الأحدث إضافة

لا نَدَعُ هذه البيعة أبداً إن إقامة الدولة الإسلامية وإعادة الخلافة كانتا من أكبر الأحلام التي ...

لا نَدَعُ هذه البيعة أبداً


إن إقامة الدولة الإسلامية وإعادة الخلافة كانتا من أكبر الأحلام التي تراود المسلمين في كل مكان، يحدثون أنفسهم بها، ويتمنَّون لو يبذلون أنفسهم في سبيل الله كي يروا ما يحلمون به واقعا أمامهم، أو يكون لهم على الأقل مشاركة في تحقيق ذلك.

وقد منَّ الله على عباده المؤمنين بتحقيق هذه الأمنية العزيزة عليهم، فقامت الدولة الإسلامية لتحكم بشرع الله تعالى، وعادت الخلافة لتجمع كلمة المسلمين تحت لوائها، وتوافد المسلمون من كل مكان للاعتصام بجماعتها، ومبايعة إمامها، وقتال المشركين في صفوف جيشها.

لقد عرف الناس كلهم، لا المسلمون فحسب، فضلا عن أمراء الدولة الإسلامية وجنودها، أن قضية إقامة الدولة الإسلامية وإعادة الخلافة ستهزُّ دول الكفر هزّاً، وستدفع المشركين من كل حدب وصوب إلى أن يحتشدوا لقتالها، متحاملين على جراحهم، متناسين ما بينهم من نزاعات وصراعات وتضارب في المصالح، فواجب العصر عندهم أن يئِدوا الخلافة في مهدها، ويزيلوا شريعة الله من الأرض، لتعود كما كانت من قبل محكومة كلها بحكم الطاغوت، وهكذا هو حال الموحدين مع المشركين في كل زمان.

وقد روى جابر -رضي الله عنه- قصة بيعة الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم، فاشترط عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم- أن تكون بيعتهم على السمع والطاعة والنفقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى النصرة والمنعة، فوافق الأنصار على هذه الشروط، ومدُّوا أيديهم ليبايعوا رسول الله عليها، فمنعهم من ذلك أحدهم حتى يتبينوا نتيجة ما هم مقدمون عليه.

قال جابر: "أخذ بيده أسعد بن زرارة وهو من أصغرهم، فقال: رويدا يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن إخراجه اليوم منازعة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضَّكم السيوف، فإما أن تصبروا على ذلك وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم جُبنا، فبيِّنوا ذلك فهو أعذر لكم، فقالوا: أمط عنا فوالله لا ندع هذه البيعة أبدا، فقمنا إليه، فبايعناه، فأخذ علينا، وشرط أن يعطينا على ذلك الجنة" [رواه ابن حبان].

فعرف الصحابة الكرام ثمن هذه البيعة، وهو أن تحاربهم عليها العرب، ويُقتل في حربهم خيارهم، وأن تعضَّهم السيوف، كما عرفوا ربح هذه البيعة إن وفوا بشروطها، وهو الجنة، وعلى ذلك مضوا في بيعتهم، وثبتوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أظهر الله دينه، وأكمله، وأتمَّ عليهم نعمته، ورضي لهم الإسلام دينا، وعرف نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فضل الأنصار في ذلك، حتى قال: (لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس واديا وشعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض) [رواه البخاري].

وهذه حالنا اليوم نحن معاشر الموحدين جنود الدولة الإسلامية، فقد بايعنا الإمام الذي وليناه أمرنا على أن يقيم فينا دين الله، ويُحكِّم فينا شرعه، ويقود جماعة المسلمين بما يرضي رب العالمين، ويجاهد بنا الكفار والمشركين، ويرد عادية البغاة والمفسدين، وكنا نعلم يقينا أن هذا الأمر دونه خرط القتاد، وأن تعضَّنا السيوف، وتطعننا الرماح، وأن يرمينا العالم كله عن قوس واحدة، وهو ما كان، والحمد لله على كل حال.

فيا جنود الدولة الإسلامية، لم يصبكم في سبيل الله أكثر مما كنتم تتوقعون، مصداقا لقوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]، وما كان الجهاد كله فتحا للأمصار، وتمكينا في الأرض، واغتناما للأموال، وشفاء صدورٍ من الأعداء فحسب، بل هو فتن تُصب على رؤوس المجاهدين صبّاً من أعدائهم كي يرجعوهم عن دينهم، إلا الصابرين.

فلا تكونوا كالذين قال الله -تعالى- فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11]، واسألوا الله أن يبارك لكم بيعتكم لأمير المؤمنين على إقامة الدين، وقتال المشركين، فنِعم البيعة هي والله، لا ندعها أبدا، ولا نقيل ولا نستقيل، حتى يحكم الله بيننا وبين القوم الكافرين، والحمد لله رب العالمين.



* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 97
الخميس 23 ذو الحجة 1438 ه‍ـ
...المزيد

أوصاف المنافقين في القرآن الكريم إن من سنن الله -عز وجل- أن جعل الأيام دولا، فيكون النصر ...

أوصاف المنافقين في القرآن الكريم


إن من سنن الله -عز وجل- أن جعل الأيام دولا، فيكون النصر والظفر للمجاهدين تارة، ويكونان لعدوهم تارة أخرى، وفي كل خير لهم، قال الله في كتابه: {وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 74]، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم: (ما من غازية أو سرية تغزو فتَغنم وتَسلم إلا كانوا قد تعجلوا ثُلُثَي أجورهم، وما من غازية أو سرية تُخفق وتُصاب إلا تمَّ أجورهم) [رواه مسلم]، وإن من سننه -تعالى- أن المسلمين إذا علَت رايتهم وارتفع صرحُهم دخل في صفوفهم من ليس منهم، قال الله عز وجل: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّـهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة: 56]، وقال تعالى: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّـهِ وَغَرَّكُم بِاللَّـهِ الْغَرُورُ} [الحديد: 14]، إنهم المنافقون.


• الجهاد يفضح المنافقين

وإن هؤلاء وإن كان ظاهرهم مع المسلمين إلا أنهم {يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ} [آل عمران: 154]، فهم إذا دهم المشركون ديار الإسلام أساؤوا بالله الظن، وظنوا أن لن ينصر الله المؤمنين، {يَظُنُّونَ بِاللَّـهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154]، وإذا دارت رحى الحرب سعوا جاهدين للتخلف عنها، فإن أُذن لهم فرحوا بذلك، {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّـهِ} [التوبة: 81]، وإذا لم يؤذن لهم سعوا في تخذيل المسلمين وتخويفهم علَّهم يقعدون جميعا، قال تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّـهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 18]، ولمَّا كان القعود عن الجهاد بغير عذر علامة واضحة دالة على المنافقين، حيث قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ} [آل عمران: 167]، سعى هؤلاء جاهدين لاختلاق الأعذار، {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 86]، فمنهم من كان عذره شدة الحر، {وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ}، فأجابهم تعالى بقوله: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81]، {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي}، أي لا تفتني بإخراجي للقتال فإني لا أصبر على سبي بني الأصفر، فقال فيه الله تعالى: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49].


• يقولون إنّ بيوتنا عورة..

وفي غزوة الأحزاب، بعد أن اشتد البلاء على المسلمين، أمَّنَ النبي -صلى الله عليه وسلم- النساء والذراري في حصن بني حارثة لانشغال المجاهدين بالرباط والحراسة عن حمايتهم، ولم يستأمن النبي -صلى الله عليه وسلم- يهود بني قريظة عليهم فيُلحقهم بهم وكانوا يومئذ على العهد، لعلمه أن الكافرين لا عهد لهم، ولما كان حال المسلمين في تلك الغزوة ما ذكر الله من الزلزلة والبلاء، والخوف والفزع، كان تعلقهم بالله أشد، ويقينهم به أصدق، {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].

أما المنافقون فشكوا وارتابوا، وظنوا أن لن يُنجز الله وعده، فقال عنهم جل جلاله: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّـهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12]، ولم يكتفوا بذلك بل زادوا عليه الخذلانَ والإرجافَ، {وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب: 13]، أي ارجعوا إلى بيوتكم ولا تقاتلوا، {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ}، قال قتادة: "قالوا: بيوتنا مما يلي العدو ولا نأمن على أهلنا" [زاد المسير في علم التفسير]، فاحتج بعضهم بأن بيوتهم غير محصنة، فاستأذنوا النبي -صلى الله عليه وسلم- لحمايتها ومن فيها، فأخبر الله -عز وجل- بأن ذلك ليس بعذر، ونفى ما قالوا، فقال: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ}، وبين الدافع الحقيقي للاستئذان فقال: {إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب: 13]، فهم إنما أرادوا بذلك الفرار من القتل والقتال، والسيوف والنصال، خشية الموت أو الجراح، وأرادوا بذلك التستر بحماية العِرض من العدو.
...المزيد

• قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت وقال -تعالى- بعد ذلك: {قُل لن ينفعكُمُ الْفرارُ إن ...

• قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت

وقال -تعالى- بعد ذلك: {قُل لن ينفعكُمُ الْفرارُ إن فررْتُم من الْموْت أو الْقتْل وإذًا لا تُمتعُون إلا قليلًا} [الأحزاب: 16]، فهم وإن فروا من القتال، لا يسعهم الفرار من الموت، وإن نجوا من القتل فلا يمتعون إلا قليلا، وذكر الله أن الذي يخافون أن يصيب ذراريهم ونساءهم وإياهم لا يُردُ إن أراده الله، وأن ما أرادوه من الفرار والركون والقعود لا يُنال إن أراد الله غيره، وأن الله هو وليُهم إن ثبتوا، وهو الذي تكفل بنصرهم سبحانه، فقال تعالى: {قُلْ من ذا الذي يعْصمُكُم من اللـه إنْ أراد بكُمْ سُوءًا أوْ أراد بكُمْ رحْمةً ولا يجدُون لهُم من دُون اللـه وليًا ولا نصيرًا} [الأحزاب: 17]، وذكر الله في سياق الحديث عن المنافقين بعض أحوالهم، فذكر أنهم مُخذلون مرجفون، قل ما يقاتلون، فقال تعالى: {قدْ يعْلمُ اللـهُ الْمُعوقين منكُمْ والْقائلين لإخْوانهمْ هلُم إليْنا ولا يأْتُون الْبأْس إلا قليلًا} [الأحزاب: 18].

وهم كذلك أشحة على المساعدة ومد يد العون، يتمنون لو لم يكونوا مع المؤمنين إذا حوصروا وضُيق عليهم، ويتندمون على بقائهم مع المسلمين بعد أن حل المشركون بساحتهم، وقد قال فيهم الله جل جلاله: {يقُولُون لوْ كان لنا من الْأمْر شيْءٌ ما قُتلْنا هاهُنا} [آل عمران: 54]، إذا ضاق بالمسلمين الحال شل الخوف أركانهم، وإذا ذهب الخوف تراهم يلقون باللوم على المؤمنين، ويزعمون أنهم سبب ما هم فيه من ضيق وفزع، وقالوا لهم من الكلام ما يؤذيهم، قال -تعالى- في وصفهم: {أشحةً عليْكُمْ فإذا جاء الْخوْفُ رأيْتهُمْ ينظُرُون إليْك تدُورُ أعْيُنُهُمْ كالذي يُغْشىٰ عليْه من الْموْت فإذا ذهب الْخوْفُ سلقُوكُم بألْسنةٍ حدادٍ أشحةً على الْخيْر } [الأحزاب: 19]، وإن المنافقين إذا ذهب الضيق وتحقق وعد الله وأتى نصره، لا يكادون يصدقون ذلك من شدة خوفهم، ويخافون من كرة المشركين، ويتمنون أن لا يكونوا مع المؤمنين إن عاد المشركون، قال تعالى: {يحْسبُون الْأحْزاب لمْ يذْهبُوا وإن يأْت الْأحْزابُ يودُوا لوْ أنهُم بادُون في الْأعْراب يسْألُون عنْ أنبائكُمْ} [الأحزاب: 20].


• لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً

إن المنافقين يُظهرون للمؤمنين العون والسند، والنصرة والمدد، {ويحْلفُون باللـه إنهُمْ لمنكُمْ وما هُم منكُمْ} [التوبة: 56]، فإذا انشغل المسلمون بالإعداد لجهاد أعداء الله، تراهم منشغلين بحطام الدنيا الفانية، وشهواتها الزائلة البالية، عازفين عن الجهاد نافرين منه، كارهين للخروج في سبيل الله، {ولوْ أرادُوا الْخُرُوج لأعدُوا لهُ عُدةً ولـٰكن كره اللـهُ انبعاثهُمْ فثبطهُمْ وقيل اقْعُدُوا مع الْقاعدين} [التوبة: 46].

ومن لطف الله بالمؤمنين أن ثبط المنافقين فلم يخرجوا معهم للقتال، لما علمه من خذلان المنافقين وعظيم فتنتهم، وضعف بعض المسلمين وتأثرهم بكلام المنافقين المعسول، فإنهم {لوْ خرجُوا فيكُم ما زادُوكُمْ إلا خبالًا ولأوْضعُوا خلالكُمْ يبْغُونكُمُ الْفتْنة وفيكُمْ سماعُون لهُمْ} [التوبة: 47]، فإذا خرج المسلمون للقتال فأخفقت سريتهم وأصاب منهم العدو ترى المنافقين يحمدون الله على قعودهم ويلومون المسلمين على خروجهم، قال الله تعالى: {الذين قالُوا لإخْوانهمْ وقعدُوا لوْ أطاعُونا ما قُتلُوا} [آل عمران: 168].

ولو خرجوا للقتال مع المؤمنين فإنهم قل ما يقاتلون حقيقة، بل يثاقلون إلى الأرض فلا تراهم إلا في آخر الصفوف، وأبعد ما يكونون من العدو، فهم إنما خرجوا بحثا عن المغنم لا عن الأجر، وطلبا للنصر لا للقتل، قال تعالى: {وإن منكُمْ لمن ليُبطئن فإنْ أصابتْكُم مُصيبةٌ قال قدْ أنْعم اللـهُ علي إذْ لمْ أكُن معهُمْ شهيدًا* ولئنْ أصابكُمْ فضْلٌ من اللـه ليقُولن كأن لمْ تكُن بيْنكُمْ وبيْنهُ مودةٌ يا ليْتني كُنتُ معهُمْ فأفُوز فوْزًا عظيمًا} [النساء: 73].

إن المنافقين مما يزيد البلاء عند حلول الابتلاء، وإن مما يُطفئ نار فتنتهم هجرُهم، وعدم نقل الأخبار عنهم، إذ أنهم مردوا على التخذيل والإرجاف، وكذلك الشدةُ في الحديث معهم، والإغلاظُ عليهم، قال تعالى: {أُولـٰئك الذين يعْلمُ اللـهُ ما في قُلُوبهمْ فأعْرضْ عنْهُمْ وعظْهُمْ وقُل لهُمْ في أنفُسهمْ قوْلًا بليغًا} [النساء: 63].

لقد فضح الله تعالى المنافقين، وذكرهم بأوصافهم، وهم مستمرون على هذه الأوصاف في كل وقت وحين، ولا نزال نرى من يشابه المنافقين في أوصافهم وهو يميل إليهم شيئا فشيئا حتى يكون منافقا خالصا، إلا أن يتوب، ويؤمن بالله العظيم.


* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 97
الخميس 23 ذو الحجة 1438 ه‍ـ
...المزيد

الهجرة إلى الله ورسوله قال ابن قيم الجوزية -رحمه الله- في الرسالة التبوكية: لما فصلت عير ...

الهجرة إلى الله ورسوله


قال ابن قيم الجوزية -رحمه الله- في الرسالة التبوكية:

لما فصلت عير السَّير، واستوطن المسافر دارَ الغُربة، وحيل بينه وبين مألوفاته وعوائده المتعلقة بالوطن ولوازمه، أحدث له ذلك نظراً آخر، فأجال فكره في أهم ما يقطع به منازل سفره إلى الله ويُنفق فيه بقية عمره، فأرشده من بِيَدِه الرُّشد إلى أن أهمَّ شيء يقصِده إنما هو الهجرة إلى الله ورسوله، فإنها فرض عينٍ على كل أحد في كل وقت، وأنه لا انفكاك لأحد من وجوبها، وهي مطلوب الله ومراده من العباد.

نوعا الهجرة
إذ الهجرة هجرتان:

هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، وهذه أحكامها معلومة، وليس المراد الكلام فيها.

والهجرة الثانية هجرة بالقلب إلى الله ورسوله، وهذه هي المقصودة هنا، وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية، وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعة لها، وهي هجرة تتضمن (من) و(إلى):
فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته.
ومن عبودية غيره إلى عبوديته.

ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه.

ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له، إلى دعاء ربه وسؤالِه والخضوع له والذلِّ والاستكانة له.

وهذا هو بعينه معنى الفرار إليه، قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50]، فالتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه.

• الفرار إلى الله

وتحت (من) و(إلى) في هذا سرٌّ عظيم من أسرار التوحيد، فإن الفرار إليه -سبحانه- يتضمن إفراده بالطلب والعبودية، ولوازمها من المحبة والخشية والإنابة والتوكل وسائر منازل العبودية، فهو متضمن لتوحيد الإلهية التي اتفقت عليها دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

• الفرار من الله

وأما الفرار منه إليه، فهو متضمن لتوحيد الربوبية وإثبات القدر، وأن كلَّ ما في الكون من المكروه والمحذور الذي يفِرُّ منه العبد، فإنما أوجبَته مشيئة الله وحده، فإنه ما شاء الله كان ووجب وجودُه بمشيئته، وما لم يشأ لم يكن، وامتنع وجودُه لعدم مشيئته. فإذا فرَّ العبد إلى الله فإنما يفِرُّ من شيء، إلى شيء وُجد بمشيئة الله وقدره، فهو في الحقيقة فارٌّ من الله إليه.

ومن تصوَّر هذا حق تصوُّرِه فهِم معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وأعوذ بك منك) [صحيح مسلم]، وقوله: (لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك) [رواه الشيخان].

فإنه ليس في الوجود شيء يُفرُّ منه ويستعاذ منه ويلجأ منه إلا هو مِن الله خلقاً وإبداعا.

فالفارُّ والمستعيذ: فارٌّ مما أوجبه قدر الله ومشيئته وخلقه، إلى ما تقتضيه رحمتُه وبِره ولطفه وإحسانه، ففي الحقيقة هو هارب من الله إليه، ومستعيذ بالله منه.

وتصوُّر هذين الأمرين يوجب للعبد انقطاع علقِ قلبه من غير الله بالكلية خوفاً ورجاء ومحبة، فإنه إذا علم أن الذي يفِرُّ منه، ويستعيذ منه إنما هو بمشيئة الله وقدرته وخلقه، لم يبق في قلبه خوفٌ من غير خالقه ومُوجده، فتضمَّن ذلك إفراد الله وحده بالخوف والحبِّ والرجاء، ولو كان فراره مما لم يكن بمشيئة الله ولا قدرته لكان ذلك موجباً لخوفه منه، مثل من يفرُّ من مخلوق آخر أقدر منه، فإنه في حال فراره من الأول إلى الآخر خائف منه حذر أن لا يكون الثاني يُعيذه منه، بخلاف ما إذا كان الذي يفِرُّ إليه هو الذي قضى وقدَّر وشاء ما يُفَرُّ منه، فإنه لا يبقى في القلب التفات إلى غيره بوجه.

فتفطَّن لهذا السرِّ العجيب في قوله: (أعوذ بك منك) و(لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك) فإن الناس قد ذكروا في هذا أقوالاً، وقلَّ من تعرض لهذه النكتة التي هي لُبُّ الكلام ومقصوده، وبالله التوفيق.

• الهجرة هجران ما يكرهه الله

والمقصود أن الهجرة إلى الله تتضمن هجران ما يكرهه وإتيان ما يحبُّه ويرضاه، وأصلها الحبُّ والبغض، فإن المُهاجر من شيء إلى شيء لا بد أن يكون ما يهاجر إليه أحبَّ إليه مما يهاجر منه، فيُؤثر أحبَّ الأمرين إليه على الآخر، وإذا كان نفس العبد وهواه وشيطانه إنما يدعونه إلى خلاف ما يحبه الله ويرضاه، وقد بُلي بهؤلاء الثلاث، فلا تزال تدعوه إلى غير مرضاة ربه، وداعي الإيمان يدعوه إلى مرضاة ربه، فعليه في كل وقت أن يهاجر إلى الله، ولا ينفك في هجرة حتى الممات.

• الهجرة بين القوة والضعف

وهذه الهجرة تقوى وتضعُف بحسب قوة داعي المحبة وضعفه، فكلما كان داعي المحبة في قلب العبد أقوى، كانت هذه الهجرة أقوى وأتمَّ وأكمل، وإذا ضعف الداعي ضعفت الهجرة، حتى إنه لا يكاد يشعر بها علماً، ولا يتحرك بها إرادة.
...المزيد

• الهجرة إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأما الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فمَعلَمٌ ...

• الهجرة إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)

وأما الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فمَعلَمٌ لم يبق منه سوى رسمه، ومنهج لم تترك بُنيَّات الطريق سوى رسمه، ومحجَّة سفَت عليها السوافي فطمست رسومَها، وأغارت عليها الأعادي فغورت مناهلها وعيونها، فسالكُها غريب بين العباد، فريد بين كل حيٍّ وناد، بعيد على قرب المكان، وحيد على كثرة الجيران...

والمقصود: أن هذه الهجرة النبوية شأنها شديد، وطريقها على غير المشتاق وعير بعيد.

بعيد على كسلان أو ذي ملالة
وأمَّا على المشتاق فهو قريبُ

فاسمع الآن شأن هذه الهجرة والدلالة عليها، وحاسِب نفسك بينك وبين الله، هل أنت من الهاجرين لها أو المهاجرين إليها؟

• حدُّ الهجرة إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)

فحدُّ هذه الهجرة: سفر الفكر في كل مسألة من مسائل الإيمان، ونازلة من نوازل القلوب، وحادثة من حوادث الأحكام، إلى معدن الهدى، ومنبع النور المتلقَّى من فم الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4].

والمقصود: أن هذه الهجرة فرض على كل مسلم، وهي مقتضى شهادة أن محمدا رسول الله، كما أن الهجرة الأولى مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وعن هاتين الهجرتين يُسأل كلُّ عبد يوم القيامة وفي البرزخ، ويطالب بهما في الدنيا، فهو مطالب بهما في الدور الثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار.

قال قتادة: "كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين؟" [تفسير الطبري]، وهاتان الكلمتان هما مضمون الشهادتين.

• تحكيم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في كل أمر

وقد قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء 65]، فأقسم -سبحانه- بأجل مقسم به -وهو نفسه عز وجل- على أنهم لا يثبت لهم الإيمان، ولا يكونون من أهله، حتى يحكِّموا رسوله في جميع موارد النزاع، وهو كل ما شجر بينهم من مسائل النزاع في جميع أبواب الدين، فإن لفظة (ما) من صيغ العموم، فإنها موصلة تقتضي نفي الإيمان إذا لم يوجد تحكيمه في جميع ما شجر بينهم.

ولم يقتصر على هذا حتى ضمَّ إليه انشراح صدورهم بحُكمِه حيث لا يجدون في أنفسهم حرجاً -وهو الضيق والحصر- من حكمه، بل يتلقوا حكمه بالانشراح، ويقابلوه بالقبول، لا أنهم يأخذونه على إغماض، ويشربونه على أقذاء، فإن هذا مناف للإيمان، بل لا بد أن يكون أخذه بقبول ورضى وانشراح صدر.

ومتى أراد العبد أن يعلم منزلته من هذا فلينظر في حاله، وليطالع قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه وغرضه، أو على خلاف ما قلَّد فيه أسلافه من المسائل الكبار وما دونها {بَلِ الأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14 - 15].

فسبحان الله! كم من حزازة في قلوب كثير من الناس من كثير من النصوص، وبودِّهم أن لو لم ترد؟ وكم من حرارة في أكبادهم منها؟ وكم من شجى في حلوقهم من موردها؟

ستبدو لهم تلك السرائر بالذي
يسوء ويخزي يوم تبلى السرائر.

ثم لم يقتصر -سبحانه- على ذلك حتى ضم إليه قوله تعالى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}، فذكر الفعل مؤكَّداً بمصدره القائم مقام ذكره مرتين، والخضوع له والانقياد لما حكم به طوعا ورضى، وتسليما لا قهراً ومصابرة، كما يُسلم المقهور لمن قهره كرهاً، بل تسليم عبد محب مطيع لمولاه وسيده الذي هو أحب شيء إليه، يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليمه إليه، ويعلم بأنه أولى به من نفسه، وأبرُّ به منها، وأرحم به منها، وأنصح له منها، وأعلم بمصالحه منها، وأقدر على تحصيلها.

فمتى علِم العبد هذا من الرسول صلى الله عليه وسلم، استسلم له، وسلَّم إليه، وانقادت كل ذرة من قلبه إليه، ورأى أنه لا سعادة له إلا بهذا التسليم والانقياد.

انتهى كلامه -رحمه الله- باختصار.


* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 97
الخميس 23 ذو الحجة 1438 ه‍ـ
...المزيد

الشيعة وقضية فلسطين

أساس موقفهم من قضية فلسطين أنهم كما لا يرون للمسجد الأقصى ولا بيت الله الحرام حرمة فهم أيضاً لا يرون لفلسطين ولا لسائر أمصار المسلمين التي ليست على نحلتهم ودينهم أي منزلة ومكانة؛ لأنها عندهم ليست من بلاد المسلمين، وإن كان يحكمها ويعيش فيها المسلمون ... المزيد

صوارف الدعاء

صوارف الدعاء وسط طبيعة الحياة الانشغالية المعاصرة والاتكاء شبه الكلي على الأسباب

Audio player placeholder Audio player placeholder

شخصيات قد تهتم بمتابَعتها

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً