التوفيق بين الاقتصاد في الطاعة والمسارعة إلى الخيرات
السؤال الأول: بوَّب العلماء في كتبهم باب الاقتصاد في العبادة، وذكروا أدلة وأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مفادها أن يقتصر المسلم في عبادته، فكيف نوفِّق بين هذا، وبين المسارعة في الخيرات، وأيضاً فعل بعض السلف من الصلاة أكثر من 200 ركعة في اليوم؟ وكيف نفهم هذه السنة، أقصد سنة الاقتصاد؟
السؤال الثاني: كيف أكون ربانياً؟ وكيف أكون عالماً ربانياً؟ وهل يشترط لكي أكون ربانياً أن أكون عالماً من العلماء؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
دين الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم هو دين العدل والاعتدال، والوسطية بين الإفراط والتفريط في كل شرائعه. وهذه الوسطية تتحقق بالوقوف عند حدود الله: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} [البقرة:229]، وهي شرائعه من واجبات ومستحبات ومباحات، وتجاوزها وتعديها يكون بالزيادة عليها، فإن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والدين ما شرعه الله، فمن ابتدع في الدين عبادة أو عقيدة، أو حرَّم حلالاً فقد تعدَّى حدود الله، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة:87-88].
وقال سبحانه وتعالى في الإنفاق: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67]، فمن أنفق في غير ما شرع الله وأباح كان من المسرفين، ومن بخل بما أنعم الله عليه بما أوجب كان من المفرطين.
والاقتصاد في العبادة هو التوسُّط فيها؛ وذلك بالوقوف عند ما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله أو فعله، فمن أراد أن يتعبد لله فوق ما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم لعدم اقتناعه بهديه صلى الله عليه وسلم كالذين قالوا ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من الصيام والقيام والتفرغ للعبادة، وقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، فقال بعضهم: أنا أصوم ولا أفطر، وقال بعضهم: أقوم ولا أنام الليل، وقال بعضهم: أنا لا أتزوج النساء، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بخبرهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" (رواه البخاري5063، ومسلم1401) من حديث أنس رضي الله عنه.
وما جاء عن بعض السلف من مواصلة الصيام على الدوام ومواصلة القيام كان ذلك باجتهاد منهم، وأكثر ما وقع ذلك من بعض العباد، وهو بكل حال خطأ؛ لأنه خلاف هديه عليه الصلاة والسلام، وخلاف ما أرشد إليه صلى الله عليه وسلم في قوله: "يسروا ولا تعسروا" (رواه البخاري6125، ومسلم1734) من حديث أنس رضي الله عنه، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيءٌ من الدُّلجة، والقصد القصد تبلغوا" (رواه البخاري6463، ومسلم 2816) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومعلوم أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، والاقتصاد في العبادة هو لزوم هديه عليه الصلاة والسلام المشتمل على التيسير البريء من الإفراط والتفريط.
وأما قولك: كيف أكون عالماً ربانياً؟ فنقول: سل الله من فضله، وخذ بأسباب ذلك حسب استطاعتك، والله سبحانه وتعالى يؤتي فضله من يشاء، ولا يوصف بالربانية إلا من كان عالماً، عاملاً معلماً، ومن طلب فضل الله واتقى الله جعل له من أمره يسراً، ولو لم تظفر إلا بالنية الصالحة والعزيمة الصادقة فالله يثيبك على ذلك، ويبلغك من ذلك ما قدر لك، وهو سبحانه وتعالى أعلم حيث يجعل فضله، والله ذو الفضل العظيم. والله أعلم.
تاريخ الفتوى: 13-4-1426 هـ.
- التصنيف:
- المصدر: