قال أبو عثمان سعيد بن إسماعيل رحم الله : فانصح للسلطان ، وأكثر له من الدعاء بالصلاح والرشاد بالقول ...

قال أبو عثمان سعيد بن إسماعيل رحم الله : فانصح للسلطان ، وأكثر له من الدعاء بالصلاح والرشاد بالقول والعمل والحكم ، فإنهم إذا صلحوا صلح العباد بصلاحهم، وإياك أن تدعو عليهم باللعنة! فيزدادوا شراً، ويزداد البلاء على المسلمين ، ولكن ادع لهم بالتوبة فيتركوا الشر ، فيرتفع البلاء عن المؤمنين.

قلت: وهذا مما لا يتفطن له إلا خواص أهل العلم الناظرون في مصالح الأمة بعين الشرع والعدل لا بعين العاطفة.
...المزيد

حكم الاحتفال برأس السنة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد فإنه مع اقتراب انصرام العام ...

حكم الاحتفال برأس السنة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد فإنه مع اقتراب انصرام العام ودخول العام الجديد، فقد أصبحنا نشاهد ظاهرة من أخطر الظواهر والجرائم التي تهدد دين المسلم وتضعف عقيدة الولاء والبراء، ألا وهي ظاهرة:" الاحتفال برأس السنة الميلادية"، فإن هذا الفعل من صنيع أهل الكفر والإلحاد، ولقد تبعهم في ذلك ثلة من المسلمين من شتى طبقات المجتمع، وذلك لضعف دينهم وعدم أخذهم للدين الصحيح من أصوله، وإنه لا شك ولا ريب أنه لا يجوز الاحتفال بهذه المناسبة في أي حال وبأي صورة، لأن ذلك يقدح في كمال عقيدة المسلم، ويجعله ضعيف الشخصية، يتبع كل ما يأتي من هنا وهناك، ولقد تواترت النصوص والأدلة في التحذير من هذه الأفعال المشابهة لأعداء الإسلام، والأدلة في ذلك أقسام:
من القرآن الكريم:
يقول الله سبحانه وتعالى:" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إنَّ الله لا يهدي القوم الظالمين". المائدة 53.
ويقول أيضا:" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزؤا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين". المائدة 59.
وقال أيضا:" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون". آل عمران118.
وقال أيضا:" المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إنَّ المنافقين هم الفاسقون". التوبة 67.
وقال أيضا:" والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إنَّ الله عزيز حكيم". التوبة 72.
وقال أيضا:" ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" البقرة 215
وقال أيضا:" ودَّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق". البقرة 108.
وقال أيضا:" ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إنَّ هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهوائهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير". البقرة 119.
وقال أيضا:" قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون". التوبة 29.
وقال أيضا:" إذا لأذقنك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا". الإسراء 75.
من السنة النبوية:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من تشبه بقوم فهو منهم".
عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما، قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ، فَقَالَ:" إِنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلَا تَلْبَسْهَا".
عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ، أَحْفُوا الشَّوَارِبَ، وَأَوْفُوا اللِّحَى".
ويقول أيضا:" صلوا في نعالكم، خالفوا اليهود".
وقال أيضا:" إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم".
وقال أيضا:" فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب: أكلة السحر".
وقال أيضا:" لا تزال أمتي على مسكة ما لم ينتظروا بالمغرب اشتباك النجوم، مضاهاة لليهودية، ولم ينتظروا بالفجر محاق النجوم، مضاهاة للنصرانية، ولم يكلوا الجنائز إلى أهلها".
وقال أيضا:" لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر، لأن اليهود والنصارى يؤخرون".
وقال أيضا:" صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا اليهود، وصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده".
وقال أيضا:" لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع، رهبانية ابتدعوها، ما كتبناها عليهم".
وقال أيضا:" يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله ؟!. إنما هلك بنو إسرائيل أنهم كانوا: إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
من آثار السلف وأقوال العلماء:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخطة تنزل عليهم.
وقال أيضاً: اجتنبوا أعداء الله في عيدهم.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: من بنى ببلاد الأعاجم فصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة.
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات. وهو بمنـزلة أن تهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثماً عند الله، وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام ونحوه. وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبداً بمعصية، أو بدعة، أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه.
ويقول العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ: لا يجوز للمسلم ولا للمسلمة مشاركة النصارى، أو اليهود، أو غيرهم من الكفرة في أعيادهم، بل يجب ترك ذلك؛ لأن من تشبه بقومٍ فهو منهم، والرسول صلى الله عليه وسلم حذرنا من مشابهتهم والتخلق بأخلاقهم.
فعلى المؤمن وعلى المؤمنة الحذر من ذلك، وألا يساعد في إقامة هذه الأعياد بأي شيء؛ لأنها أعياد مخالفة لشرع الله، ويقيمها أعداء الله فلا يجوز الاشتراك فيها، ولا التعاون مع أهلها، ولا مساعدتهم بأي شيء، لا بالشاي، ولا بالقهوة، ولا بأي شيء من الأمور كالأواني ونحوها، فالمشاركة مع الكفرة في أعيادهم نوع من التعاون على الإثم والعدوان، فالواجب على كل مسلم وعلى كل مسلمة ترك ذلك.
وقال العلامة محمد بن صالح بن عثيمين: تهنئة الكفار بعيد الكريسمس أو غيره من أعيادهم الدينية حرام بالاتفاق، وإذا هنئونا بأعيادهم فإننا لا نجيبهم على ذلك؛ لأنها ليست بأعياد لنا، ولأنها أعياد لا يرضاها الله لأنها إما مبتدعة في دينهم، وإما مشروعة، لكن نسخت بدين الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق، وإجابة المسلم دعوتهم بهذه المناسبة حرام؛ لأن هذا أعظم من تهنئتهم بها لما في ذلك من مشاركتهم فيها وكذلك يحرم على المسلمين التشبه بالكفار بإقامة الحفلات بهذه المناسبة، أو تبادل الهدايا أو توزيع الحلوى، أو أطباق الطعام، أو تعطيل الأعمال ونحو ذلك، ومن فعل شيئاً من ذلك فهو آثم، سواء فعله مجاملة، أو تودداً، أو حياءً، أو لغير ذلك من الأسباب؛ لأنه من المداهنة في دين الله، ومن أسباب تقوية نفوس الكفار وفخرهم بدينهم.
قال الشيخ العلامة أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد العبدري الفاسي المالكي الشهير بابن الحاج (المتوفى 737ه): ... الْكَلَامُ عَلَى الْمَوَاسِمِ الَّتِي اعْتَادَهَا أَكْثَرُهُمْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا مَوَاسِمُ مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، فَتَشَبَّهَ بَعْضُ أَهْلِ الْوَقْتِ بِهِمْ فِيهَا، وَشَارَكُوهُمْ فِي تَعْظِيمِهَا، يَا لَيْتَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي الْعَامَّةِ خُصُوصًا، وَلَكِنَّك تَرَى بَعْضَ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْعِلْم ِيَفْعَلُ ذَلِكَ فِي بَيْتِهِ وَيُعِينُهُمْ عَلَيْهِ وَيُعْجِبُهُ مِنْهُمْ، وَيُدْخِلُ السُّرُورَ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ فِي الْبَيْتِ مِنْ كَبِيرٍ وَصَغِير ٍبِتَوْسِعَةِ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ عَلَى زَعْمِهِ، بَلْ زَادَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ يُهَادُونَ بَعْضَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي مَوَاسِمِهِمْ، وَيُرْسِلُونَ إلَيْهِمْ مَا يَحْتَاجُونَهُ لِمَوَاسِمِهِمْ فَيَسْتَعِينُونَ بِذَلِكَ عَلى زِيَادَةِ كُفْرِهِمْ، وَيُرْسِلُ بَعْضُهُمْ الْخِرْفَانَ وَبَعْضُهُمْ الْبِطِّيخَ الْأَخْضَرَ وَبَعْضُهُمْ الْبَلَحَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِي وَقْتِهِمْ، وَقَدْ يَجْمَعُ ذَلِكَ أَكْثَرُهُمْ، وَهَذَا كُلُّهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ.
وَسُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ مُؤَاكَلَةِ النَّصْرَانِيِّ فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ؟ قَالَ: تَرْكُهُ أَحَبُّ إلَيَّ، وَلَا يُصَادِقُ نَصْرَانِيًّا.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ معلقا على كلام الإمام مالك: الْوَجْهُ فِي كَرَاهَةِ مُصَادَقَةِ النَّصْرَانِيِّ بَيِّنٌ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ:" لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْم الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ"لمجادلة 22، فَوَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُبْغِضَ فِي اللَّهِ مَنْ يَكْفُرُ بِهِ وَيَجْعَل ُمَعَهُ إلَهًا غَيْرَهُ وَيُكَذِّبُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُؤَاكَلَتُهُ فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ تَقْتَضِي الْأُلْفَةَ بَيْنَهُمَا وَالْمَوَدَّةَ فَهِيَ تُكْرَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ عَلِمْت طَهَارَةَ يَدِهِ.
سُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ الرُّكُوبِ فِي السُّفُنِ الَّتِي يَرْكَبُ فِيهَا النَّصَارَى لِأَعْيَادِهِمْ؟ فَكَرِهَ ذَلِكَ مَخَافَةَ نُزُولِ السُّخْطِ عَلَيْهِمْ لِكُفْرِهِمْ الَّذِي اجْتَمَعُوا لَهُ.
قال الشيخ ابن حبيب الأندلسي المالكي: لَا يُقْضَى بِالْإِخْطَارِ فِي الْأَعْيَادِ وَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ مُسْتَحَبًّا فِي أَعْيَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُكْرَهُ فِي أَعْيَادِ النَّصَارَى كَالنَّيْرُوزِ، وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ فَعَلَهُ وَلَا يَحِلُّ لِمَنْ قَبِلَهُ لِأَنَّهُ مِنْ تَعْظِيمِ الشِّرْكِ.
وقال أخر: فَلَا يَحِلُّ قَبُولُ هَدَايَا النَّصَارَى فِي أَعْيَادِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَذَا الْيَهُودُ وَكَثِيرٌ مِنْ جَهَلَةِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقْبَلُ مِنْهُمْ ذَلِكَ فِي عِيدِ الْفَطِيرَةِ عِنْدَهُمْ وَغَيْرَهُ.
قَالَ الإمام مَالِكٌ: لَا يُكْرِي مُسْلِمٌ دَابَّتَهُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَرْكَبُونَهَا إلَّا لِأَعْيَادِهِمْ أَوْ لِكَنَائِسِهِمْ، أَوْ يَبِيعُ مِنْهُمْ شَاةً يَعْلَمُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ إنَّمَا يَذْبَحُونَهَا لِذَلِكَ.
وسئل ابن رشد عن جواز بيع الألعاب المصنوعة في النيروز كالزيافات وشبهها وفي حيلة ثمنها؟ فأجاب: لا يحل عمل شيء من الصور ولا بيعها ولا التجارة فيها والواجب منعهم منه.
هذا ما وفقني الله لجمعه من الأدلة الشرعية من القرآن والسنة وأقوال العلماء في بيان حكم مشابهة الكفار والاحتفال معهم في أعيادهم.
والله أعلم.
كتبه الفقير إلى عفو ربه الطالب:
عبدالله بن أحمد بوقليع.
...المزيد

الوالدين بين البر والعقوق إنَّ شريعتنا الإسلامية شريعة الأخلاق، والألفة والوفاق، لم تترك خلقا حسنا ...

الوالدين بين البر والعقوق
إنَّ شريعتنا الإسلامية شريعة الأخلاق، والألفة والوفاق، لم تترك خلقا حسنا إلا دلت وحثت عيه، ولا خلقا سيئا إلا نهت، في شتى جوانب الحياة، وإن من أهم ما حرصت على ترسيخه؛ مبادئ الطاعة والاحترام بين الأبناء والآباء، فلقد تواترت النصوص والأدلة في وجوب طاعة الوالدين وعدم العقوق لهما بأي شكل كان، ولهذا قال سبحانه:" وقضى ربك ألاَّ تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا"، فلقد أمر الله سبحانه وتعالى بإفراده بالعبودية وأعقبها بالإحسان إلى الوالدين، ولهذا قال بعض أهل العلم: لو شرعت العباد لشخص آخر غير الله، لكانت للوالدين، ومن هنا يتبين لنا عظمة هذا الأمر، والمقصود بالبر للوالدين؛ هو الطاعة التامة في غير معصية الله، والإحسان لهما، ويتجلى البر بالوالدين في صورة عديدة، منها: طاعتهما في القول والفعل، والامتثال لأوامرهما في غير معصية، ومنها حسن التكلم معهما وطلاقة الوجه، ولين الجانب معهما، والترحيب بهما بصدر رحب، ومنها السعي في قضاء حوائجهما قدر الاستطاعة، ومنها تفقد أحوالهم وأوضاعهما بين الحين والآخر، سواء بالزيارة الشخصية، أو عبر الهاتف، والأول مقدم عندي على الثاني، ومنها تقديم الطعام والشراب لهما في حالة العافية أو المرض، ومنها الدعاء لهما بالخير:" وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا"، ومنها الاجتهاد في تحصيل العلم من أجل إفراح قلوبهما وإسرارهما، كما جاء في الحديث عندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال فقال:" سرور تدخله على مسلم"، فإذا كان هذا في حق عوام الناس، فكيف بالوالدين؟ ومن مظاهر البر لهما الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، كما نص على ذلك العلامة محمد الأمين الشنقيطي، فقال:" صلاة على العبد رسول الله صلى الله عليه وسلم، تكون سببا في ثناء الله عليه وذكره له في الملأ الأعلى باسمه واسم والديه، ومن مظاهر البر بالوالدين المحافظة على الإتيان بأوامر الله كالمحافظة على الصلاة وقراءة القرآن والتحلي بالأخلاق الفاضلة، والانتهاء عن نواهيه وزواجره كترك الصلاة والكذب والسرقة والغيبة والنميمة وغيرها، فإن المحافظة على الأوامر تكون سببا في فرح الوالدين، وهذا أولى بالفرح من تحصيل الشهادة العلمية، وإن عدم الانتهاء عن النواهي والزواجر، تكون سببا في حزنهما، فاحرص أخي المسلم على إفراح والديك، وإنَّ أعظم فرح تقدمه لوالديك أن تكون على الصراط المستقيم، فتلتقي بهما في الجنة، وأكبر حزن تقدمه لهما أن تعيش حياتك متبعا للهوى، فتكون من أهل النار يوم القيامة، فحينها سيحزنان أشد الحزن، وحينها ستدرك حقيقة الأمر، ولكن بعد فوات الأوان.
وللبر بالوالدين فضائل كثيرة منها: نيل محبة الله ورضاه، وكما يكون بر الوالدين سببا في دخول الجنة، ومنها نيل دعائهما المبارك فبذلك تفتح للإنسان جميع أبواب الخير، ومنها مغفرة الذنوب للحديث الذي رواه ابن عمر رضي الله عنه قال: أنَّ رجلًا أتَى النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فقالَ يا رسولَ اللَّهِ إنِّي أصَبتُ ذنبًا عظيمًا فَهَل لي مِن تَوبةٍ، قالَ: هل لَكَ مِن أمٍّ؟ قالَ: لا، قالَ: هل لَكَ من خالةٍ؟ قالَ: نعَم، قالَ: فبِرَّها"، ومنها تحصيل البركة في المال والعمر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" مَنْ سَرَّه أنْ يُعظِمَ اللهُ رِزْقَه، وأنْ يَمُدَّ في أجَلِه، فَليَصِلْ رَحِمَه"، والوالدان أول الأرحام وأقربهما، ومن فضائل البر بالوالدين تحقيق الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة فقد أخرج الامام مُسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام، سُئل: يا نَبِيَّ اللهِ، أيُّ الأعْمالِ أقْرَبُ إلى الجَنَّةِ؟ قالَ: الصَّلاةُ علَى مَواقِيتِها، قُلتُ: وماذا يا نَبِيَّ اللهِ؟ قالَ: برُّ الوالِدَيْنِ"، وغير ذلك كثير.
هذه بعض مظاهر البر بالوالدين وفضائله، ولقد حرص السلف الصالحون أشد الحرص على تجسيدها في معيشتهم، فلقد كان البر بالوالدين سببا في نجاة أصحاب الغار الذين أغلقت عليهم الصخرة الغار، فاستغاث أحدهم ببره بوالديه – فقد كان يحلب البقر ولا يدع أحدا يتذوق ذلك الحليب إلا بعد أن يشرب منه والداه، فجاء ذات يوم كعادته فوجدهما قد ناما فانتظرهما حتى استيقظا ثم سقهما الحليب ثم رجع إلى بيته- فانفرجت الصخرة مسافة أخرى، ولقد كان أصدق التابعين أويس القرني بارا بأمه، وكان بره بأمه سببا في عدم رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم، فلقد أدرك رحمه الله زمان رسول والله ولكنه لم يره، لأنه لم يخرج من بلدته بسبب بره بأمه إلى أن توفيت، فلقد قدم بره بأمه على نيل درجة الصحبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأراد كهمس العابد: قتل عقرب، فدخلت جحر فأدخل أصابعه خلفها فلدغته، فقيل له بذلك، قال: خفت أن تخرج، فتجيء إلى أمي تلدغها، وكان علي بن الحسن: لا يأكل مع والديه فقيل له في ذلك فقال: لأنه ربما يكون بين يدي لقمة أطيب مما يكون بين أيديهما وهما يتمنيان ذلك، فإذا أكلت بخست بحقهما، وكان محمد بن المنكدر يضع خده على الأرض، ثم يقول لأمه: ضعي قدمك على خدي، وكان محمد بن سيرين إذا اشترى لوالدته ثوباً اشترى ألين ما يجد، فإذا كان عيد صبغ لها ثياباً، وما رفع صوته عليها، كان يكلمها كالمصغي إليها، ومن رآه عند أمه لا يعرفه ظن أن به مرضاً من خفض كلامه عندها، وعن عبد الله بن عون: أن أمه نادته فأجابها فعلا صوته صوتها فأعتق رقبتين. وقيل إن بندار جمع حديث البصرة، ولم يرحل براً بأمه، ثم رحل بعدها.
وقال عليٌّ رضي الله عنه: بر الوالدين من كرم الطبائع، وقال الفضيل بن عياض تمام المروءة: من بر والديه، ووصل رحمه، وأكرم إخوانه.
وسئل الحسن عن الوالد والوالدة فقال: حق الوالد أعظم، وبر الوالدة ألزم.
هكذا كان حال سلفنا الصالحين مع والديهم، فلقد ضربوا أروع الأمثلة وأسمى النماذج، وبدلوا الغالي والنفيس من أجل البر بوالديهم، فتعالوا بنا إلى الاقتداء بهم، لعله يصيبنا بعض ما أصابهم.

إذا كان ما ذكرته هو البر وحال السلف معه، فتعالوا نتكلم عن العقوق وحال الخلف معه، والمقصود بالعقوق هو كل فعل أو قول يتأذى به الوالدان من ولدهما، ولقد انتشرت هذه المعصية بشكل كبير في الآونة الأخيرة، ولها مظاهر عدة منها: رفع الصوت على الوالدين في الكلام وإسكاتهما، ومنها التفوّه بكلمات بذيئةٍ وسيئة معهما، والنظر إليهما بغضبٍ أو ازدراءٍ واستهانةٍ، وذكر عيوبهما وإحراجهما أمام الناس وخاصة عند كبرهما، ومنها ترك الإنفاق عليهما عند كبرهما، ومنَّة الابن على والديه، وذكرُ إحسانه إليهما أمام الناس، ومنها أيضا ترك مساعدتهما، وعدم الجلوس معهما وقت الحاجة، والتأخر في قضاء حوائجهما، وقلة زيارتهما، وعدم الاهتمام برأيهما أو استشارتهما في الأمور، مما يشعرهما باستغناء الولد عنهما، ومن مظاهر العقوق للوالدين ترك الدعاء والاستغفار لهما بعد وفاتهما، وعدم تقديم الصدقة عنهما، وعدم إكرام أصدقائهما، وقطع صلة سائر أقاربهما، وكذلك ارتكاب الأعمال التي تتنافى مع الأخلاق الكريمة معهما، وهجرهما وإيداعهما في دار العجزة، ومنها أيضا التأمر وإكثار الطلب عليهم، كأمر الوالدة بتنظيف البيت، وغسل اللباس، وغيره خاصة إذا كانت كبيرة أو مريضة، لكن إذا قامت بذلك برغبتها وهي غير عاجزة أو مريضة فلا بأس في ذلك، مع تذكّر الدعاء لها وشكرها وإعانتها، ومنها الإعراض عنهما، ومقاطعتهما بالكلام، والإكثار من مجادلتهما أو تكذيبهما، واصطناع المشاكل أمامهما، وكذلك أن يجعل الولد نفسه نداً ومساوياً لأبيه وأمه، فيتكبر عليهما، ويعطي لنفسه الحق بأن يرفع صوته على والديه، ومن أهمها أيضا تقديم أوامر الزوجة على أوامر الوالدين، وكذلك التزوج بامرأة تشترط أن تكون في بيت مستقل مع يسر الحال في بيت الوالدين، وكذلك منع الوالدين من القوم لزيارة أحفادهم، ومنها أن يسب الرجل والد الرجل، فيسب الثاني والد الأول، فيكون سببا في لعن والديه، وغير ذلك كثير.
ولا يخفى علينا مفاسد العقوق للوالدين، فمفاسده كثيرة منها: حلول مقت الله وغضبه على العبد لأن العقوق من كبائر الذنوب، فقد قال صلى الله عليه وسلم:" أَلا أُنَبِّئُكُمْ بأَكْبَرِ الكَبائِرِ، قُلْنا: بَلَى يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: الإشْراكُ باللَّهِ، وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ، وكانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فقالَ: ألا وقَوْلُ الزُّورِ، وشَهادَةُ الزُّورِ، ألا وقَوْلُ الزُّورِ، وشَهادَةُ الزُّورِ فَما زالَ يقولُها، حتَّى قُلتُ: لا يَسْكُتُ"، ومنها الضيق وانعدام الطمأنينة بالعيش، واستياء حال الأسرة بسبب عقوقه، وكذلك استصغار الناس له، وذلك لأنه لم يكن فيه خيراً لأقرب أهله، فلا يرجو الناس منه خيراً قط.، ومنها أيضا انعدام النجاح والفلاح في حياته الدنيا، خاصةً في التعامل مع الناس، وذلك لأن الناس ينفرون ويبتعدون عمّن يُنكر الجميل، ومن يتجاهلهم، ولا يهتم بمصالحهم، ويتعامل معهم بأنانية، فمن كانت القسوة في قلبه لم يهنأ في حياته، وكذلك دعاء الوالدين على ولدهم، ومعلوم أن دعوتهما مستجابةٌ، فقد ورد في الحديث قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ثلاث دعواتٍ مستجاباتٌ دعوةُ المظلومِ ودعوةُ المسافرِ ودعوةُ الوَالِد على وَلدهِ"، وغير ذلك كثير.
ولقد تواترت آثار السلف في النهي عن هذه المعصية، فقد قال بعض الصحابة: ترك الدعاء للوالدين يضيق العيش على الولد، وقال كعب: إن الله ليعجل هلاك العبد إذا كان عاقاً لوالديه ليعجل له العذاب، وإن الله ليزيد في عمر العبد إذا كان باراً ليزيد براً وخيرا، وقال أبوبكر بن أبي مريم قرأت في التوراة: من يضرب أباه يقتل.
هذه جملة مختصرة عن حال البر والعقوق للوالدين، وصورهما في عهد السلف وعهد الخلف.
كتبه الفقير إلى عفو ربه الطالب:
عبدالله بن أحمد بوقليع.
...المزيد

حقيقة الواقع الذي نعيش فيه أُحييكم بتحية تعلو مُحياكم، وتنتعش برياكم، غراء محجلة، طاهرة ...

حقيقة الواقع الذي نعيش فيه

أُحييكم بتحية تعلو مُحياكم، وتنتعش برياكم، غراء محجلة، طاهرة مبجلة، تحرك الضمير، وتقي النفس من التقصير، ألَّا وهي تحية الإسلام: سلام الله عليك.
وبعد، إني أحببت أن أكتب لكم هذه الرسالة لتبيان حقيقة الواقع الذي نعيش فيه، لعلنا نستفيد من هذه الكلمات القليلة، والله من وراء القصد.
إننا نعيش في هذه الأيام في مزيج بين التطور من جهة، والتخلف من جهة أخرى، فالتطور يتجسد في صنعنا للسيارات والطائرات التي سهلت التنقل من مكان إلى آخر، فقد أصبح الإنسان المعاصر عندما يريد الذهاب إلى مكان معين، ما عليه إلَّا أن يحجز في الطائرة المتجهة إلى المكان الذي يريده، وخلال ساعات معدودة فإنه يصل إلى مبتغاه، وكذا فإنَّ التطور يتجسد في صنع الغسالات وأجهزة الطبخ الكهربائي التي سهلت على المرأة قضاء أعمالها المنزلية خلال وقت وجيز، فأصبحت المرأة عندما تريد غسل الملابس ما عليها إلَّا أن تضع الملابس في الغسالة وبضغطة زر واحدة تنتقل مهمة الغسل من المرأة إلى الغسالة، وكذلك فإنَّ التطور يتجسد في اختراع جهاز التلفاز الذي يعرض كل ما يحدث في العالم من خلال ما تستقبله صحون الإستقبال من الأقمار الصناعية المنتشرة في الفضاء الواسع، والذي يسهل على الإنسان معرفة أحوال مجتمعه كالجرائم، والملتقيات، والزيارات الدولية....، وإنَّ أعظم تطور هو اختراع "شبكة الأنترنيت" التي غيرت مجرى الحياة، حيث كانت فكرة الأنترنيت ترجع إلى عام 1968، وذلك بإنشاء نظام ربط إلكتروني قادر على الاشتغال في جميع الظروف، وهي عبارة عن مجموعة من الحواسيب التي ترتبط فيما بينها والتي تستند إلى بنوك المعلومات المختلفة، وقد كانت تستعمل في القدم من قبل الحكومات أو بالأحرى الاستخبارات، ومن ثم تم تطويرها لتصبح مستعملة من طرف كل الناس، وقد أثبتت إحصائيات رسمية أنَّ مليونا ونصفًا من مستعملي الإنترنيت يرتبطون بالشبكة العنكبوتية كل شهر، وخلال دراسة علمية تم إثبات أنَّ نسبة 80% من استعمالات الإنترنيت تستعمل في الشر المحض الذي لا خلاف فيه، ونسبة 10% تستعمل في الخير المحض، وتبقى نسبة 10% تستعمل في التواصل بين الناس.
ومن هنا يتبين لنا معنى التطور الذي ذَكَرتُه في البداية، وهو تطور علميٌ تكنولوجيٌ.
أمَّا التخلف فهو يتمثل في انسلاخنا عن ديننا وأخلاقنا، فأصبحنا كالبهائم لا نميز بين نافع وضار، وطيب وخبيث، وننساق وراء الشهوات والشبهات، كأنَّ الله خلقنا هملا ولم يميزنا عن سائر مخلوقاته بالعقل، ولم يأمرنا بتحكيمه واستعماله في مواطنه المشروعة، ولهذا التخلف صور عديدة، منها:
اقتناع كثير من أبناء وبنات المسلمين بالأفكار العقدية الهدَّامة كالفكر الحدثي والإلحاد، واتباعهم لكثير من الطوائف الضالة التي حذَّر منها النبي صلى الله عليه وسلم كالشيعة والقاذينية والمعتزلة، التي تريد هدم الدين والقضاء على العقيدة الإسلامية الصحيحة، فمنهم من يخوض في أسماء الله وصفاته ويجعل لها كيفية وهيئة مشابهة للبشر، والله سبحانه وتعالى يقول:" ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" الشورى9، ومنهم الذين يدَّعون النبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول:" أنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي"، ومنهم الذين يقولون بإبطال الجهاد وأنه عنف وهمجية، وكذا الذين يقولون بوحشية القصاص وإقامة الحدود، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:" حد يقام في الأرض خير من أن تمطروا سبعين خريفا"، وإنَّ أخطرهم للذين يقولون بوحدة الأديان ثم تطور المصطلح ليصبح الديانة العالمية، والله سبحانه يقول:" اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" المائدة3 ، وكذا الذين يردون عذاب البقر وفتنة المسيح الدجال وخروج يأجوج ومأجوج بحجة مخالفة العقل والواقع، ومنهم الذين يردون أحاديث الآحاد في العقيدة بحجة أنها ليست قطعية الدلالة والثبوت، يقول الله سبحانه:" وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إنَّ الله شديد العقاب" الحشر7، ومن هنا يتبين لنا كفر كل من يدّعي مثل هذا، فلا أصل له في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية، ومن صور هذا التخلف أيضا ظاهرة "سب الله" التي أصبح يرددها الكبير والصغير دون خوف من الله أو تعظيم له، وإنَّ العجب لينقضي إذا كان هذا السب في وسط مجتمعات المسلمين التي تُظهر شعائر الدين كالصلاة والصوم، يقول الله سبحانه وتعالى:" يكاد السماوت يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا" مريم90، ثم يأتي هذا الإنسان الضعيف المقهور ويتجرأ على سب رب العالمين الذي خلقه ورزقه وسخر له كل ما يعينه في حياته، وإني أقول كما قال أهل العلم: من سب الله فهو كافر وإن صلى وصام وحج وزعم الإسلام، فينبغي عليه تجديد العهد والتوبة إلى الله من جديد قبل فوات الآوان، وصورة أخرى من صور هذا التخلف وهي "الإختلاط بين الرجال والنساء" فإننا نلاحظ أبنائنا يتربون منذ الصغر على الإختلاط في المدارس والمنشأت التعليمية، ومن ثَم يتطور هذا الإختلاط ليصبح بين الرجال والنساء في أماكن العمل وكأنَّه من صميم الحياة ومتطلباتها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:" ما تركت فتنة أشد على الرجال من فتنة النساء" ويقول أيضا:" إذا رأى الرجل المرأة ذهب نصف عقله"، وأصبحنا نشاهد سفر المرأة دون محرم وكلامها مع الرجال الأجانب ومصافحة بعضهم البعض، وقد قال خير الورى:" لا تسافر المرأة مسيرة يوم وليلة غير ذي محرم" وقال أيضا:" لئن يشق أحدكم بمخيط من حديد أحب إليه من أن تمس يده يد امرأة لا تحل له"، ومن صور هذا التخلف أيضا ظاهرة التبرج عند النساء التي غزت العالم والتفنن في ذلك وكأنه من صميم الحياة ومن الأشياء المشروعة التي لا يمكن الإستغناء عنها، أ فلا تقرأ هذه النساء قول الله تعالى:" وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهيلة الأولى" الأحزاب 33، وقال أيضا:" يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما" الأحزاب59، ومن هنا بتبين لنا حرمة هذا التبرج، وإني أقول: أنَّ من أطلق زوجته أو ابنته أو أخته بهذا التبرج فإنه راض بالزنا والعياذ بالله، وكما أنَّ من أطلق من هم في رعايته بهذا التبرج فهو ديوث انقطعت منه جميع أوصاف الرجولة والشهامة والغيرة، وإنَّ من صور هذا التخلف انتشار المعاملات الربوية التي تقضي على الدين، وتحطم اقتصاد البلادان، وكما أنَّ من يتعاملون بالربا فإنهم معرضون للفقر والأمراض وكل البلايا، وقد جاءت النصوص الشرعية بتحريم الربا وبيان عاقبته، فقد قال الله تعالى:" الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسِّ" إلى قوله تعالى:" فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله" البقرة 275-279، وصورة أخرى من صور هذا التخلف وهي ظاهرة الكذب التي فشت في مجتمعنا، والتي قضت على العلاقات ودمرت الأسر، ورغم خطورتها إلَّا أنَّ الناس لا يكفون عنها، فهذا يكذب على خطيبته وذاك على صديقه وآخر على مدير عمله، وصوره لا تعد ولا تحصى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وإنَّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجور يهدي إلى النار" وإنَّ الكذب صفة من صفات المنافقين لقوله صلى الله عليه وسلم:" ثلاث من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتي يدعها، إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان"، والذي يتسبب في وقوع الطلاق في أغلب الأحيان وقد سجلت إحصائيات أخيرة أنَّ حالات الطلاق في العام الماضي تعدت 70000حالة، فتصوروا هذا العدد الرهيب، بغض النظر عن القضايا التي لم تسجل في المحاكم، ومن صور هذا التخلف أيضا ظاهرة الغش، فهذا يغش في الإمتحان، وذاك يغش في الميزان، والله سبحانه وتعالى يقول:" أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين" هود 85، وآخر يغش في الدوام، فيخرج من مكان عمله مبكرا ويدخل إليه متأخرا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:" من غشنا فليس منا".
ومن هنا يتبين لنا معنى التخلف الذي ذكرتُه سالفا وهو تخلف دينيٌ أّخلاقيٌ.
وإنَّ هذا التخلف الديني الأخلاقي الذي نعيش فيه يرجع إلى أنَّ كثير من الناس أصبحت تجري وراء الدنيا والحضارة الفانية دون مراعاة للدين والأخلاق، فأصبحنا نشاهد كثيرا من الأطباء والمهندسين يتكبرون عن الناس ويرفعون أنفسهم فوق منازلها، وإذا ناصحتهم في ذلك هبوا مسرعين إليك بلسان واحد "الناس صعدت إلى القمر وأنتم لا تزالون تهتمون بهذه التفاهات" وكأن التمسك بالدين والصحيح والأخلاق النافعة يمنع من التطور، يقول الشاعر:
لقد رفع التوحيد سلمان فارس وأذل الشرك الشقي أبا لهب
وماذا يفيدك يا عبد الله أن تصعد إلى القمر أو أن تصنع الطائرة إذا ضاع دينك وفسدت أخلاقك، والله لن يفيدك ذلك حتى لو مشيت على الماء أو طرت في الهواء، فأفيقي يا أُمة الإسلام.
هذه لمحة مختصرة عن حال الواقع المعاش، وخلاصة هذا القول أنه في تدهور وتقهقر، وإن ذلك ليعلمنا بقرب الفناء، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إنَّ بين يدي الساعة سنوات خدَّاعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويُخون فيها الأمين، ويتكلم الرويبضة، قيل: وما الرويبضة، قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة".
وهذا والله أعلم
كتبه الفقير إلى عفو ربه الطالب:
عبدالله بن أحمد بوقليع.
...المزيد

الصلاة وحال المسلم معها الحمد لله رب العالمين والصلاة على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد ...

الصلاة وحال المسلم معها
الحمد لله رب العالمين والصلاة على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد فإن دين الإسلام أفضل الأديان والجامع والناسخ لكل ما سبقه، لم يترك خيرا إلا دل عليه ولا شرا إلا حذر منه، لقوله تعالى:" ما فرطنا في الكتاب من شيء"، وأساس هذا الدين قائم على تحقيق العبودية لله تعالى وإفراده بذلك، وهو دعوة جميع الأنبياء والمرسلين لقوله تعالى:" وما أرسلنا قبلك من رسول إلا يوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون"، وبعد تحقيق هذا الأصل العظيم تأتي بعده الفرائض، وأهم فريضة وأولها هي "الصلاة"، إذ أنها الركن الثاني من أركان الإسلام كما جاء في الحديث:" بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان".
ويقصد بالصلاة في اللغة "الدعاء" لقوله تعالى:" وصل عليهم إنَّ صلواتك سكن لهم"، ومعناها في الاصطلاح؛ أنها عبادة بأقوال وأفعال معلومة، بصفة معلومة.
يتمثل حكمها؛ في أنها فرض عين على كل مسلم بالغ مميز عاقل، فرضت الصلاة في أعلى مكان في السماء عند سدرة المنتهى ليلة الإسراء والمعراج، كانت في بدايتها خمسون صلاة في اليوم، ثم خففت إلى أن وصلت إلى خمس صلوات في اليوم والليلة، وفي هذا دلالة على عظم الصلاة ومحبة الله لها.
وتوجد دلائل عدة في فرض الصلاة، فمنها قوله تعالى:" إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا، ومن السنة ما ورد في حديث معاذ لما بعثه إلى اليمن:" أعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة"، ولم ينكر أحد من علماء أهل السنة والجماعة مشروعية الصلاة من المتقدمين أو المتأخرين، وكما أن الصلاة واجبة في جماعة المسلمين ما لم يكن للإنسان عذر شرعي يجيز له التخلف عن صلاة الجماعة، فلا يجوز للإنسان أن يتخلف عنها بحجة الشغل أو قضاء بعض حوائج الدنيا وغيرها، ومما أصبح أن يتداول في أوساط المجتمع أنه يجوز للإنسان التخلف عن صلاة الجماعة بحجة أنَّ العمل العبادة، فنقول أنَّ هذه العبادة التي لم تراعي أهم ركن من أركان الإسلام فهي عبادة للشيطان واتباع للهوى، وكما أنه لا يجوز تأخير عن صلاة عن وقتها إلا لعذر شرعي، وهذا التأخير جائز ما لم يدخل وقت الصلاة الموالية، وهذا هو القول الصحيح في المسألة، وإن كان بعض العلماء قد فصلوا في مسألة الوقت الضروري والاختياري، ولكن الراجح من الأقوال هو ما ذكرته مسبقا، وجاز للمرء أن يصلي الصلاة إذا خرج وقتها ودخل وقت الموالية لها في أمرين؛ إذا نسيها، أو إذا نام عنها، لقوله صلى الله عليه وسلم:" من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك".
وللصلاة فضائل لا تعد ولا تحصى فمنها، أنَّ صلاة هي الفارق بين المسلم والكافر، كما جاء في الحديث:" بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة"، ومنها أنها رياضة للقلب والبدن؛ وتتجلى في أنها رياضة للقلب بأنها تلين قلب المحافظ عليها وتجعله دائم التفكر لله والشكر له، كما جاء في تفسير قوله تعال:" اعملوا آل داوود شكرا"، أنه لم تأت عليهم ساعة إلا وفيهم قائم يصلي، وكما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يكثر ويطيل الصلاة فسئل عن ذلك فقال: "أ فلا أكون عبدا شكورا"، وكما أنها تجعل من قلب المحافظ عليها متعلقا بالآخرة مستغنيا عن الدنيا، وتجعله يعيش في سعادة واطمئنان لا مثيل لهما، وتكون سببا في سلامته من الإصابة بداء الغفلة، فإن أعظم أسباب السلامة من الغفلة حياة القلب، وتتجلى في أنها رياضة للبدن وذلك من خلال أفعال الصلاة من ركوع وسجود، ولقد أثبت العلم الحديث ذلك، وكما أن لها فوائد طبية صحية، منها أنَّ السجود يساهم في اكتمال الدورة الدموية ووصوله إلى الدماغ، ومن فضائل الصلاة أيضا أنها تزيد في بركة الوقت وتسهل للإنسان قضاء حوائجه بأقل جهد، ومنها أنَّ المحافظ على الصلاة رزقه مضمون، كما قال الله تعالى:" وامر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى"، وكما أن فضائل الصلاة تتفاوت من صلاة لأخرى، فأفضل الصلوات صلاة الصبح والعصر، وذلك لأنها صلوات مشهودة، يشهدها ملائكة الليل والنهار، وكما أن المحافظ عليهما يدخل الجنة، لقول رسول الله:" من صلى البردين دخل الجنة"، وكما أن المحافظ على صلاة الصبح يسلم من الإصابة بالفيروسات والجراثيم وذلك لتنفسه أنقى هواء وأفضله وهو هواء أول اليوم في صلاة الصبح، ولقد أثبت العلم الحديث أن هواء الصباح يقتل الكثير من الجراثيم، فانظر لهذا الفضل العظيم الذي خص الله به المحافظين على صلاة الصبح، وكما انَّ لصلاة العشاء فضلا كثيرا لقول رسول الله:" أثقل الصلاة على المنافقين: الصبح والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا".
إذا كانت هذه الفضائل خاصة بالفرائض فما بالك بالذي يحافظ على الفريضة والنافلة معا، إن هذا هو الفائز الحقيقي، فلقد تواترت النصوص والأدلة في فضل صلاة النافلة من رواتب وقيام الليل ونفل مقيد ومطلق، كما قال رسول الله:" من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء"، وكما أن الإكثار من النوافل سبب لمحو السيئات لقوله تعالى:" أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين"، وفضائل المحافظة على صلاة الفرض والنفل لا تعد ولا تحصى.
ولنا القدوة في هذا بسلفنا الصالحين فلقد ضربوا أروع الأمثلة وأسمى النماذج في المحافظ على النوافل، فلقد روي عن خير الورى أنه كان يصي بالليل وكان يقول:" خير الصيام داوود وخير القيام قيام داوود، كان يصوم يوما ويفطر يوما، وكان ينام شيئا من الليل ويصلي شيئا من الليل"، وكما روي عن ابن عباس أنه كانت له خمسمائة شجرة يصلي عند كل واحدة ركعتين، ليصبح المجموع ألف ركعة في اليوم الواحد، وروي عن إمام الدار الهجرة مالك بن أنس أنه صلى الصبح بوضوء العشاء أربعين سنة، وثبت عن واحد من السلف أنه كان يقوم الليل فإذا اقترب الصبح تنحنح كأنه قام من نومه في تلك اللحظة، والأمثلة في ذلك كثيرة جدا.
رغم كل هذه الفضائل ورغم حرص المتقدمين على أداء هذه العبادة فرضا ونفلا، إلا أننا أصبحنا نشاهد فئات من المجتمع تخلت عن هذه الشعيرة بالكلية، أو تكاسلت في أدائها، فأصبحنا نرى الناس لا يستيقظون لصلاة الصبح ولا يعطون لها بالا بينما في المقابل لن يتأخر في دخوله إلى وظيفته أو إلى اجتماع مع كبار المسؤولين، أو لم يعلم هذا الإنسان أنه إذا حرص على صلاته فإنه حريص على مقابلة رب العباد وأداء حقوقه، وأنه إذا حرص على صلاته فإنه يزداد قربا من الله، ومن الصور الغريبة أنك ترى المقاهي تعج بالناس والأذان يرفع فلا يحركون ساكنا ولا يعطون النداء أي قيمة، أ فلم يعلموا أنهم إذا لم يجيبوا نداء الصلاة لن يجيبهم نداء الفلاح، ولقد تواترت النصوص والأدلة في أن تارك الصلاة كافر، فمنهم من قال كفر دون كفر، ومنهم من قال بالكفر الصريح، وأغلب الأقوال على القول الثاني، فقد قال عمر بن الخطاب: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، وقال بعض الصحابة أيضا: من تركها فقد كفر، قال العلامة العابد أبو أيوب السختياني: ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه، أما القول الأول فقد قال بعض المتأخرين كالعلامة محمد ناصر الدين الألباني، ومن الناس من لا يصلي إلا الجمعات وشهر رمضان والأعياد فإذا انقضى الشهر الفضيل لن تراه في المسجد إطلاقا، أ يتحايل هؤلاء الناس مع ربهم الذي خلقهم أم ماذا؟ والله إنهم لن يقدروا على ذلك، ومن الناس من تراه حريصا على جمع الدرهم والدينار في أي عمل كان فإذا رفع الأذان كأن الصمم أصاب أذنه، والله لن يبارك له في رزقه ولا في قوته، ومن الأصناف الغريبة أيضا أنك ترى بعض الناس إذا رفع الأذان يتجه إلى بيته لأداء الصلاة بدل أن يصلي مع جماعة المسلمين وبدون عذر، فنقول إن الصلاة في المنازل شرعت للنساء، وإن صلاة الرجل مع جماعة المسلمين تفوق صلاته وحده بسبع وعشرين درجة، ومن الصور العجيبة أيضا أنك تجد الشخص جالسا طوال يومه ثم يرجع إلى بيته في آخر النهار فيجمع جميع الصلوات تباعا، فنقول إن الجمع شرع من أجل المسافر أو المقيم في حالات ضيقة، فلا يجوز لك أن تؤخر عن الصلاة عن وقتها ثم تجمعها مع الموالية لها، وصور الاستهزاء بالصلاة كثيرة جدا، ولهذا ينبغي علينا أن نعلم عاقبة تارك الصلاة، أو المستهزئ بها، أو المتهاون في أدائها، فالأول والثاني يكفران بهذه الأفعال، وأما الثالث فهو في مشيئة الله، ولقد قرأت قصة أن أحدهم مات فلما ذهبوا بدفنه حفروا القبر الأول فخرجت منه حية على طوله، ثم حفروا القبر الثاني فقفزت الحية إلى القبر الثاني، ثم حفروا القبر الثالث فخرجت منه حية أخرى على طوله، ولم يبق بيدهم خيار إلا دفنه، فلما دفنوه وهم منصرفون سمعوا عظامه وهي تتكسر في قبره، فسألوا والده عنه، فقال: كان يتهاون في أداء الصلاة، يصلي يوما ولا يصلي يوما آخر، فانظروا إلى عظم الأمر وفزع الموقف.
غير أنه لا تزال طائفة من الأمة منصورة ظاهرة على الحق، يأتون بما افترض الله عليهم، وينتهون عما نهاهم عنه، يحافظون على أداء هذه الشعيرة العظيمة مع جماعة المسلمين، ويحرصون على الزيادة في النوافل، لا يكادون يفترون عن التنفل، قليلا من الليل ما يهجعون، فهم عباد الرحمان وخاصته وهم الذين ثنا الله عليهم في كتابه، وكما قال العلامة السعدي رحمه الله:
يتقربون إلى المليك بفعله طاعاته والترك للعصيان
فعل الفرائض والنوافل دأبهم مع رؤية التقصير والنقصان
بهذا أكون قد وصلت إلى الختام، فأسأل الله القبول والثبات، وأن يرزقنا الإخلاص والعمل، إنه هو القادر على ذلك.
كتبه الفقير إلى عفو ربه الطالب: عبدالله بن أحمد بوقليع
...المزيد

العلم والعلماء وبيان حال العلم في هذا الزمن إنَّ أمتنا الإسلامية أمة أمجاد وحضارة وتأريخ وأصالة ...

العلم والعلماء وبيان حال العلم في هذا الزمن
إنَّ أمتنا الإسلامية أمة أمجاد وحضارة وتأريخ وأصالة ازداد سجلها الحافر عبر التأريخ بكوكبة من العلماء الكرام، مثلوا عقد جيدها وتاج رأسها وذرية وافدها، كانوا في الفضل شموسا ساطعة وفي العلم نجوما لامعة، فعدوا بحق أنور هدى ومصابيح دجا تنير بمنهجها المتلألئ وعلمها المشرق الوفاض غياهب الظلم تُبَجِلها أنوار العلوم والحكم، وإنَّ المقصود بهؤلاء العلماء هم حملة العلم الشرعي، والفرق بين العلم الشرعي والعلم الدنيوي يتجل في أمور، منها: أنَّ العلم الشرعي لا يستند إلا لدليل من القرآن والسنة وأقوال سلف الأمة، وأنَّ العلم الشرعي لا يحتج بالعقل بل يحتج بالنقل، وأنَّ الخلاف في مسائل العلم الشرعي خلاف في الفروع وليس خلافا في الأصول، وغير ذلك كثير.
وإنَّ فضائل العلم الشرعي وحملته لا تكاد تنتهي، فمنها قول الله تعالى:" أو من كان ميتا فأحييناه وجلعنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها"، حيث يتبين لنا أنَّ العلم الشرعي نور يضاء به الطريق ويستنار به الدرب، ومنها قوله أيضا:" قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون"، ومنها قول رسول الله:" من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وإنَّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإنه ليستغفر للعالم من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء"، وجاء في حديث آخر:" وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ليلة البدر"، وقوله صلى الله عليه وسلم:" من يرد الله به خيرا يفقه في الدين"، وإنَّ العلماء هم ورثة الأنبياء وهم أقربهم إليهم في الجنة، كما جاء في الحديث:" من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيى به الإسلام فبينه وبين الأنبياء في الجنة درجة واحدة"، ومن فضائل طلب العلم أنّ رزق صاحبه مضمون في جميع أحواله كما قال رسول الله:" من تفقه في دين الله كفاه الله همَّه، ورزقه من حيث لا يحتسب"، ومنها أيضا مغفرة الذنوب يوم القيامة والخلود في الجنة، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي:" اذهبوا فقد غفرت لكم"، وإنَّي لأعرف كثيرا من العلماء الذين أفضوا إلى ربهم، فرأهم الناس في منامات يتنعمون في أنهار الجنة ويستظلون بظلها، وإنَّ كل هذه الفضائل خاصة بحملة العلم الشرعي ، فانظروا لهذا الفضل العظيم الذي خص الله به حملة دينه، وإنَّ الله حرم النار على من دب عن عرض أخيه المسلم فكيف بمن حمل دينه ودب عن عرضه سبحانه وتعالى، وغير ذلك كثير.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
كل العلوم سوى القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين
العلم ما كان قال فيه حدثنا وما سوى ذلك وسواس شيطان
ويقول العلامة ابن القيم رحمه الله:
العلم أقسام ثلاثة ما لها من رابع والحق ذو تبيان
علم بأوصاف الإله وفعله وكذلك الأسماء للديان
والأمر والنهي الذي هو دينه وجزاءه يوم المعاد الثان
ورغم كل هذه الفضائل إلا أننا نلاحظ عزوفا شديدا لشباب المسلمين من طلب العلم الشرعي، فتراهم يحرصون على دراسة الطب والهندسة أشد من حرصهم على تعلم دينهم، رغم تحقيق الاكتفاء في هذه المجالات ورغم حاجة الأمة إلى حملة الشريعة أشد من حاجتها إلى الماء والطعام، وترى الأولياء لا يوجهون أبناءهم ولو بكلمة ولا يحثونهم على طلب العلم الشرعي، بل وتراهم يزهدونهم فيه، بأقوال عدة فيها عبارات التنقص والاستهزاء، فمنها قولهم" هذا تخصص المتخلفين وأصحاب المعدلات الضعيفة" وكذا قولهم" ماذا تفعلون بعلم أصحاب العمامة البيضاء"، وغير ذلك كثير، وإنَّ هذا الكلام ليرجع بالضرر أكبر من النفع، فأصبحنا نسأل الشاب المسلم عن معنى" لا إله إلا الله"، فلا يحسن فهمها إطلاقا، وإذا سألته عن اللاعب أو المغني ليعطيك جميع معلوماته وجميع أوصافه وكأنه أبوه أو هو بحد ذاته، ولقد درست معي طفلة قبل 3سنوات، فسألتني عن خمس ممثلات، فرددت عليها بقولي: من هم أولو العزم من الرسل هم خمسة أيضا، فلم تقدر حتى على تحريك لسانها، فانظروا يا رعاكم الله إلى دنو المستوى، ولقد درستني أستاذة قبل سنوات فأخطأت في قراءة قوله تعالى:" مطاع ثمَ أمين"، فقرأتها:" مطاع ثُمَّ أمين"، فصححت لها فردت علي بقولها:" إنَّي لا أقرأ بأحكام الترتيل"، فكأنّ عقلي طار وذهب، منذ متى أصبح الخطأ اللغوي له علاقة بأحكام الترتيل، وإنّ هذه الطائفة من الناس التي عزفت عن طلب العلم الشرعي لا تعلم بأنها تقدم بصنيعها هذا أكبر خدمة لأعداء الدين، فلقد انتشر في الآونة الأخيرة بعض الأفكار الشنيعة والعقائد الهدامة بين أوساط المسلمين خاصة بين طبقات المثقفين، وذلك لأنهم ابتعدوا عن دينهم وهدي ربهم، فأصبحنا نرى أطباء علمانيين في مستشفيات المسلمين وذلك لضعفهم وجهلهم أمور دينهم، بينما في المقابل لن تجد شابا درج على طلب العلم الشرعي متأثرا بهذه الأفكار، وذلك لأنه محصن ومجهز بالحماية بالأدلة الشرعية الصحيحة، فأفيقي يا أمة الإسلام.
وإنَّ الأمة الإسلامية قد خسرت سبعة من علمائها في خلال هذين الشهرين في الحجاز والشام وتركيا، ولهذا فإنه ينبغي على شباب المسلمين أن يحرصوا على طلب العلم الشرعي من عند من بقي من العلماء ليحملوا بذلك نور الرسالة المحمدية، ويدبوا عن حياض الشريعة الإسلامية ويصونوها من الشوائب والبدع، وإنه ينبغي علينا أن ندرك يقينا أنه لا غنى للأمة عن علماء الشرعية إذ هم أساسها، وإنَّ فقدهم خسارة في وسط العالم الإسلامي، يقول الحسن البصري: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار، وقال الإمام الزهري: موت العالم نجم طمس، موت العالم ثلمة لا تسد، موت العالم كسر لا يجبر، وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن الشافعي بعد موته فقال: كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن، فهل لهذين من خلف أو عنهما من عوض.
وإني أقول من هذا المقام أن كل من تمكن في العلم الشرعي فإنه موفق لدراسة كل العلوم، إذ أنَّ أصل كل العلوم هو القرآن فهو المرجع وهو الأساس، يقول الله سبحانه وتعالى:" ما فرطنا في الكتاب من شيء"، ولقد أثبت الواقع ذلك فكل دراسة حديثة في أي مجال إذا دققنا النظر فإننا نجدها ترجع إلى القرآن الكريم، فيا أمة الإسلام امسحي الضباب عن العيون وتعلمي بعد النظر واقتدي بالسابقين من العلماء الأبرار لتعيشي في سعادة وأمان.
يقول عمر بن الخطاب: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإذا ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.
أكون بهذا قد أتممت ما وفقني الله لذكره في هذا البحث المتواضع، وأسأل الله أن يرزقني القبول والمتابعة، وأن يرزقنا العمل بالعلم إنه هو القادر عليه،
وهذا والله أعلم.


كتبه الفقير إلى عفو ربه
الطالب: عبدالله بن أحمد بوقليع.
...المزيد

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً