الباقية بالفانية.

معاشر المجاهدين لا شك أن الشوق إلى المسجدين الحرام والأقصى يختلج الصدور ولا يدرك حرّ ذلك الشوق إلا من أنزل المسجدين قدرهما تديُّنا واعتقادا، فالمسلم لا يرى فيهما مزارات سياحية ولا أطلالا تاريخية، بل يراهما إرثا عقديا مقدسا صانه السابقون بدمائهم وضيّعه الأخلاف يوم ضيعوا الكتاب والسنة واتبعوا السبل فتفرقت بهم عن سبيل الله.

ألا فأطفئوا لظى الشوق إلى المقدسات بوصل المفخخات وصلي الراجمات، وأشعلوا العشر وسائر الدهر على الكافرين جيوشا وحكومات، وسعّروا الهجمات تلو الهجمات، وتخطفوا الجواسيس وتقصدوا القيادات، ونخص بالتحريض المجاهدين المنفردين بين ظهراني العدو، فيا جنود الله هبوا واغتنموا عشركم بخير العمل، الجهاد في سبيل الله على منهاج نبيكم، جهادا يقربكم من مكة والقدس ودمشق فكلهن أسيرات ينتظرن الخلاص.

أيها المجاهدون سرعان ما تمضي العشر وتنقضي أيامها ويبقى الجهاد ماضيا وسيفه مشرعا وركبه مسرعا لحق به السابقون وتخلف عنه المخلَّفون، ولئن كانت مواسم الطاعة ونفحاتها تنقضي بانقضاء الشهور والدهور، فقد أبقى الله لكم بفضله الجهاد موسما أبديا لا ينقضي إلى قيام الساعة، فأحسنوا اغتنامه فإنّه عزكم في الدنيا والآخرة، والله لا يخلف الميعاد.


• المصدر:
صحيفة النبأ – العدد 497
السنة السادسة عشرة - الخميس 2 ذو الحجة 1446 هـ

المقال الافتتاحي:
يا جنود الله هبوا
...المزيد

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 496 الافتتاحية: محرقة المعسكرات كما لو أنّه في سوريا ...

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 496
الافتتاحية:

محرقة المعسكرات

كما لو أنّه في سوريا أو العراق، اضطر "حاكم برنو" النيجيرية المضطربة إلى إعلان "حظر بيع الوقود" في مناطق محددة وعلّل قراره المأزوم بالقول إنّه "يُقيّد حركة الإرهابيين ويُضعف قدرتهم على شنّ الهجمات!".

ما سبق ليس خبرا ساخرا، بل هو إجراء أمني رسمي اتخذته الحكومة النيجيرية المرتدة ضمن آخر حلولها لمواجهة "الإرهاب" في نفس المنطقة التي أعلن "حاكمها" بنفسه مرارا الانتصار فيها، بينما عاد اليوم مجددا يتوسل الدعم الصليبي ويحذّر من فقدان السيطرة عليها.

المجاهدون في غرب إفريقية جعلوا دماءهم الزكية وقودا لإشعال جذوة الجهاد وباعوا أرواحهم إلى باريها نصرة للإسلام، ثم يظن هذا المأفون أنّ "منع الوقود" يحول دون مضاء جهادهم وإتمام بيعهم واستمرار هجماتهم التي لم تتوقف منذ أكثر من عقد من الزمان، ولله الفضل أولا وأخيرا.

الخطوة اليائسة جاءت بعد تصاعد هجمات مجاهدي الدولة الإسلامية ضد القوات النيجيرية وحلفائها، ضمن "محرقة المعسكرات" التي طالت نحو 19 معسكرا وقاعدة للجيش النيجيري وامتدت إلى الجانب الآخر من الحدود لتطال قوات الكاميرون والنيجر.

أملا في تدارك الموقف، عقد قادة الجيش النيجيري العديد من الاجتماعات الأمنية الطارئة كان أبرزها اجتماع "رئيس أركان الجيش" مع الطاغوت النيجيري في القصر الرئاسي، غير أنّ الاجتماع السيادي لم يخرج بحل للأزمة الأمنية سوى تصديرها إلى جيرانهم في دول الساحل حيث وصفوا الهجمات بأنها "جزء من ضغط يمارسه الإرهابيون في الساحل، وامتد إلى نيجيريا بسبب الطبيعة الهشّة لحدودنا"، وتناسى هؤلاء أنّ دول الساحل هي الأخرى نالت نصيبها من الهجمات والأزمات، فهل هجمات الساحل هي أيضا نتيجة لهجمات نيجيريا وهشاشة حدودها؟!

على الهامش، يمثّل هذا التبرير اعترافا ضمنيا بأنّ الدول الإفريقية فشلت في الحرب على المجاهدين حتى صار طواغيتها يتراشقون التهم ويتقاسمون الفشل والملامة في حربهم ضد الإسلام، تماما كما يتقاسمون الندامة والملامة يوم الحساب، فخسارة الكافرين تتفاقم وتمتد إلى الدار الآخرة! بينما يتعاظم فيها ربح المجاهدين ويكتمل، إنّها معادلة عادلة وتجارة رابحة لا يعطلها "نقص وقود" أو "فرض قيود" وهذا ما لا يفقهه الكافرون ولا يستيقنه المرتابون.

"محرقة المعسكرات" التي وثّقها إعلام المجاهدين بالصوت والصورة؛ أظهرت حقيقة الجيش النيجيري المصنّف إفريقيًّا بأنه الأكبر والأقوى، فجنوده بدوا أكثر ذعرا وأسرع فرارا حتى الآن، ما يعكس تدنّي معنوياتهم وفقدانهم إرادة القتال بعد سنوات طوال من الحرب المكلفة المرهقة على الدولة الإسلامية.

في الجانب الشرعي وفّرت "محرقة المعسكرات" مصدر إمداد للمجاهدين بالسلاح والعتاد أسوة بنبيهم صلى الله عليه وسلم القائل: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي)، فصارت المعادلة بكل وضوح إفراغ مخازن الكافرين في مخازن المجاهدين، قهرا وغلبة وغنيمة ساقها الله بفضله إلى عباده تحت ظلال بنادقهم التي لم تضل طريقها، ولم تتلوث بالدعم المشروط والتحالفات المشبوهة كما يفعل الآخرون.

الصحفيون الصليبيون أصابهم السّعار وهم يرون تهاوي قواعد حلفائهم المرتدين في نيجيريا، وبينما انهمكوا في إحصاء الخسائر والتنقيب عن أسباب تلك المحرقة؛ فاتهم وغيرهم أنّ رأس حربة هذه الهجمات كانوا فتيان الخلافة اليافعين الذين تخرجوا من معسكرات الدولة الإسلامية ومعاهدها الشرعية، فكانت تلك الاقتحامات تطبيقا عمليا لما تعلموه في تلك المحاضن الشرعية التي يكون فيها العلم للعمل لا للجدل، أباة كماة نشأوا في ظلال الشريعة ونهلوا من معينها ودرجوا في ربوعها على الإيمان والجهاد والجلد، فكانوا بحق درة إفريقية وطليعتها المجاهدة الماضية الساعية بإذن الله تعالى إلى تغيير وجه المنطقة وإخضاعها لحكم الإسلام الذي عزّ به المسلمون قديما، ولا عزّ لهم بغيره في المستقبل.

من أجل مستقبل الإسلام، ندق نواقيس الخطر ونقرع أسماع وقلوب المسلمين العرب ممّن تخلفوا وتأخروا وقعدوا عن اللحاق بميادين الجهاد ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فإنّ إفريقية بغربها وشرقها ووسطها وساحلها وما خفي منها، هي ساحة جهاد ناشئة تجلّت فيها سُنّة الاستبدال لمن تخلّف وأحجم، فاتقوا الله وأدركوا أنفسكم فإنّ سنن الله لا تحابي.

في الشق العسكري الإيماني، مثّلت سرعة الإغارات والانسحاب لسرايا الاقتحام رغم تدخل الطائرات؛ عنصر نجاح لهذه الهجمات التي سبقها بلا شك تخطيط وإعداد وأسباب وتوكل على الله تعالى وحسن ظن به مصحوب بالعمل مغمور بالتعب ممزوج بالجهد، ولا يكون حسن الظن والتوكل بغير ذلك.

كما أجاد المجاهدون في حصار المعسكرات ومباغتتها وقطع طرق إمدادها أثناء الهجوم وفصلها عن مؤازراتها، عبر الانتشار المسبق ورصد التحرُّكات وتلغيم المدقّات ونصب الكمائن على الطرقات؛ إلى حدٍّ صار فيه العدو أحيانا عاجزا عن إرسال أي دورية مؤازرة أثناء الهجوم، بينما كانت حركة دورياته باتجاه واحد فقط هروبا بعيدا عن المحرقة.

"محرقة المعسكرات" انتقل فيها المجاهدون من الدفاع إلى الهجوم وأخذوا زمام المبادرة وأربكوا مخططات العدو وأنهكوا قواته وبدّدوا حملاته التي تبحث منذ سنوات طويلة عن النصر بين غابات نيجيريا، بينما هي اليوم لا تقدر على حماية كبرى قواعدها المركزية كما رأينا في "مارتي" على سبيل المثال.

أمام هذا المد الجهادي الإفريقي المبارك لفرسان الإسلام البررة، نوصي إخواننا المجاهدين في غرب إفريقية بالصبر والاحتساب في هذا الطريق، وإدامة الهجمات على المعسكرات والتوغل أكثر لضرب مراكز القوات، فلا يدعون له فرصة لالتقاط أنفاسه، كون هذه الهجمات تحقق عنصر مبادرة يصير فيها العدو مدافعا، والمجاهد مهاجما يسدد الضربات.

كما نجدد الوصية لإخواننا المجاهدين في سائر الولايات، بإرجاع الفضل في كل نصر وظفر إلى الله الملك العلام فهو مدبر الأمر وولي التوفيق سبحانه، ونذكرهم بأن ينسبوا التقصير والزلل إلى النفس والشيطان، وأن يسارعوا إلى تداركه ودفع أسبابه بالتوبة والإحسان فالمجاهد بمولاه سبحانه، به يصول ويجول وينتصر، وبغيره فالباب موصد، فجددوا العزم والإيمان وامضوا في طريقكم ولا تتعجلوا موسم الحصاد، فإنّه متى حان طابت ثمرته، واثبتوا فإنّ العاقبة للمتقين.


• المصدر:
صحيفة النبأ – العدد 496
السنة السادسة عشرة - الخميس 24 ذو القعدة 1446 هـ

المقال الافتتاحي:
محرقة المعسكرات

لقراءة الصحيفة كاملة.. تواصل معنا تيليجرام:
@WMC11AR
...المزيد

الدولة الإسلامية صحيفة النبأ إذاعة البيان أخبار الدولة الإسلامية إصدارات فهرس الأنصار باقية دولة ...

الدولة الإسلامية صحيفة النبأ إذاعة البيان أخبار الدولة الإسلامية إصدارات فهرس الأنصار باقية دولة الخلافة



أخي المسلم.. للوصول للمواد راسلنا على منصة تيليجرام:

@wmc11a11

أو قم بزيارة موقع فهرس الأنصار
#تنبيه / يجب تفعيل الـVPN

https://fahras.co.za/
...المزيد

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 495 الافتتاحية: على عتبة ترامب! "الفكرة هي أن الوصول ...

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 495
الافتتاحية:
على عتبة ترامب!

"الفكرة هي أن الوصول المباشر إلى ترامب هو السبيل الوحيد، لأن هناك العديد من الأيديولوجيين داخل الإدارة الأمريكية يصعب تجاوزهم". هكذا عبّر أحد الصليبيين عن الموانع التي قد تحجب الجولاني عن نيل الرضا الأمريكي والظفر بالحظوة الترامبية، لذلك كان الحل هو لقاء ترامب ومخاطبته بغير ترجمان أو حجاب للانطراح على عتبته والتذلل على بابه! في وثنية معاصرة بنكهة ثورية تولى كبرها هذا المخذول في بلاد الوحي في الأشهر الحرم!

الرماديون لطالما روّجوا أن خلاف الدولة الإسلامية مع الجولاني وأشباهه؛ كان خلافا سياسيا حزبيا لا منهجيا عقديا، واليوم يتضح بالصوت والصورة حقيقة الخلاف وأنه بين التوحيد والشرك! بين الإسلام والديمقراطية! بين من سيدهم محمد صلى الله عليه وسلم وسيدهم ترامب الذي صار لقاؤه وإرضاؤه "إنجازا تاريخيا" يحتفل به "الثوريون" ويتراقصون في ساحة الأمويين بحجة رفع العقوبات الأمريكية فمن يرفع العقوبات الإلهية؟!

في الصورة الواسعة للقاء ترامب بالجولاني، لا شيء في غير محله، فقطع الأحجية ما زالت تنتظم وفقا لنفس التسلسل الذي بدأ بإخراج إيران من المشهد السوري ثم تنصيب الضبع خلفا للأسد! بإشراف تركي أمريكي، إنها رزمة واحدة على طاولة الصفقات الدولية مربطها الحرب على الإسلام وحماية المصالح الدولية.

سياسيا، لا شك أن المليارات السعودية القطرية والتعهدات التركية أقنعت ترامب بأن يقتطع وقتا قصيرا من جدوله المزدحم، لقضائه مع الجولاني لمنحه "فرصة عظيمة"، حيث قدم طواغيت الخليج إلى سيدهم الأمريكي الكثير من الصفقات التجارية المغرية، لكن ما الذي يمكن أن يقدمه له الجولاني "اليافع" الذي لا يملك سوى هوسه بالسلطة وإرثٍ كبيرٍ من الغدر والخيانة!

يبرّر الثوريون ومعهم الجهاديون تنازلات الجولاني السابقة واللاحقة بأنها صفقات سياسية من أجل مستقبل بلاده، الذي يبدو أنه لا يقوم إلا باستجلاب الرضا الأمريكي واليهودي، فهل سيرضون عنه؟ إنها صفقات خاسرة بدأها الجولاني مبكرا قبل وصوله للحكم بسنوات طويلة، صحيح أنها منحته الرئاسة، لكنها سلبته دينه وشرفه حتى صار اسمه علَما على عداء الشرع والشرف.

منهجيا، نقض الجولاني "ملة ابراهيم" وحاربها بكل قوته، فلا غرو أن يستبدلها بـ "اتفاقيات أبراهام" التي تهدف إلى تعزيز جدر الحماية لدويلة اليهود وشد حبال الولاء لهم، وهو ما كان واضحا صريحا في المطالب الأمريكية التي أملاها ترامب على الجولاني، وتتلخص في موالاة اليهود تحت مسمى "التطبيع" ومحاربة الدولة الإسلامية وشد وثاق أسراها في سجون شرق الفرات، وهي القاعدة الأساسية التي بموجبها سمحت أمريكا لتركيا بإحلال الجولاني خلفا للأسد، فهل يوغل الجولاني في تولي اليهود أم يكتفي باتفاقيات حماية الحدود؟!

نعود إلى الوراء قليلا لنستذكر كيف كان الجولاني يلمز التجربة العراقية لدولة الإسلام، ويقول إنه لا يريد تكرارها، فهل عرفتم الآن ماذا كان يقصد بذلك؟ إنه يقصد أنصع ما فيها ولاءها وبراءها ومفاصلتها، إنه لم يعب عليها غير التوحيد الخالص والولاء للمؤمنين والبراء والمفاصلة التامة للكافرين، هذه هي التجربة التي فرّ منها الجولاني إلى أحضان ترامب وماكرون وابن سلمان وأردوغان! {وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}.

وكان من الإملاءات الأمريكية على الجولاني، التخلص من "المقاتلين غير السوريين" الذين قاتلوا إلى جانبه طويلا ولم يسلموا من غدره واستطاع في النهاية أن يفكك جماعاتهم -مستقلين وغير مستقلين-، وينهي مشروعهم الذي طوّعه لخدمة مصالحه دهرا، فنستغل الفرصة لنخاطب هؤلاء دعوة ونصحا وإعذارا إلى الله تعالى فنقول: لقد نصحكم قادة الدولة الإسلامية مرارا وصدقوكم النصح لكنكم تخلفتم وأعرضتم وها أنتم تدفعون الثمن تماما كما حذروكم! وما زالت الدعوة مفتوحة لكم، لا تجعلوا أنفسكم ورقة يحرقها الجولاني كسبا للرضا الدولي، فيا لها من خسارة أن تنتهي رحلتكم إلى الشام على هذا النحو، فتوبوا وعودوا والتحقوا بسرايا الدولة الإسلامية التي تنتشر بين ظهرانيكم في الأرياف والأطراف، ومن يطرق الباب يجد الجواب.

من زاوية أخرى يعكس الحدث وهم السيادة التي تتحدث عنها الحكومات المرتدة، فهي بدون الدعم والرضا الدولي لا شيء! فها هي دولة الجولاني المدنية تنتظر نظرة رأفة من ترامب وفرصة منه، إنها عبودية تامة بكل المقاييس.

لقاء ترامب بالجولاني قد يمنح الأخير فرصة للتكفير عن سوابقه الجهادية واستجلاب بعض المكافآت السياسية، لكن ذلك لن يكون كافيا، وسيبقى الجولاني وزمرته تحت رحمة الابتزاز الأمريكي لإثبات تفانيهم في حرب الجهاد، فتصبح كل منحة سياسية ينتظرونها، تقابلها حرب على المجاهدين يشنونها أو مصلحة للكافرين يحققونها، فتنشأ حالة من الاقتران الشرطي بين "الخيانة" و "المكافأة" على طريقة "بافلوف" مع "الكلب!" الذي أخضعه لتجارب عديدة في مختبراته حتى نجح في التحكم بسلوكه، هكذا تقول دراسات "علم النفس" الذي صممت بناء عليه أجهزة المخابرات كثيرا من أساليبها.

وبينما القرابين الشركية تتزاحم عند العتبة الترامبية، تزاحم الصليبيون فوق تلة "دابق" للبحث عن رفات قتلاهم الذين فشل الجولاني في خدمتهم أحياء، فعاد يخدمهم أمواتا ورفاتا، لتبقى دابق حاضرة في مشهد الصراع بين الإسلام والكفر رغم أنوف الكافرين والمنافقين، وما زال المجاهدون يسيرون إليها بخطى واثقة مؤمنة موقنة بوعد الله تعالى ووعد رسوله.

ومجددا تثبت الأحداث عمق بصيرة الدولة الإسلامية في الحكم على مناهج الجماعات بعيدا عن العواطف والغلو والإرجاء، فاحمدوا الله يا جنود الخلافة حمدا كثيرا على ما آتاكم من فضله، وما أنعم عليكم من الهداية، وما وفقكم إليه من الاعتصام بالكتاب والسنة، فهذا هو الفوز والإنجاز الذي يُحتفى به وتسيل لأجله الدماء، ولتذهب الدنيا وزخرفها وليسلم لكم إسلامكم وثباتكم على صراط الله الذي حاد عنه الكثيرون في زمان يصبح فيه الرجل مؤمنا ويمسي كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا!

ختاما، صرح الطاغوت الجولاني عقب لقائه بترامب أن "سوريا بلد السلام" بينما يقول النبي صلى الله عليه وسلم إنها أرض الملاحم، فأي الوعدين تصدقون؟



• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 495
السنة السادسة عشرة - الخميس 17 ذو القعدة 1446 هـ

لقراءة الصحيفة كاملة.. تواصل معنا تيليجرام:
@WMC11AR
...المزيد

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 493 الافتتاحية: الحروب النفسية ينبغي للجماعة المسلمة ...

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 493
الافتتاحية:
الحروب النفسية


ينبغي للجماعة المسلمة أنْ تحصّن أفرادها من مخاطر الحرب النفسية التي تُشن عليهم، كتلك الحرب التي تُشن على الدولة الإسلامية ويشارك فيها جنود وشيوخ وملل ودول وحكومات وجماعات وناكثون وناكصون ومراكز أبحاث وأجهزة مخابرات وعلماء وعملاء، وآخرون من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم.

ويخطئ من يظن أن الحرب النفسية تقتصر على الميدان العسكري بل هي أعم وأوسع، وإنما الميدان العسكري هو أحد ميادين الحروب النفسية التي قد تقضي على أشرس المقاتلين بدون أي طلقة؛ إنْ لم يتسلح بقوة الإيمان.

والحرب النفسية أو المعنوية تتلخص في اتباع كل الطرق والأساليب الدعائية الموجهة والمقصودة، بهدف التأثير في الخصم ودفعه نحو تبني مواقف جديدة أو العدول عن مواقفه القديمة أو على الأقل غرس بذور الشك لديه، فهي ليست عملية حدّية دفعة واحدة، بل هي عملية نسبية تتجزأ وتعتمد الأسلوب التدريجي في إحداث التأثير والتغيير، فما يحققه العدو اليوم قد لا يكون كاملا، لكنه يكفي لأن يبني عليه غدا حتى يكتمل وينتج تراجعا وضعفا في نفسية الخصم.

والذي ينبغي للمسلم إدراكه أنّ هذه الحروب مخططة موجهة ليست عشوائية ولا ارتجالية، فالعدو لديه خطة محددة ينطلق منها وليس بالضرورة أن تدلّك خطواته على ماهية خطته؛ لكنها بالضرورة تدلّك على أنها متسلسلة يتبع بعضها بعضا، مستمرة لا تتوقف حتى تنجح أو تخفق فيستبدلها أو يجري تعديلات عليها، وهي بذلك تتسق مع طبيعة الصراع القائم بين الإسلام والكفر الممتد إلى قيام الساعة.

وهذه الحروب النفسية ينتصر فيها من يمتلك الإرادة والعزيمة فيبقى ثابتا على معتقداته لا يبدّل ولا يغيّر حتى لو قلّ عدده وشحّت عدته ووهن عظمه، وهنا تتفوّق قوة الروح على قوة الجسد، ولذا ينتصر فيها الصبور النحيف على الجزِع الطرير المدجج بكل أنواع الأسلحة والحديد، ولأجل هذا اهتم الإسلام ببناء روح المسلم وتقوية إيمانه قبل تقوية بدنه، لأن عليها التعويل عندما يقلّ العدد والمدد ويضعف الجسد، فالثابتون في الباغوز -مثلا- وهنت أجسادهم لكن لم تهن عزائمهم، فكان انتصارهم بقوة أرواحهم لا قوة أجسادهم.

وتكمن خطورة الحروب النفسية اليوم في أنها عالمية تدخل كل مكان وتصل كل فرد وتلطم كل من أذعن لها، ولذلك نهت السنة النبوية عن استشراف الفتن والتعرُّض لها، وهو ما يقوم به البعض اليوم فلا يُبقي شبهة إلا ولجها، ولا ريبة إلا أتاها ثم أنّى ينجو منها؟

ومن بين الأهداف الكثيرة للحرب النفسية، يكاد يكون الهدف الأبرز هو ضرب "الروح المعنوية" فهي ترتبط ارتباطا وثيقا بهذه الحرب التي يشنها العدو بهدف تدمير نفسية الخصم وإضعاف معنوياته وتحطيم إرادته ودفعه للتراجع، وصولا لاستسلامه أو استمالته أو على الأقل تحييده.

ولعل من أخطر أهدافها بث الريبة وضرب الثقة داخل الجماعة المسلمة، وجعل الفرد يفقد ثقته بطريقه ومساره، وفي نهاية المطاف التأثير عليه ونسف قناعاته وتغيير سلوكه.

ومن أشهر أساليب الحرب النفسية بث الدعاية والشائعات والتسريبات وغيرها من الحملات الإعلامية الموجهة المكررة التي تركز على شيء معين في وقت معين، فليس هناك شيء عشوائي ولا بريء في هذه الحروب، ويتصل بذلك محاولتهم صبغ بعض المصداقية على هذه الأكاذيب اعتمادا على حوادث سابقة، فينشرون بعض الحقيقة التي تؤدي إلى بعضها الآخر المكذوب المقصود.

ومن أساليبها التركيز دوما على إشاعة القضايا الخلافية أو التي يُتوهم أنها كذلك، وجعلها مُثارة دوما، وشحن المنخرطين فيها وإيهام بعضهم أنهم يمثلون الحق وأن الآخرين يمثلون الباطل، والحقيقة أن كلا الطرفين سقطا في شراك العدو وصارا وقودا لإشعال الحرب النفسية التي من أهدافها الأساسية؛ بث الفرقة وضرب التماسك، فصار الطرفان سلاحا بيد العدو يحارب به الحق الذي لم يوفقا في إصابته.

ومن الأساليب الحديثة تقديم "الخيار البديل" وخلق صورة مقبولة له إقليميا وعالميا توافق رؤية العدو مرحليا أو كليا، كالتسويق الممنهج لنموذج "طالبان والجولاني" والضخ الإعلامي الكبير الذي كان بمثابة رسالة نفسية موجهة مفادها: "بإمكانك أن تبقى جهاديا وحاكما، لكن وفق شروطنا " وبذلك استطاع الصليبيون أن يقاتلوا المجاهدين بالجهاديين! ويحاربوا الإسلام بالإسلاميين!

ويتفاعل الفرد أحيانا مع الحرب النفسية على نحو معاكس؛ فبدلا من دفعها والتصدي لها، فإنه يلجأ الى التصالح معها بما يحقق لنفسه رضاها، فالمتراجع أو المخطئ يبحث عن الطرح الذي يعفيه من الخطأ ويقنعه أنه المصيب وأنّ الخطأ عند غيره، وبذلك يتمادى في انحرافاته ويبرر تراجعاته على ظهر غيره، فيفرح به عدوه ويجنّده جنديا في جيوش حروبه النفسية من حيث لا يدري.

ومن أساليبها الإجرائية اعتمادها على "التكرار" فالعدو لا يكل ولا يمل من تكرار محاولاته ويسخّر لذلك ميزانياته ووزاراته، ومن أساليبها الرائجة اعتمادها على العاطفة فأكثر المهزومين في الحروب النفسية هم العاطفيون" الذين تأسرهم البسمة وتؤذيهم النسمة مع التنبيه على أنّ العاطفة تختلف عن رقة القلب وحضوره وخشيته ووجله فذلك غذاء لقوة الروح المعنوية.

إن التصدي لهذه الحرب يقع على عاتق الجميع داخل الصف المسلم، ولكن يتولى الإعلاميون الشطر الأكبر من ذلك، وأولى الخطوات أن يدركوا أبعاد ومخاطر الحرب النفسية وخفاياها ليردوا عاديتها، لكن هذا لا يعني الرد على كل شاردة وواردة، فرغم مكر العدو وخبثه إلا أن هناك طغيانا في سفاهة الطرح لا ينبغي بحال التردي معه والنزول إلى مستواه، فبعض القضايا حلّها في إماتتها وهي قاعدة عريقة: "أميتوا الباطل بتركه".

والإسلام سبق إلى أساليب التصدي للحرب النفسية وتفرّد بها فما عنده ليس عند غيره، وذلك من خلال تعزيز إيمان المسلم بالقضاء والقدر، وحثه على الثبات والصبر والمصابرة والشجاعة ونحوها مما لا يخفى، لكن تلك الوصايا الإيمانية لن تؤتي أكلها في القلب المريض! ولذلك لا شيء يصد هذه الحروب النفسية عن المسلم مثل رد عادية الشبهات والشهوات عن قلبه بداية، وتطهيره مما ران عليه وعلق به، حتى يعود سليما قويا أهلا لاحتمال التكاليف وامتثال النصوص.

وبالجملة، فإنه لا شيء يقوي الروح المعنوية للمجاهد ويذكيها ويديمها حية متقدة؛ مثل وضوح الغاية وقوة الإيمان بها، ولذا غالب صرعى الحروب النفسية قد أوتوا من قِبل؛ تبديل عقيدتهم أو تخليهم عنها أو جبنهم عن حملها أو ضعف إيمانهم بها، وهذا لا يعني أن المجاهد لا يصيبه التعب والنصب، لكنه لا يستسلم ولا يبرح طريقه ولا يبدّل مساره حتى يحرز النصر أو يقضي نحبه دون ذلك.

المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 493
السنة السادسة عشرة - الخميس 3 ذو القعدة 1446 هـ

لقراءة الصحيفة كاملة.. تواصل معنا تيليجرام:
@wmc11ar
...المزيد

بابا الأزهر وشيخ الفاتيكان إن الصورة التي نحتها الأزهر والإعلام، لوثن البابا النصراني في أذهان ...

بابا الأزهر وشيخ الفاتيكان

إن الصورة التي نحتها الأزهر والإعلام، لوثن البابا النصراني في أذهان الناس، تكاد تنسيهم كفره ونصرانيته ودعوته للتثليث!، تحت ذريعتين ثنتين طغتا على المشهد؛ إنسانيته المزعومة، وموقفه من غزة المكلومة، وكأنهما معيار التفاضل تجُبّان ما بعدهما! أما الإسلام فقد أخرجوه من المشهد تماما!

إذْ لم يتوقف هؤلاء عند حدّ تهنئة النصارى بأعيادهم الباطلة تحت ذرائع الدعوة والزمالة الكاذبة، حتى ضموا إليها التعزية بموت كبرائهم وأئمة كفرهم ممّن قضوا حياتهم في الصد عن سبيل الله تعالى والدعوة إلى الشرك في عبادته وتزيين الكفر به، ولم يتوقف أمرهم عند حد التعزية، بل تعدّاه إلى الإشادة والثناء والمدح والتمجيد والتبجيل، كأنهم أبواق فاتيكانية! ودعاة إلى الباباوية!، فعمدوا إلى نسج وبثّ نسخة من "الشمائل الباباوية" عبر وسائل الإعلام، قد تضاهي ما لأئمة الإسلام في كتب السير والأعلام!

فقدّمته وسائل الإعلام، زاهدا متواضعا محبا للفقراء والمساكين والمهجرين!، زاهدا في لباسه التقليدي وصليبه الحديدي فلم يتقلّد الذهبي! وفضّل الكنائس الفقيرة ليبقى قريبا من الفقراء، وأوصى بدفنه في كنيسة شعبية وليس في المدافن الفارهة المخصصة لأمثاله، فدفنوه في كنيسة قرب محطة السكك الدولية وسط روما، ليبقى قريبا من الناس حتى بعد مماته!!

لم تتوقف سفالة الإعلام عند هذا الإسفاف، بل تمادت أكثر حتى جرّت غزة إلى سفر "الشمائل الباباوية!"، فغزة "كانت آخر وصاياه!"، ولم يتوقف عن ترديد ترنيمة "وقف الحرب على غزة" حتى لفظ أنفاسه، ولا ندري هل شفع ذلك لغزة؟ أم هل شفعت له غزة؟ كونها في عُرف الدراويش "خافضة رافعة!" وفي عرف إخوانهم الجهاديين "معيار الإيمان!"

وشارك في الترويج لهذه النسخة الباباوية، بعض الحركات التي أدمنت الانحراف وأصرت عليه حتى في أحلك ظروفها التي لم تمنعها من المسابقة إلى التعزية بالبابا، والأعجب أنها "ثمّنت مواقفه في تعزيز حوار الأديان!"، وفي هذا رد على من يتوهم أن هذه الحركات الجاهلية تنزع إلى مثل هذه المواقف اضطرارا لا رغبة واختيارا، فمن الذي اضطر هؤلاء إلى مثل هذا الموقف في مثل هذا الظرف؟ وما شأنهم بـ "حوار الأديان؟" وهل يشمل ذلك الديانة اليهودية التي لا يعادونها لكنهم يعادون جيشها وحكومتها؟! إنّ الذي يجهله من يرقّع لهذه الحركات، أنها تتمذهب الباطل وتتبناه راغبة مختارة، تماما كما يتمذهب أهل الحق الحق، ومن شبّ على شيء شاب عليه، ومن مات على شيء بُعث عليه.

وليس بعيدا عن ذلك ولا مستغربا، موقف الأزهر الذي نعاه "أخا وصديقا"، وأشاد بدوره في "حوار الأديان!" وخدمة "الرسالة الإنسانية!" وتوقيعه وثيقة "الأخوة الإنسانية!" وتطويره العلاقة بين الأزهر والفاتيكان، ولعل من دواعي هذه العلاقة وجود ما يجمعهما غير "الإنسانية"، فالبابا منسوب إلى طريقة الرهبنة المسماة بـ "الجزويت" وهي خليط من "التأمل الصوفي والجهد الاجتماعي" فهو من هذا الوجه أزهري الطريقة!

العجيب أن هذا الطاغوت الذي نال إعجاب وإطراء الأزهر، متهم داخليا بالانحراف والتفريط، كرفضه إدانة الشواذ وقوله لما سُئل عنهم: "من أنا حتى أدينهم؟"، لكن ذلك الموقف الذي أنكره عليه بعض رؤوس النصرانية، لم يكبح الأزهر عن مدحه والثناء عليه، لأن "الإنسانية" تجبّ ما بعدها! وتستر ما تحتها! وتعلو ولا يُعلى عليها!

ومن شمائله الإبليسية التي أشادت وسائل الإعلام بها كثيرا، رفضه ربط الإرهاب بالإسلام، فالإرهاب لا دين له!، هكذا حكم "شيخ الفاتيكان وبابا الأزهر"، ومعلوم أنّ الإرهاب إذا أُطلق أريد به التوحيد والجهاد الذي لا يدين به الأزهر ويخشاه الفاتيكان على حاضره ومستقبله لأنه بالنسبة إليهم زوال ملكهم وكسر صليبهم.

وفي المقابل، هذا الإعلام الجاهلي الذي صوّر البابا رمزا وبطلا ومثلا، هو نفسه الذي يصور أبطال الأمة الحقيقيين "تكفيريين وخوارج" خرجوا عن تعاليم "الرسالات السماوية!"، التي اتضح أنها لم تكن سوى تعاليم الأزهر والفاتيكان ومَن في حكمهما من الحوزات والمراجع الجاهلية.

إن سحرة الإعلام الجاهلي يهدفون من خلال ذلك إلى ضرب قداسة الإسلام في النفوس، وجعله كأنه مجرد طريقة صوفية أزهرية، وليس دينا حقا متفردا، لن يقبل الله من عبد دونه صرفا ولا عدلا، كما يهدفون لضرب رابطة الأخوة الإيمانية التي توالي وتعادي في الدين، وإبدالها بـ "الأخوة الإنسانية" التي تهدم أوثق عرى الإيمان، إنهم يقولون لك إن "الإنسانية" هي المعيار وليس الإسلام.

ومن أهدافهم الخبيثة إبدال الرسالة النبوية القائمة على التوحيد والكفر بالطاغوت، بـ "الرسالة الإنسانية" التي تلغي ذلك بل تعاديه، حتى أنهم أوشكوا أن يساووا بين رسالة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، ورسالة البابا، فكلاهما بالنسبة للأزهر ومشتقاته، جاءا بالرحمة والعدل والإنسانية؟!

إن خطورة هذا الطرح مضاعفة بسبب غفلة الناس عن خطورة الأزهر على عقيدتهم! ودوره في تمييع الإسلام وضرب أصوله، وبالمناسبة فالأزهر المصري لا يقل خطورة عن "مدينة الإعلام" المصرية فتلك تهدم الأخلاق وهو يهدم العقيدة!، إنها أدوار متبادلة وحلقات متكاملة من الحرب على الإسلام، يتشارك فيها "الشيخ" و "الفنان" كما تورط فيها الأزهر والفاتيكان.

أما بالنسبة لأولي البصائر، فإن البابا يمثل الوجه الآخر للغزو الصليبي، إنه الغزو الفكري والسلاح الناعم التنصيري الذي يبدو أنه فعل بالناس أكثر مما فعله بهم الغزو العسكري.

من زاوية أخرى، يفضح ذلك حجم التناقض بين موقف البعض من النصارى وباباواتهم، وموقفهم من اليهود وحاخاماتهم؛ مع أن حكمهم في كتاب الله واحد، وقد أمرنا الله بمفارقة سبيلهما ومعاداتهما، كما في سورة الفاتحة التي يقيم الناس حروفها ويهملون أحكامها.

إن "التعزية" تتعدى إلى أبعادها المنهجية التي تعكس ضعف المفاصلة بين أمة التوحيد والإيمان وأمة التثليث والكفران، وتعكس اهتزاز مكانة العقيدة في نفوس كثيرين ممّن يعادون اليهود ولا يعادون النصارى خلافا لما تقرر في أمّ الكتاب.

ولذلك أنت ترى العامة تصف من يتعامل مع اليهود بالخيانة، بينما من يتعامل مع النصارى ليس كذلك! وتراهم يهاجمون "الحاخامات" لكنهم يخنسون عن "الباباوات"، مع أن بغضهم لليهود وحاخاماتهم ليس بغضا دينيا صرفا، بل مشوبا بكثير من الوطنية تأثُّرا بـ "القضية الفلسطينية" التي نشأت وطنية وما زالت كذلك، تائهة هائمة بعيدة عن غاية الإيمان بُعد "الأقصى" عن "الطوفان"، إنها صورة حية للانحراف المنهجي المركب الذي يطغى في آخر الزمان في عصر "بابا الأزهر وشيخ الفاتيكان"، فمن لم يحفظ حق الله عليه بالتوحيد ومعاداة أعدائه وموالاة أوليائه، كيف سيهتدي لصراطه ويقف في فسطاطه في زمن الفتنة والملحمة؟!


• المصدر: صحيفة النبأ - العدد 492
السنة السادسة عشرة - الخميس 26 شوال 1446 هـ

لقراءة الصحيفة كاملة.. تواصل معنا تيليجرام:
@wmc11ar
...المزيد

صحيفة النبأ العدد 490 الافتتاحية: كذبة القانون الدولي شاهد العالم كيف حلّ طاغوت اليهود الصادر ...

صحيفة النبأ العدد 490
الافتتاحية:
كذبة القانون الدولي

شاهد العالم كيف حلّ طاغوت اليهود الصادر بحقه مذكّرة قبض من "الجنائية الدولية"،ضيفا على دولة من مؤسسي تلك المحكمة! وبدلا من أن يتأهب جنود تلك الدولة الصليبية ويتحضروا للقبض عليه كما كان يأمل الواهمون؛ انتظموا في طوابير لأداء التحية العسكرية تقديرا واحتفاء بزيارته! متجاهلين مستخفّين بقرارات "المحكمة الدولية" وقوانينها الجاهلية التي لا تلاحق إلا الضعفاء.

المؤمنون بهذه المحاكم الكفرية وصفوا الحدث بأنه "صفعة للعدالة الدولية" وذلك خلافا لما قالوه يوم صدور هذه المذكّرة بأنها "سابقة تاريخية مهمة" و "انتصار للعدالة الدولية"،واحتفلوا وأشادوا يومها بما عدوه "انتصارا للقضية الفلسطينية" في المعركة السياسية ضد اليهود!، ومع أن هذا "الانتصار القانوني" كما أسموه لم يغيّر شيئا على أرض الواقع، فلم يحقن قطرة دم واحدة من دماء الفلسطينيين،ولم يقيّد سلوك جندي واحد من جنود الجيش اليهودي فضلا عن قادته، ومع ذلك سرعان ما تلاشى هذا "الانتصار" فلم يبق منه سوى "الحبر" على مذكّرة "المحكومة المجنيّ عليها!".

فالاحتفاء والاستقبال الكبير الذي حظي به الطاغوت اليهودي في المجر الصليبية، يرسخ الحقيقة التي طالما طرقناها في أذهان المسلمين بأن "القانون الدولي" على كفره ومصادمته للإسلام ابتداءً، فإن أربابه شرّعوه وفصّلوه ليناسب أحجام الدول الكبيرة والجيوش القوية ويضمن مصالحها، لا ليراعي مصالح الدول الضعيفة، فضلا عن مراعاة وإنصاف قضايا المسلمين، فالأقوياء هم الذين يفرضون هذه القوانين وهم الذين يطبقونها أو يعطلونها بحسب ما يحقق مصالحهم.

فها هي كبرى الدول الكافرة في العالم تحتكر "القرارات الدولية" لمصلحتها، وتحتفظ بـ "حق النقض" ضد أي قرار يصادم سياستها، وها هي جيوشهم الكافرة تتقدم وتوسع خارطة غزوها مدفوعة بحروب دينية وأحقاد تاريخية، دون أن تقيم وزنا لهذه القوانين والمحاكم الجاهلية، وإلا فماذا قدم "القانون الدولي والجنائية الدولية" لقضايا المسلمين في العراق والشام واليمن وأفغانستان وفلسطين وغيرها، هل صان حقوقهم وهل استرد أرضهم أو منع الاعتداء على شعوبهم؟ وهل عاقب المعتدين وحاكم المجرمين؟!

إن تصريحات الطاغوتين اليهودي والمجري خلال لقائهما الأخير، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن القاسم المشترك الذي يجمعهم وينظم علاقتهم هي العقيدة اليهودية النصرانية المعادية للإسلام، حيث صرح الطاغوت المجري بأنهم: "حملة راية الحضارة النصرانية واليهودية في أوروبا"، ليجيب الطاغوت اليهودي بعبارة لا تقل صراحة: "ونحن نناضل من أجل مستقبل حضارتنا اليهودية والنصرانية".

يقودنا هذا إلى تذكر الضجة الإعلامية التي حدثت قبل أيام حول نشر "وزير الدفاع الأمريكي" الصليبي صورا له وقد كتب على ذراعه وسم "كافر" باللغة العربية، إلى جانب عبارات أخرى صريحة لا تحتمل التأويل تمجّد الحملات الصليبية! فهذه وغيرها من الحوادث التي يقدرها الله تعالى بحكمته تنذر الناس وتبين لهم بالأدلة الملموسة طبيعة الحرب التي يشنها اليهود والنصارى علينا، وأنها حرب دينية متجذرة؛ يتحالفون تحت رايتها، يذللون أمامها كل القوانين، ويطوّعون لأجلها كل الاتفاقيات، ويضربون بعرض الحائط كل ما يعارضها من "الأعراف والقوانين الدولية"، كل هذا مصداق قول المولى سبحانه: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}، وقوله تعالى: {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ...} فهذه الحرب المعلنة ضد المسلمين هي "القانون" الذي يحكم سياساتهم ويوجه جيوشهم.

ورغم وضوح هذه الحقيقة التي صرح بها قادة اليهود والنصارى مرارا، ما يزال كثير من المنتسبين للإسلام يدفنون رؤوسهم بالتراب عنها! ويتمسكون بما يمليه القانون الجاهلي الدولي، ويلهثون خلف قراراته ويعوّلون عليه! وكأن كل الآيات القرآنية، ثم الوقائع الميدانية التي جرت وتجري لا تكفيهم للكفر به!

إن عدوى الإيمان والتمسح بالقوانين الدولية ومؤسساتها، لم تعد حكرا على العلمانيين كما كان عليه الحال في السابق، بل وصلت هذه العدوى الخطيرة إلى صفوف "الإسلاميين" وحتى "الجهاديين" فصاروا بين مؤمن بها مجاهر باحترامها داع للاحتكام إليها، وبين آخر يكتم إيمانه بها! ما يزال في دركة "المناشدات" يغازل ويتزلف إلى أربابها لمّا يُفصح بعد عن كامل إيمانه بها.

إن المسلم مطالب بالكفر بـ "القانون الدولي" الجاهلي ومحاكمه ومؤسساته، ليس بسبب ظلمه وفساده وعدم صلاحيته لقيادة البشرية فحسب، وليس بسبب إجحافه تجاه فلسطين أو غيرها، بل إن المسلم مأمور بالكفر بالمحاكم الدولية حتى لو أعادت القدس ودمشق إلى أهلها! لأن الكفر بهذه القوانين والمحاكم الجاهلية، واجب توجبه العقيدة الإسلامية كونه من الكفر بالطاغوت الذي لا يتم الإيمان إلا به، وعلى المسلمين أن يعلّموا أهليهم وأبناءهم ومن حولهم هذه العقيدة التي بدأت تندرس بين ضلالات "الإسلاميين" المتراكمة وانحرافات "الجهاديين" المتفاقمة، فهذه القوانين الجاهلية بدساتيرها ومجالسها البرلمانية، قد انتشر واستطار شرها بعد أن هوّن دعاة الضلالة من شأنها وجرفوا الناس إلى طوفانها، يوم أن صوّروا لهم أنها مجرد "وسائل وأدوات عصرية" لتنظيم شؤون الحياة لا علاقة لها بالإيمان أو الكفر!



أما المجاهدون في سبيل الله تعالى، فقتالهم من أجل أن يكون الإسلام حاكما لا محكوما، ومهمتهم إخراج العباد من عبادة هذه الأصنام الجاهلية بكل أنواعها إلى عبادة رب العباد سبحانه، وسبيلهم بذل الأموال والأنفس لتحكيم شريعته في أرضه، وبسط عدله بين خلقه، فما أعظمها من مهمة وما أشرفها وأنبلها من غاية، وما أعظم أجر السائرين في سبيل تحقيقها، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.


المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 490
السنة السادسة عشرة - الخميس 12 شوال 1446 هـ

المقال الافتتاحي:
كذبة القانون الدولي
...المزيد

بين الفرقان والفتح ونحن نتفيأ ظلال هذا الشهر المبارك، شهر الإيمان والاحتساب لله تعالى، شهر ...

بين الفرقان والفتح


ونحن نتفيأ ظلال هذا الشهر المبارك، شهر الإيمان والاحتساب لله تعالى، شهر التقوى والصبر والجهاد، نستذكر حدثين عظيمين لم يخرجا عن تلك المعاني الإيمانية والجهادية، حدثين عظيمين رسما خارطة الإسلام في عهد النبوة وما بعده، وكانا معلمين رئيسين في تشييد صرح الإسلام وانتشار دعوته الخالدة، كلا الحدثين وقعا في شهر رمضان، وكان بينهما ست سنوات فقط لكنها كانت نقلة كبيرة للمسلمين ودولتهم ودعوتهم.

الحدث الأول غزوة بدر الكبرى التي وقعت في السنة الثانية للهجرة في السابع عشر من رمضان، وسميت غزوة الفرقان لأنها كانت فرقانا فرّق الله بها بين الحق والباطل، بين التوحيد والشرك، بين الفئة المؤمنة القليلة الصابرة، والفئة الكثيرة الكافرة، فبها ذاع الإسلام وشاع أمره وعزّ أهله، وذلّ الشرك وأهله، حيث كانت أول هزيمة قاسية يتعرض لها المشركون بعد سنوات من البطش والغطرسة، وأول انتصار كبير للمسلمين بعد سنوات من الاستضعاف والغربة.

أما الحدث الثاني فقد وقع بعد الفرقان بست سنوات كما تقدم، وتحديدا في العام الثامن للهجرة، في العشرين من رمضان، وهو الفتح الأعظم فتح مكة المكرمة وعلو الإسلام فيها وسيطرته عقديا وميدانيا عليها، وعودة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته إليها فاتحين مكبرين مهللين تحقيقا لوعد الله تعالى.

وبعيدا عن تفاصيل الحدثين العملياتية التي تستفيض بسردها كتب السير والتاريخ، وتنطق بكل معاني البطولة والعزة والشجاعة والوفاء والتواضع لله، والاستعلاء على الباطل وغيرها من المقامات الإيمانية والقمم الجهادية، إلا أن السرد المعاصر للحدثين الرمضانيين يعمد إلى إغفال أبرز محطة مشتركة بينهما أو تحويرها وتقديمها بصورة تخالف الغاية الإيمانية، وتصادم المنهجية العقدية التي اتسم بها الفرقان والفتح العظيمان.

البراءة والشدة على الكافرين

ولعل من أبرز محطات الفرقان والفتح، أنهما مثّلا ذروة المفاصلة بين الإسلام والكفر، وتحقيقا لأهم عقائد المسلمين وهي الولاء للمؤمنين والبراءة والشدة على الكافرين، التي تتعرض اليوم لحملات هدم وتمييع وإقصاء ليس على أيدي اليهود والنصارى المجاهرين بالعداوة للإسلام فحسب، بل على أيدي المحسوبين على الإسلام والمتمسحين بالجهاد!!، في مفارقة عظيمة تدلك على بعد هؤلاء الأخلاف المبدلين، عن مقصد الفرقان والفتح، وبالضرورة بعدهم بعد المشرقين عن منهاج الفاتحين الأولين.

يبرز موقف المفاصلة والبراء يوم بدر في قوله تعالى: {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ..}، وقد جلّت كتب التفسير المعتبرة هذه الآية بما لا يدع مجالا للباحثين عن الرخص في أبواب الأصول القانعين بالقعود دون الوصول.

لقد نفت الآية الإيمان عن أقوام يوادّون من عادى الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو عشيرتهم، لم يتوسع القرآن في ذلك لأحد، وتجاوز حدود العلاقات والروابط البشرية قاطبة بدءا من أضيق وأغلى الدوائر على المرء وهي دائرة "الأبوة" ثم "البنوة" ثم "الأخوة" وصولا إلى "العشيرة" والقرابة العامة، ووقف عند حدود الرابطة الإيمانية فلم يتجاوزها! وجعلها حدا فاصلا بين الإيمان والكفر، وأعطاها السيادة والكلمة الفصل، إلى حد فصل بها بين الأب وابنه والمرء وأخيه بناء على رابطة الدين، ولقد ذكرت كتب السير والمغازي والتفاسير صورة حية من التطبيق العملي لهذه المفاصلة وكيف امتثل لها الصحابة في معركة بدر الرمضانية، فقاتلوا أقرب الناس إليهم من الكافرين المحاربين بالسيف والسنان، وقدّموا الولاء لله ورسوله والمؤمنين على الولاء للكافرين ولو كانوا أقرب الأقربين، ولا شك أن هذا لا يقع إلا ممن ملأ حب الله تعالى قلبه فخلا من كل المحبوبات المضادة المناوئة.

ليست في قلوبنا هوادة للمشركين

ولم تتوقف المفاصلة والشدة على الكافرين بانتهاء المعركة، بل استمرت بعدها في قضية أسرى بدر الذين كانوا أقرباء الصحابة وبني عمومتهم، كما قال ابن كثير: "ومن هذا القبيل حين استشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسلمين في أسارى بدر... فقال عمر: هل تمكني من فلان -قريب لعمر- فأقتله؟، وتمكن عليا من عقيل، وتمكن فلانا من فلان، ليعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين".

ويواصل الإمام ابن كثير تقرير هذه المفاصلة وإحكامها بما يقطع الطريق على المرتابين المذبذبين فيقدّم لنا تعليقا نورانيا أجود ما يكون فيقول: "وفي قوله: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} سرّ بديع، وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في الله، عوضهم الله بالرضا عنهم، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم، والفضل العميم". اهـ.

اقتلوهم في الكعبة!

وبعد سنوات على هذا الفرقان الحاد بين الحق والباطل جاء الفتح الأعظم، الذي يحاول البعض تحويره وتحريفه إلى سياق التسامح مع الكافرين اعتمادا على روايات ضعيفة، فيصححون الضعيف ويضعفون الصحيح اتّباعا لأهوائهم واستجابة لداعي الوطنية وأواصر القومية، فلا يذكرون من الفتح إلا حديث الطلقاء الذين بُشّر النبي -صلى الله عليه وسلم- بدخولهم في دين الله أفواجا، وينسون أحاديث النفر الذين لم يعفُ النبي -صلى الله عليه وسلم- عنهم وبينهما امرأتان!! وقال عنهم: (اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة!) [رواه النسائي]، وقد تعلق فعلا أحدهم بأستار الكعبة وهو "عبد الله بن خطل" فتسابق إليه الصحابة وقتلوه على حالته هذه في الكعبة!! وآخر وهو "مقيس بن صبابة" لحق به الصحابة وقتلوه في سوق مكة!، بل إن أحدهم وهو "عبد الله بن أبي السرح" جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- مسلما مبايعا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يكف يده عنه ويأبى بيعته ثلاثا، قبل أن يقبلها على مضض، ثم يلتفت إلى أصحابه قائلا: (أمَا كان فيكم رجُلٌ رَشيدٌ يقومُ إلى هذا، حيثُ رآني كفَفْتُ يدي، فيقتُلَه؟!) فتأمل هذا الموقف النبوي الحاد، فهذا وغيره مما يسقطه الرواة والقصاص المعاصرون من متن الفتح الأعظم، هروبا من المفاصلة والمفارقة للكافرين، وجنوحا إلى الملاطفة والمطالقة!، ولذلك باتوا يطلقون أوصاف الطلقاء على من وجب قتله، ويصبون العداوة على من وجبت مودته ونصرته!، فيقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان.

ومما يتعرض له الفتح الأعظم من تحريف، محاولتهم إسقاط صلح الحديبية الذي كان هو مقدمة الفتح، على المعاهدات والاتفاقيات الباطلة مع حكومات الكفر والردة! فيستدلون بالهدى على الضلالة! وبالتوحيد على الشرك! ويجيّرون الحديبية على مقاس طواغيت العرب الموالين لليهود والنصارى المتحالفين معهم ضد المسلمين، المتشاركين معهم وزر الحرب على المجاهدين، فأين الحديبية من هؤلاء الكفرة الأشقياء؟!

بيعة على القتال

ومما يغفل عنه الناس في مقدمات الفتح الأعظم، بيعة الرضوان تحت الشجرة في الحديبية، التي سطرتها آيات القرآن الكريم ونصوص السنة الصحيحة، وذلك لما أشيع نبأ مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، فاستنفر المسلمون وبايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- على قتال المشركين، وأن لا يفروا بل يناجزوا القوم حتى الفتح أو الموت!، وقد أثنى الله تعالى على أهل هذه البيعة التي انتهت بالفتح فقال سبحانه: {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}.

فتأمل هذه المواقف الإيمانية العقدية الجهادية الحاسمة التي سطرها الصحابة الربيون بقيادة نبي الهدى -صلى الله عليه وسلم- في هذين الحدثين الرمضانيين، تعرف كيف حازوا السبق وكيف فتحوا البلاد مستعلين على الباطل لا خانعين له، مفارقين للشرك أشداء عليه لا مرافقين له رفقاء به، فإن علمت ذلك فالزمه وعضّ عليه بالنواجذ ففيه عزّ الدنيا والآخرة، والحمد لله رب العالمين.


المصدر:
صحيفة النبأ – العدد 487
السنة السادسة عشرة - الخميس 20 رمضان 1446 هـ

مقال:
بين الفرقان والفتح

لقراءة المقال كاملاً.. تواصل معنا تيليغرام:
WMC111ART
...المزيد

لا تلتفت للوراء إن الطريق إلى إقامة دين الله في الأرض، طريق شاق يقتضي الصبر والمصابرة والمرابطة، ...

لا تلتفت للوراء

إن الطريق إلى إقامة دين الله في الأرض، طريق شاق يقتضي الصبر والمصابرة والمرابطة، ويستوجب توطين النفس على وعورته والابتلاء فيه، ولا بد لسالكيه أن يصيبهم ما أصاب الأنبياء من القتل والجرح والقرح، وما أصاب خاتمهم محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام من صنوف العذاب والنكال، وتلك سيرهم حافلة بالبأساء والضراء والزلزلة قبل أن يتنزل عليهم نصر الله.

وليعلم المسلم أنه لا تلازم بين الحق والسلامة الدنيوية، وأنه لا تعارض بين الوعد بالنصر والقتل الذي يطلبه المجاهدون ويطلبهم، دليل ذلك قوله تعالى في حق الأنبياء وأتباعهم: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}، فالنصرة في الدنيا قد تأتي في حياة الأنبياء كما فعل بإهلاك الأمم المكذبة وإنجاء الأنبياء، وقد تتأخر إلى بعد موتهم كما فعل بقتلة يحيى وزكريا وشعياء سلط عليهم من أعدائهم من أهانهم وسفك دماءهم كما بينه الإمام الطبري وغيره.

وإن من أكثر الأمور المشاهدة المعلومة التي قررها القرآن الكريم وكررها كثيرا، زوال الدنيا وسرعة انقضائها {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا}، فكيف لعاقل أن يجعل ما يصيبه فيها من الفتنة بالسراء أو الضراء ميزانا؟

بل إن من الجهل وضعف اليقين انتظار النعيم فيها والتحسر على الفائت منها، وإن من أعظم ثمرات الإيمان، أن لا يعبأ المسلم بما أصابه فيها من لأواء ما دام يحدوه حادي اليقين بوعد الله تعالى بجنة عرضها السماوات والأرض، لا يَلفتهُ عنها سراء ولا ضراء، أرأيت لو أن عبدا عاش حياته مؤمنا مهاجرا مطاردا معذبا، ثم خُتم له بالحسنى وبُشّر بطوبى، هل يضيره كل ما أصابه قبلها؟ فهذا مثل المؤمن.

وإن المتفكر في هذا ليزول عجبه لما يصيب المؤمنين الثابتين على منهاج النبوة في عصرنا، مما أصاب مَن هو خير منهم من الأنبياء والأولياء، تحقيقا لسنة الله تعالى في خلقه: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}، إنها سنة الابتلاء التي لم تخطئ عبدا، تمحيصا للمؤمنين وتنقية لصفوفهم، واستدراجا ومحقا للكافرين.

ومن المعلوم أن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب لدعوة الخلق إلى التوحيد وإقامة الحجة عليهم، ومن لوازم ذلك وجود المكذبين والمعاندين الذين لم يخل منهم عصر ولم يسلم منهم نبي ولا رسول كما قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} وقال سبحانه: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}، ولذلك كان لزاما على أتباع الرسل أن يحتملوا ما يصيبهم في طريق التوحيد ويصبروا عليه، وأن يمضوا فيه قدما، لا يردهم عنه ضعف ولا وهن، ولا يثنيهم خوف ولا حزن.

فإن الأمر متعلق بتبليغ الرسالة الربانية التي لأجلها خلق الله الخلق، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، ولم يك في حسابات الأنبياء والمرسلين -وحاشاهم- أن ينالوا بعملهم هذا لعاعة دنيوية أو يقصدوا سلامة بدنية، فهذا نبي الهدى -صلى الله عليه وسلم- يقول كما في مسند الإمام أحمد: (والله إني لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله له حتى يظهره الله له أو تنفرد هذه السالفة) يعني بذلك الموت! فتأمل كيف جعل المضي في دعوته وجهاده كلَّ همه وغاية مراده ولو قتل في سبيل ذلك، وقد مضى -صلى الله عليه وسلم- في ذلك صادقا ثابتا فسال دمه وكسرت رباعيته ودخلت حلقتا المغفر في وجنتيه وجرح إصبعه فواسى نفسه وهون عليه ذلك أنه في سبيل الله كما في البخاري عن جندب بن سفيان، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان في بعض المشاهد، وقد دميت إصبعه، فقال: (هل أنت إلا إصبع دميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ).

وإن من أهم الدروس والعبر التي تتجلى في سير الابتلاء، أن ما أصاب الأنبياء والرسل وأتباعهم لم يكن خذلانا من الله لهم! ولا نصرا لأعدائهم، ولا هو خسارة ولا فشلا؛ بل هو من الابتلاء والامتحان لرفع الدرجات، وهو للكافرين إمهال واستدراج ليستحقوا به أشد العذاب، بسبب كفرهم وحربهم للتوحيد وصدهم عن سبيل الله تعالى.

ومما يستفاد من سير الأنبياء في المحنة والابتلاء، أن بقاء العقائد مقدم على بقاء الأرواح، وإن جلّت هذه الأرواح وعظمت مكانتها كأرواح الأنبياء والرسل عليهم السلام، فكيف بمن هم دونها في القدر والمكانة؟ بل إن أرواح المؤمنين يعظم قدرها بقدر اتصافها والتصاقها بما كان عليه أنبياء الله ورسله، وبهذا فضّل الله المجاهدين على القاعدين ورفعهم درجات.

ومن دروس الابتلاء التي ينبغي أن لا تغيب عن ذهن المسلم؛ أن الدنيا ليست دارا للحساب والجزاء، وما هي إلا دار ممر لا دار مقر، وهذا من عدل الله تعالى فما بعد الموت إلا الحياة الأبدية، ولكن أين؟ إما في جنان عدن أو في سقر! -عافانا الله وإياكم منها- وهذا الذي يجب أن يشغل بال المسلم على الدوام وهو الذي عليه التعويل، فكم من قتيل فائز وكم من حي خاسر.

وليعلم المسلم أن هذا الطريق لا يثبت عليه إلا الصادقون الذين أخلصوا دينهم لله تعالى، وبذلوا أغلى ما يملكون لإعلاء كلمته في أرضه، وجاهدوا عدوه، ولم يبالوا بما أصابهم، ولم يعبأوا بمكر أعدائهم، فهؤلاء هم حملة الرسالة بحق ووارثوها، الذين اتقوا الله حق تقاته، وجاهدوا في سبيله حق جهاده.

أما الباحثون عن مناهج السلامة، اللاهثون خلف الدنيا وزهرتها، الذين يحسبون أن الأمان في بقائهم أحياء ولو عبيدا للطاغوت، فهؤلاء لم يستنيروا بنور العلم ولم يأووا إلى ركن شديد، وإن حملوا من الأسفار ما لا تحمله الحمر! وما أكثرهم في زماننا، وأشقى منهم من علم الحق وفارقه لضعف يقينه وسوء طويته وتقديم محابّه على محاب خالقه، وليته سكت! بل عكف يبرر للساقطين سقوطهم! ويعيّر الثابتين بثباتهم!

فدونك أيها المسلم المجاهد نهج الأنبياء وسيرهم، والسابقين من أتباعهم، وتأمل الفرق بينهم وبين القاعدين للجهاد بأطرقه يصدون عنه ويلمزون أهله، فإن من أوضح معالم طريق الأنبياء وأتباعهم إرخاص النفوس لخالقها سعيا في نشر دينه وإقامة شريعته ونصرة أوليائه، ومقارعة أعدائه وصد عاديتهم ونسف باطلهم ونبذ شركهم، ولو أصابهم في سبيل ذلك ما أصابهم، فأين مَن هذا سبيله ممن يرى في الموت على منهاج النبوة خسارة وفشلا، والعيش تحت ظلال الطاغوت نجاة ومأمنا؟ هيهات هيهات.

فسر أيها المجاهد في طريقك ولا تلتفت للوراء فليس لديك ترف الوقت والفكر للانشغال بالنابحين خلف قافلة التوحيد والجهاد التي سارت ولن تحط ركابها إلا حيث يحكم الإسلام وتعلو رايته فوق عواصم العرب والعجم، أو تنفرد سالفة قادتها وجنودها في هذا الطريق أسوة بسلفهم السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فيا فوز من مضى في الطريق، أو نال الشهادة صابرا محتسبا، ويا خسارة من سقط وفاته الركب.



المصدر:
صحيفة النبأ – العدد 487
السنة السادسة عشرة - الخميس 20 رمضان 1446 هـ

المقال الافتتاحي:
لا تلتفت للوراء

للمزيد من المواد والحقائق.. تواصل معنا تيليغرام:
@WMC111ART
...المزيد

صحيفة النبأ العدد 486 المقال الافتتاحي: نسف الأقلية والطائفية! بددت المعارك الدامية في الساحل ...

صحيفة النبأ العدد 486
المقال الافتتاحي:
نسف الأقلية والطائفية!

بددت المعارك الدامية في الساحل السوري بين شبيحة النظام السابق والحالي شعارات: "العيش المشترك" و "السلم الأهلي" و "الوحدة الوطنية" التي صدّعوا رؤوسنا بها وأرادوها دستورا لتنظيم العلاقات بعيدا عن الإسلام، وفشلت في أول اختبار لها، وبدا أنّ سردية الطاغوت السوري حول "نصر بلا دماء"، قد غرقت في بركة من الدماء!

وأثبتت الأحداث مجددا صوابية الدولة الإسلامية في تعاملها مع طوائف الكفر والردة التي يسمونها اليوم بالأقليات، التي كانت وما زالت ورقة بيد الغزاة اليهود والصليبيين، يقسّمون بها بلاد الإسلام ويحاربون بها المسلمين.

فالنصيريون العلويون أقامت لهم فرنسا الصليبية "دولة" إبّان غزوها للشام، خدمة لمصالحها وسياساتها التفريقية، وروجت لمسمى "العلوية" احتيالا على العامة النافرين من "النصيرية" بغية دمجهم وتصديرهم في المنطقة، ونجحت في ذلك بعد فتوى مشبوهة من المفتي القومي العربي "أمين الحسيني" نُشرت في "جريدة الشعب الدمشقية" بتاريخ 22 المحرم 1355هـ، وجاء فيها: "هؤلاء العلويون مسلمون.. لأنهم إخوان في الملة.. وإن أصولهم في الدين واحدة!" ومن يوم فتوى "مفتي القدس" وإلى عهد "محور القدس" والمسلمون يذبحون على المائدة الرافضية العلوية النصيرية.

ورغم التملق والتزلف الذي بذله النظام الجديد، للنصيرية الكفرة الفجرة ومحاولة نزع صفة "التشبيح" عنهم وصبغهم بصبغة "الشركاء والإخوة والطلقاء"، إلا أنهم انطلقوا في أول فرصة سنحت لهم وانقضوا عليه وقتلوا جنوده بلا شفقة ولا رحمة ولا تسامح.

ميدانيا، شكلت الأحداث فشلا أمنيا وعسكريا للجيش المرتد الهجين الذي خرج عن "تعاليمه وشعاراته الوطنية" في التعامل مع الأقليات من "العفو" إلى "المجزرة!" ما دفع بقادته إلى تحميل مسؤولية ما جرى للشعب بوصفه "حشودا شعبية غير منظمة!" بعد أن مدحوا "فزعته" ابتداء، ثم نصبوا المحاكم لمعاقبته لاحقا، وأعلنوا تشكيل "لجنة تحقيق" تهدف إلى التنصل من المسؤولية أمام "من يهمه الأمر" من المجتمع الدولي، وتحميل المسؤولية للمقاتلين الأجانب الذين يحلمون بالتجنيس خلافا لقانون "المواطنة السورية" التي يقدسها النظام الجديد والقديم.

أما الإعلام الثوري فقد انشغل بالحديث عن أسباب الأحداث من زاوية أمنية والدور الخارجي لإيران الرافضية وأذنابها، لكن أحدا لم يطرق الأسباب الشرعية لما جرى، فما هي هذه الأسباب؟

تتلخص الأسباب باختصار في تعطيل وتغييب حكم الشريعة وإقصاء منهج الإسلام من الحكم في الشام، وإبداله بالدساتير الكفرية ومفرزاتها الجاهلية في "العلاقات والحكم على الأفراد والجماعات"، فالإسلام لم يقسّم الناس إلى "أقليات" و "أكثريات" فهذه تقسيمة جاهلية عصرانية مظانها "مواثيق الأمم المتحدة" ومباحث "القانون الدولي" وغيرها من المراجع والدساتير الجاهلية، وإنما يقسّم الناس إلى مسلم وكافر، والكافر إلى "محارب وذمي ومعاهد ومستأمن"، والعلويون النصيريون طائفة كفر وردة باطنية خبيثة، محاربة باقية على حربها، وحتى الطاغوت الحدث الذي منحهم "العفو والأمان" انقلبوا عليه وقتلوا جنوده في الطرقات ليؤكدوا على حرابتهم حتى آخر رمق.

وإن حكم العلوية النصيرية في الإسلام -ومثلهم الدروز- مبسوط في الفقه الإسلامي، وفتوى شيخ الإسلام ابن تيمية فيهم -وغيره من أئمة الإسلام- تضج بها صفحات "الثوار والجهاديين" قبل أن يبدلوا دينهم وينقلبوا على أعقابهم ويسعوا للتماهي مع العلويين والاندماج معهم رغبا ورهبا.

وعليه، فالإسلام ينسف مفهوم الأقليات من جذوره، ويحاكم الناس لدينهم، لا لعددهم ولا لعرقهم ولا لقوميتهم، كما حسم الإسلام أحكام الكافرين على اختلاف طوائفهم، حربيين كانوا أو ذميين، وجعل ضابط العلاقة معهم أحكام الشريعة، بينما جاء المرتدون اليوم لينسخوا أحكام الإسلام بأحكام "القانون الدولي"، ويستبدلوا أحكام الولاء والبراء بقوانين "المواطنة والتعايش والوحدة الوطنية" فصار الوطن هو الضابط الناظم للعلاقات وليس الدين! وبناء عليه أصبحت "سوريا للسوريين" بمن فيهم الكافرين المحاربين وليست لغير السوريين ولو كانوا مسلمين على أرضها، تلك قسمة ضيزى.

إن ما يحاول "عدو الشرع" فعله هو الالتقاء مع "محمد بن نصير" في منتصف الطريق!، لكن أتباع الأخير أبوا ذلك بشدة، لتتحطم أوهام "التعايش والوحدة الوطنية" بين الجانبين في أول اختبار حقيقي لها، وتتحطم معها نظريات الطاغوت الحدَث، الذي بدّل دينه واتبع هواه وصار دمية النظام الدولي الذي منحه صفة "رئيس مؤقت" ريثما يكتمل ترتيب المنطقة وتقسيمها.

لقد روج الطاغوت السوري مبكرا لقسمته الجاهلية "سوريا للسوريين" مفرّطا بذلك في أتباعه المقاتلين غير السوريين، متمسكا بحقوق "الأقليات" الكافرة، واستمر يروج لهذه النظرية القومية الوطنية الجاهلية مساويا بين كل الطوائف والنحل والملل السورية، حتى اكتوى بنارها اليوم في الساحل السوري! إنها منهجية جاهلية فاشلة في التعامل مع هؤلاء بعيدا عن منهج الإسلام العدل الذي لا يفاضل بين السوريين إلا بالإسلام، ولا يساوي بين ظفر مسلم، وسوري علوي نصيري أو درزي... فهم كلهم سواء، لكن ليس مع المسلم.

وفي لوثة خطيرة أفرزتها الأحداث، يتم تحجيم وتقزيم وتشويه مفهوم "السُّنة" وإفراغه من مضمونه العقدي الشرعي، والتعامل معه كأنه مجرد "قومية" تقابل القوميات والأقليات السورية الأخرى!، فيطالب البعض بتسليحها لصد خطر القوميات الأخرى! هكذا بدا الطرح الجديد، إن السُّنة شرعا هم أهل السُّنة والجماعة الذين يدينون بعقيدة الإسلام ويخضعون وينصاعون لأحكامه، فمن لم يلتزم بذلك لا يصح نسبته للسُّنة حكما ومنهجا، وتسليحه بالعقيدة مقدم على تسليحه بالعتاد لكي لا ينتهي به المطاف مقاتلا وطنيا صرفا من جنس "الجولاني" يرى في "الإعلان الدستوري" الكفري "يوما تاريخيا" يحميه ويقاتل من ورائه!!

ومن مفرزات المشهد السوري وصف الصراع الحاصل بـ "الطائفية!" وهو مصطلح جاهلي تسلل إلى المحيط السني من "المواثيق الدولية" وكتب السير الإخوانية المحرّفة، وهو يخالف "ملة إبراهيم" التي تقوم على البراءة من كل طوائف الكفر ومفاصلتها ومحاكمتها لأحكام الإسلام حربية كانت أو ذمية، إن قتال طوائف الكفر ليست طائفية، بل عقيدة إسلامية أصيلة مصدرها الكتاب والسُّنة فعلتها القرون المرضية.

ويلحق بما سبق، الموقف المتناقض لشبيحة النظام السوري الجديد تجاه "الميليشيات الكردية" التي كانت في الليل صنيعة يهودية أمريكية، وفي الصباح غدت حليفا وشريكا سياسيا وطنيا، تبعا لإملاءات الخارج تماما كشبيحة النظام النصيري، فلكل نظام أطراف خارجية تسيره وتمده بالغي.

أما موقف المسلم في الشام من هذه الرايات والأنظمة الجاهلية المتحالفة والمتصارعة على أرضه، هو أن يعتزلها ويفارقها جميعا بكل صورها وأصنامها العصرية، ويولي وجهه شطر التوحيد، فيحققه قولا وعملا ولا يرضى بغير موالاة المؤمنين -قلوا أو كثروا- ومناصرتهم ومؤازرتهم، ومعاداة الكافرين والمرتدين -قلوا أو كثروا- ومجاهدتهم بكل وسيلة، {وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}.


المصدر:
صحيفة النبأ – العدد 486
السنة السادسة عشرة - الخميس 13 رمضان 1446 هـ

المقال الافتتاحي:
نسف الأقلية والطائفية!
...المزيد

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً